أبعاد تبنّي النظام السياسي المعاصر للشذوذ
الأهداف والخلفيات
د. علي فضل الله
يبقى الإنسان إنسانًا، في سعيه إلى إرضاء ذاته، وفي سعيه إلى تسويغ استحصاله على ما يرضيه. وقد كانت رسالات السّماء حريصةً على تهذيب سلوك البشر هذا، كي لا تنتشر لازمة الإفساد التلقائيّ للجماعات عندما تضعف واسطة ارتباطهم بالغيب؛ لذلك كانت القيم السّائدة والمطبّقة بالقوّة ضروريّة للحؤول دون ميل الإنسان ميلًا عظيمًا إلى شهوات السّلطة والجسد. فمن دون هذه القيم؛ فإنّ انتشار التهتّك الأخلاقيّ يصبح هو القاعدة، لاسيما مع ارتخاء فضيلة تحمّل المسؤوليّة وخوف النّخب الأوليغارشيّة من خسارة سلطاتها، عندما يُدمج هذان العاملان، وتنتشر أنواع الشذوذ كلّها.
غالبًا؛ ما ترافقت الحقبات الأخيرة من عمر الامبراطوريّات بانتشار الفساد الأخلاقي. ويصبح الأمر مفهومًا مع انتهاء عهود الأجيال المؤسِّسة والحريصة والمضحيّة، وانفلاش الفساد بكلّ أنواعه، خصوصًا مع عدم فعاليّة مكافحته. في الغرب الحالي، تتكرّر المعزوفة نفسها، وهم بين خيارين: إمّا إعادة بناء مجتمعهم وفاقًا للقواعد المسمّاة تقليديّة، أو الاندفاع من دون هوادة إلى تكوين شعوب مفكّكة لا يوجد فيها مجتمعات متماسكة.
صرف انتباه الشّعوب إلى الملذّات
أيضًا، فإنّ من قواعد العمل السّياسيّ- الأمنيّ المعروفة هو سعيّ الحاكمين الخالين من الفضائل إلى تعزيز قبضة سلطانهم بإضعاف احتمالات التمرّد الشّعبيّ عليهم. كيف يكون ذلك؟ يكون من خلال استنزاف طاقات المجتمع بعدّة تكتيكات تهدف إلى تشتيت عزمه وروحه. وهذا ليس صعبًا، فالشعب؛ كما يقول جان جاك روسو: “كثيرًا ما يُخدع”[1]. الشّاب ذو الهويّة الواضحة والمنسجم مع نفسه يشكّل خطرًا، أما الشّاب الضائع في معاركه مع ذاته وملذّاته فهو يشكّل عنصرًا انفعاليًا خامدًا. إنّ إشغال النّاس في حاجاتهم، وخلق نسق إشعال قضايا عامّة للجدل العقيم في كلّ مرحلة، وفتح المجال لتجّار الفساد لاستباحة السّياحة والإعلام ومنصّات التّواصل ونشر المجون، فهي طرق أثبتت فعاليّتها في أن تكون الأفيون الحقيقيّ للشعوب.
قبل سنوات، سعت قبرص للانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ، فرُفضَ طلبها. فقد كان شرط قبول عضويّتها في الغرب الجماعي هو قوننة الشّذوذ، وهذا ما كان. اليوم، إذ ترد معلومات عن اشتراط هيئات دوليّة ومنظّمات غربيّة وجمعيّات غير حكوميّة تغيير القوانين المانعة للشذوذ وتطبيع العلاقة مع وجودهم للحصول على دعم ما. وهذا ليس بريئًا؛ بل هذه قرارات سياسيّة واضحة.
إذ يشكّل تطبيع الشّذوذ، اليوم، قصّة نجاج غربية، حيث تمكنّوا من إقناع شرائح مدينيّة معيّنة بأمر لم يكن متخيلًا إمكان تمريره قبل سنوات قليلة. فقضيّة مخالفة للطبيعة، مثل الشّذوذ الجنسي، ليس سهلًا الترويج لها، إذ يتطلّب الأمر عقودًا قبل الوصول إلى هذه المرحلة من التردّي، حيث أُوجد قاموس كامل من الكلمات كامل لهذه الفئة، فأصبح عسيرًا إبداء الاعتراض على وجودهم في عدد من الدّول.
