التحوّل الجنسيّ بين الضّرورة البيولوجيّة وفسخ الهويّة الطّبيعيّة
د. سهام محمّد عزوز
منذ الميلاد، يمكننا أن نحدّد جنس الطّفل؛ ذكرًا كان أم أنثى، من النّاحية التّشريحيّة. وهذا ما سوف يتعزّز فيما بعد، بالطّريقة الّتي يعبّر بها الفرد عن نفسه في علاقاته مع الآخر، إذ إنّ الهويّة الجنسيّة لا تقتصر فقط على المعطيات البيولوجيّة الفطريّة، عبر التّفاعل التّام بين المعطيات الفطريّة وتلك الاجتماعيّة، والثّقافيّة وحتّى النّفسيّة. فالطّابع الجنسيّ لدى الفرد يتحدّد من ثلاثة مظاهر أساسيّة مميزّة هي: الهويّة الجنسيّة، التّوجّه نحو الآخر والتّفضيل الجنسّيّ انطلاقًا من الرّغبة والانجذاب نحو شخص من الجنس الآخر، أو من نفس الجنس- و الممارسة الجنسيّة. هذه المظاهر الثّلاثة تتطوّر مع الوقت، وتتخّذ حالها النّهائيّة في مرحلة الرّشد. فإذا سار الأمر بشكل سويّ، اتّسقت الهويّة الجنسيّة بجانبيها الموضوعيّ والذّاتيّ، وتمكّن الفرد من تركيز هويّة جنسيّة سويّة. غير أنّ الاختلال في عمل هذه السّيرورة، يُنتج تناقضًا بين الجنس البيولوجيّ التّشريحيّ، ورغبات الفرد المعبّر عنها في الرّغبة بأن يكون من الجنس الآخر، وهو ما نسمّيه” اضّطراب الهويّة الجنسيّة” الّذي له أثر كبير على التّوافق النّفسيّ للفرد مع نفسه وفي علاقاته مع الآخرين.
في المقابل ، تحدّد الهويّة الجنسيّة إلى أيّ مدى يعرّف كلّ شخص عن نفسه على أنّه ذكر أم أنثى أم مزيج من الاثنين. إنّها المرجع الدّاخلي الّذي تطوّر مع الوقت، والّذي يسمح للأفراد بتنظيم الإحساس بالذّات والتّصرّف اجتماعيًّا وفاقًا لتصوّر جسدهم وجنسهم. تُحدّد الهويّة الجنسيّة الطّريقة الّتي يختبر بها النّاس جنسهم، وتساهم في إحساسهم بالهويّة والتّفرّد والانتماء. من هذا المنطلق، يُعرَّف” اضّطراب الهويّة الجنسيّة” بأنّه التّناقض بين النّمط الظّاهريّ الجسديّ والجنس؛ بمعنى آخر، التّعريف الذّاتيّ كرجل أو امرأة. وتُعرف مواجهة هذا التّناقض باسم “خلل الهويّة الجنسيّة”، فيُطلق على الشّكل الأشدّ تطرّفًا، حيث يقوم النّاس بتكييف نمطهم الظّاهريّ لجعله متناسقًا مع هويّتهم الجنسيّة، من خلال استخدام الهرمونات، وخضوعهم للجراحة، لتحقيق التحوّل الجنسيّ. ويُشار إلى الأفراد الّذين يعانون هذه الحال بـ” المتحوّلين جنسيًّا”؛ أيّ الرّجال المتحوّلين (من امرأة إلى رجل) والنّساء المتحوّلات (من رجل إلى امرأة).