أين الأمم المتّحدة؟ وأين الكنيسة؟
منظّمة الأمم المتّحدة هي مؤسسة أمميّة، ويُفترض بها التّعبير عن رأي أغلبيّة أمم الأرض. بعد حوالي ثمانية عقود على إنشائها. ولكن من خلال استعراض قراراتها وعملها ووثائقها ولغتها، نجد بجلاء أنّها منظّمة غربيّة الهوى والخطاب إلى حدّ بعيد. فمن الصّعب أن تلحظ أداءً مختلفًا للأمم المتّحدة عن الخطاب الغربيّ السّائد في نصوصها وقراراتها، بالرغم من أنّها تضمّ ممثلين عن دول العالم. فالصّوت الغربيّ والتفضيلات الغربيّة ومراكز الثّقل في الخطاب كلّها غربيّة، فمن الصّعب أن تجد نصًا من نصوصها يختلف عن أي نصّ تصدره مؤسّسة غربيّة أخرى ذات صلة.
لذلك؛ يفتقد العالم دورًا لمنظّمة الأمم المتّحدة وأجهزتها في خصوص التّصدّي لفرض الشّذوذ في العالم، وإرهاب من يرفضه من ثقافات أخرى. إنّ دور مؤسّسات مثل الأونيسكو ومكاتب الأمم المتّحدة وتصريحات أمينها العام ونشاط الهيئة العامّة وجهود الاتفاقيّات الدّوليّة كلّها لا تطأ موطئًا يغيظ الغرب، إلّا ما ندر. ففي اتفاقيّة “سيداو”، مثلًا، أبرزت الأمم المتّحدة جانبًا حقوقيًا، محلّ نقاش، حول المرأة، وهو كان انعكاسًا واضحًا للمشكلات نفسها التي يطرحها الغرب حول المرأة. نعم؛ هناك دول تتحفّظ على مواد في الاتفاقات والمعاهدات الصّادرة عن الأمم المتّحدة، وهذا حقّ طبيعيّ، لكن أثر التّحفظ في المجال العام محدود.
كما تغيب الكنائس عن ساحة المواجهة الفاعلة للشذوذ، بالرّغم من أنّ الكتاب المقدس ينهى عنه. لا تكفي بضع كلمات هنا وهناك؛ بل نُقل عن بابا الفاتيكان الحالي تصريحاته الأخيرة بأنّ “المثليّة الجنسيّة ليست جريمة، منتقدًا القوانين التي تجرّم هذه الممارسة واصفًا إياها بأنّها “غير عادلة”! نعم؛ نجد أنّ موقف كنيسة موسكو الأرثوذوكسيّة أقوى في الدّفع نحو حماية مركزيّة الأسرة ورفض الانحرافات في هذا الإطار. في الواقع، فإنّ أغلب شعوب الأرض معارضة للشّذوذ الجنسيّ، لكنّ صوت مجابهة آلة الإعلام والأكاديميا الغربيّة خافت، خصوصًا في الحروب الحقوقيّة الثقافيّة.
آثار البروتستانتيّة ودعاوى اللّيبراليّة
تاريخيًا، نشأت اللّيبراليّة من أساس بروتستانتيّ، في الحركة الاعتراضيّة القويّة على الكنيسة الكاثوليكيّة. فطالبت حركات الإصلاح الدّينيّ بجعل العلاقة مع الله تعالى أمرًا يحدّده الفرد، وهو ما تطوّر لاحقًا للحديث عن الحريّات بتفسير خاص وضيّق. من ضمن الفكر المسمّى “ليبراليّ” لدينا اللّيبراليّة الاجتماعيّة، وهي المرادف المعاصر لكلمة “الفسق”. هنا؛ لا بأس من التّدقيق. صحيح أنّ التغيّرات المجتمعيّة يكون لها أسباب عديدة، إلّا أنّ أحد أهم “المتغيّرات المستقلّة” تكمن في القرارات السّياسيّة وتوازنات القوى التي تدفع لدعم أو الضغط على بنى اجتماعيّة أو سلوكيّة وأخلاقيّة. في “الحقيقة، كانت التحولّات في موازين القوى ما بعد الحرب الباردة مصدرًا للتغيّرات في الهويّة الرّاهنة أكثر منها للتقنيّات الإعلاميّة[2].