لقد وضع الباحث” روبرت ستولر،”في كتابه” الجنس والجندر”[1]، أسسًا للتّمييز بين الجنس التّشريحيّ والفسيولوجيّ للفرد، كونه رجلًا أو امرأة، والهويّة الجنسيّة الّتي تجمعها الذّكورة والأنوثة فيه. فعرّف تغيير الجنس على أنّه”: الاقتناع بشخص طبيعيّ بيولوجيّ بالانتماء إلى الجنس الآخر”. أمّا عند البالغين، فيأتي هذا الاعتقاد، في الوقت الحاضر، مع طلب إجراء جراحة الغدد الصمّاء لتعديل مظهرهم التّشريحيّ إلى مظهر الجنس الآخر. وأشار إلى أنّ هناك قناعة لدى المتحوّلين جنسيًّا بالانتماء إلى الجنس الآخر، مع عدم الرّضا المستمرّ عن شخصيّاتهم الجنسيّة الأوليّة والثّانويّة، إضافة إلى شعور عميق بالرّفض، ورغبة صريحة في تغييرهم جراحيًّا. وبشكل عامّ، يُشار هنا إلى المتحوّلين جنسيًّا على أنّهم نساء يشعرن بأنّهنّ “محاصرات” في جسد الرّجل، والعكس صحيح. إضافة الى ذلك، يرى بعض الباحثين في هذا المجال، أنّ أحد المعايير الخمسة الضروريّة لتشخيص التحوّل الجنسيّ هو الرّغبة القويّة في التّشابه الجسديّ مع الجنس الآخر، بأيّ وسيلة متاحة، على سبيل المثال: كيفيّة ارتداء الملابس، أنماط السّلوك، العلاج الهرمونيّ والجراحة.
أمّا تاريخيًّا، فليست ظاهرة التحوّل الجنسيّ جديدة، حتّى وإن كثُر حولها الجدل في السّنوات الأخيرة بسبب ظهور التّمويل والدّعم لها من بعض الجهات الدّوليّة، وعلى رأسها الأمريكيّة، ليدخل العالم في لغط كبير وسوء فهم، وخلط بين حالات الاضّطراب الجنسيّ، أو ما يسمّى “اضّطراب الهويّة الجنسيّة”، وكلّ المشاكل والتّعقيدات المتعلّقة بها، من جهة، وبين التحوّل الجنسيّ وفاقًا لاختيار الفرد وقناعته الشّخصيّة بالتّغيير الجنسيّ، بسبب عدم رضاه أو عدم قبوله للوضع الّذي نشأ عليه، من جهة ثانية.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى المواقف المختلفة لعدد من العلماء والباحثين الّذين تناولوا حالي الاضّطراب في الهويّة الجنسيّة، وعدم الرّضا والرّغبة في التّغيير مهما كان الثمن. ونذكر منهم: عالم الغدد الصّماء الأمريكيّ” هاري بنجامين” الّذي قام بجمع ملاحظات حول تغيير الجنس ونتائج التّدخّلات الطّبيّة في كتابه “ظاهرة التّحوّل الجنسيّ”[2]. لقد اقترح مصطلح “متلازمة اضّطراب الهويّة الجنسيّة” في العام 1973، والّذي يتضمّن التّحوّل الجنسيّ، بالإضافة إلى اضّطرابات الهويّة الجنسيّة الأخرى. ويُستخدم اضّطراب الهويّة الجنسيّة في وصف حال عدم الرّضا النّاتج عن الصرّاع بين الهويّة الجنسيّة والجنس المحدّد. وفي العام 1980، ظهر التحوّل الجنسيّ على أنّه تشخيص، في” الدّليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضّطرابات العقليّة” في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وفي المراجعة التّالية لهذا الدّليل في العام 1994، حُذف مصطلح” تغيير الجنس”، واستُبدل بمصطلح” اضّطراب الهويّة الجنسيّة” (GID)، في وصف هؤلاء الأشخاص الّذين يُظهرون انجذابًا قويًّا للجنس الآخر، وعدم الرّضا الدّائم عن الجنس التّشريحيّ. وبعد ذلك استُبدل، أيضًا، في الدّليل نفسه، مصطلح” اضّطراب الهويّة الجنسيّة” بمصطلح “التّحوّل الجنسيّ”[3].