إذ إنّ القوانين في الغرب تتشدّد عندما يتعلّق الأمر بعائد ضريبيّ لدولة مثلًا، لكنّها من دون أي منطق تتسامح؛ بل وتحمي انحرافًا شاذًا يمارسه فرد أو مجموعة، فيتمّ إعلاء مسألة المسؤوليّة في ما يمسّ بوضوح المجال العام من جانب، ومن جانب آخر يتمّ تعزيز التهرّب من المسؤوليّة في ما يعني بناء الأسرة والإنجاب والتربية السّليمة وغيرها. فالزّواج الطبيعيّ بين الرّجل والمرأة يرتّب التزامات طويلة الأمد عليهما، وعليه؛ فإنّه كان من المتوقّع انتشار الشّذوذ لما فيه من انعدام مسؤوليّة حقيقيّة. ولم يتوقف الأمر هنا، فلو افترضنا أنّ الميول المنحرفة ليست منحرفة، فلماذا التّرويج لها بهذه القوة؟ ولماذا تُنفق الأموال الطائلة للدّعاية لها؟ ولماذا تُسنّ كلّ هذه القوانين لحمايتها دون غيرها من “الحقوق”؟ ولماذا حوّلها الغرب إلى شغله الشّاغل بهذا السّعار الغريب؟ ولماذا يفرضها على الشّعوب الأخرى، ويشترط دعمه الاقتصاديّ والسّياسيّ والعسكريّ بتشريعها؟ باختصار، لماذا كلّ هذا الاهتمام بنشر الشّذوذ، تحت عناوين حقوقيّة؟
في الواقع، أغلب حقوق البشر منتهكة، فهناك ما يقرب من مليار جائع في العالم لا يذكرهم أحد. هذا ليس مهمًا؛ بل المهمّ تسليط الضوء على زاوية معينة وملأ الدنيا صراخًا من أجلها! هذا بالتحديد قرار سياسيّ وأمنيّ يقع في خطيئة تأييده البعض، خصوصًا لأولئك الذين تلقّوا ثقافتهم وفهمهم للحياة من مصادر غربيّة. فقد “كان ردّ الفعل الأوّل لأغلب الّذين حصلوا على تعليم على النمط الغربيّ هو إحساس هائل بالدّونيّة في وجه السّيطرة السّياسيّة للقوى الغربيّة”[3].
نتائج تراجع الغرب
ربطًا بما ذُكر أعلاه، فإنّ الغرب المعاصر يتراجع، وتعيش نخبه خوف فقدان المزايا التي تمتّعوا بها لقرون قليلة سابقة، وهم يعرفون بأنّ انهيار الغرب يعني عودتهم إلى عصور مظلمة جديدة، وقد تطول هذه المرّة. لا يملك الأوروبيّون، ومعهم الغربيّون الجدد، في شمال قارة غرب الأطلسيّ ثقلًا تاريخيًا يُشعرهم بثبات إمكان عودتهم إلى العزّ من جديد كباقي الأمم. هم استولوا على تاريخ جنوب أوروبا المتوسطيّ، ونسبوه لأنفسهم في شمالها، للقول بأنّهم حضاريون أبدًا، وهذا ليس دقيقًا. فالغرب يتراجع، والأهم، فإنّ استفاقة باقي شعوب العالم الأخرى تتسارع. قد لا يكون التراجع الغربيّ مؤدّيًا للانهيار في المدى المنظور، إلاّ بجنون نووي محتمل، لكنّه يسير وفاقًا لمعدّلات واضحة. فما هو الحلّ الذي تمتلكه نخبٌ لم يعد لديها الكثير لتبهر به العالم كما في السّابق؟
الحلّ هو نشر الفوضى الاجتماعيّة، وإضعاف عزم شباب العالم بالتهتك المعولم، فلا يقدرون على التّفكير خارج الصندوق الماجن، فيدفع رفاه البشر عقودًا إضافيّة من عمره ثمنًا للانسياق الأعمى وراء دعاوى الشّذوذ وغيرها. فقد بات الاستثمار في الفوضى أكثر ضمانًا لهؤلاء من استكشاف طرائق هيمنة جديدة إلى حدّ أنّ السّياسة “قد تختفي وتُستبدل بوضع الفوضى أو الحرب؛ حيث السّلطة السّياسيّة – فكرة الدولة – تصبح وهمًا مجرّدًا”[4]؛ كلّ ذلك في سبيل الحؤول دون تسارع تراجع الغرب.
الأسباب نفسها التي توصل البعض للمجازفة بانتحار نووي متبادل بين الشرق والغرب، تتقارب مع الأسباب السّياسيّة والأمنيّة التي تدفع أوليغارشيات الغرب اللّيبراليّة لضرب ما تبقّى من أخلاق أسريّة وقيم اجتماعيّة محافظة. فقد أصبح خطر القيم المحافظة كخطر أسلحة الدّمار الشّامل، لاسيما إذا كانت هذه المحافظة مرتبطة بأحكام عقديّة دينيّة فعّالة.
قبل مدّة- من كتابة هذا المقال- تحدّث الرّئيس الفرنسيّ “أيمانويل ماكرون” وقال: “لا تكمن نهاية الهيمنة الغربيّة في التّدهور الاقتصاديّ ولا في التّدهور العسكريّ؛ بل في التّدهور الثقافيّ”. هذا صحيح، فآخر أوراق الهيمنة هي الهيمنة الثقافيّة؛ ولذلك يوضع فيها كلّ هذا الاستثمار. لم يعد الغزو العسكريّ لشعوب الجنوب خيارًا متاحًا، لأسباب عدّة، منها ما يتحدّث عنه مدير مجلس الاستخبارات الوطنيّ الأميركيّ السّابق “جوزيف ناي” حول أثر تقدّم العلم والتكنولوجيا التي صنعت “تزايدًا تدريجيًا في التكاليف السّياسيّة والاجتماعيّة لاستخدام القوّة العسكريّة من أجل الغزو”[5]. لكنّ السّبب الأهمّ هو تراجع قدرة الغرب وقوّته الصّلبة والنّاعمة، بالرّغم من حجم الاستثمار الكبير له في هذين المجالين، مع نجاحات لا تبدو أنّها ستدوم طويلًا. ما يتبقّى هو الإبهار بالنموذج؛ وهنا يمكن الاستثمار الأخير للغرب.
الخلاصة
آلة الغرب الإعلاميّة كبيرة، ولدى قواه المركزيّة قدرة الوصول إلى وسائل التحكّم التي يموّلها نظام تحويلات ماليّة يتهدّده الخطر. يقول “هانس مورغنثاو”- وهو من أشهر منظّري الواقعيّة- أنّه: “لا تُدار السّياسة الخارجيّة بالأسلحة التقليديّة للدبلوماسيّة والقوّة العسكريّة فقط؛ بل أيضًا بسلاح الدّعاية الروائي”[6]. هذه القدرة العالية على الدّعاية في زمننا المعاصر، والتي يقود زمامها الغرب، تتيح لمراكزه السّياسيّة دفع العالم نحو مسارات لا يريدها من النّواحي الأخلاقيّة والسّلوكيّة.
لن ينجح هذا المسار، فسنن التّاريخ بين أيدينا، فالشّذوذ ليس أمرًا جديدًا؛ بل له تاريخ ضارب في القدم، ودائمًا كان الشّذوذ الجنسيّ شذوذًا في التّاريخ، والتّاريخ دائمًا يثبت أنّ الحكم لا يدوم مع الظلم، وأحد مصاديق الظلم الفساد والإفساد الاجتماعيّ. في هذا الصّدد؛ يقول “توماس كون”: “قد تنتهي الأزمات مع ظهور مرشح معرفي جديد”[7]؛ وهذا هو المتوقّع.
المصادر والمراجع
- جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة: ذوقان قرقوط، دار القلم، بيروت، لا ت.
- جوزيف ناي، القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة: محمد البجيرمي، العبيكان، الرياض، 2007م.
- Hans Morgenthau, Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace, McCraw Hill, Boston, 1985.
- P. Eric Louw, The Media and Political Process, Sage Publications, London, 2005.
- Peter Steinberger, The Idea of the State, Cambridge University Press, New York, 2004.
- Sachiko Murata and William Chittich, The Vision of Islam, Paragon House, New York, 1994.
- Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolution, University of Chicago Press, Chicago, 1970.
[1] – جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ص 68.
[2] – P. Eric Louw, The Media and Political Process, p 183.
[3] – Sachiko Murata and William Chittich, The Vision of Islam, Paragon House, p 331.
[4] – Peter Steinberger, The Idea of the State, p 232.
[5] – جوزيف ناي، القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ص 43.
[6] – Hans Morgenthau, Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace, p 164.
[7] – Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolution.p 84.
تمرير الشّذوذ الجنسيَّ في الأنمي والمانجا والألعاب الإلكترونيّة
مجتمعاتنا العربيّة، على مرّ التّاريخ عانت ما عانته من حروبٍ وتحدّيات عقيمة، ولكن ما نتعرّض…