لقد ظهرت، في السّنوات الأخيرة، حركة مشبوهة بدت وكأنّها تروّج للتّحوّل الجنسيّ، والشّذوذ، على أنّه ثقافة اجتماعيّة، وسط حالٍ من الإرباك المجتمعيّ، الفكريّ والثّقافيّ في ّ مجتمعات العالم كلّها. أمّا من يروّج لهذه الثقافة، فهُم لوبيات من الأغنياء والمتنّفذين الّذين يمتلكون رؤوس أموال عالية أو شركات كبرى، أو مؤسسات تُعرف بالمؤسّسات “الخيريّة” و”الحقوقيّة”، وتعمل على نشر “السّعار الجنسيّ”، أو ما يسمّى” سيكس أسّايمنت سرجري ماركت” (Sex Assignment Surgery Market). وتسعى هذه الجهات المروّجة لتحقيق العديد من الأهداف، ومنها: نشأة التّعليم الجنسيّ الشّامل، فتح المجال لسوق الاتّجار بالبشر، وتجارة الجنس، إضافة إلى تشريع الإجهاض، وبيع أعضاء الأجنّة المجهضة. واللّافت، هو نجاح هذه اللّوبيات في فتح سوق جديدة في مجال جراحة التّجميل المرتبطة بالتّحوّل الجنسيّ، والتّسويق للأدوية الهرمونيّة المرتبطة أيضًا بإيقاف سنّ البلوغ لدى الأطفال، تمهيدًا للوصول إلى مرحلة التّحوّل الجديد.
وخلال نصف قرن تقريبًا، خرج الشّاذّون جنسيًّا، في العالم الغربي، من مخابئهم السّريّة، وانتقلوا إلى العمل العلنيّ المنظّم، ثمّ انتزعوا الاعتراف من الدّول، حكوماتٍ ومجتمعاتٍ وهيئاتٍ دوليّة، منها” المنظّمة العالميّة للصّحّة”[4] الّتي ألغت تعريف الشّذوذ الجنسيّ بأنّه: “مرض نفسيّ عقليّ”، ليصير عملًا سويًّا لا ضير فيه. وكذلك يأتي اعتراف هيئة الأمم المتّحدة بالتّنظيم الدّوليّ للشّاذيّن والسّحاقيّات يحمل شعارًا مهمًّا وخطيرًا وهو: ” نحن نعمل من أجل سلامة الأشخاص المثليّين ومساواتهم وحريّتهم، بالتّعاون مع ونيابة عن أكثر من 600 منظّمة أعضاء LGBTI (الشّاذّون والمتحوّلون جنسيًّا)، في أنحاء أوروبّا وآسيا الوسطى كافّةً. نحن قوّة دافعة للتّغيير السّياسيّ والقانونيّ والاجتماعيّ”[5].
لقد دعّم المثليّون والمروّجون لهذه الثّقافة، مسيرتهم عبر تكديس الإنتاج الأدبيّ، الفنّي، والإعلاميّ، وحتّى الرّياضيّ، فصارت لهم أدبيّاتهم ورموزهم، وألعابهم الأولمبيّة. ثمّ انخرطوا في العمل السّياسيّ، فصاروا نوّابًا برلمانيّين، عمداء مدن، وزراء، وزعماء أحزاب. وتحت شعار” تمكين الأطفال من التّمتّع بالحياة الّتي يستحقّونها”، بدأ المروّجون العمل بهذه الثّقافة على تهيئة الحلقة الأضعف في البنية الإنسانيّة، وهي الطّفولة، لتكون حلقة الاستهداف لهذه الثّقافة وأبعادها. فعمل المروّجون على جمع المقوّمات كلّها ورصدها: اللّوجستيّة، الإعلاميّة، والتّعليميّة، لضرب هذه الفئة الهشّة، وإغراقها في متاهات التّحوّل الجنسيّ. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل عملت هذه الجهات على توريط الكيانات والمنظّمات الدّوليّة (الأمم المتّحدة) كلّها في تجارة التّحوّل الجنسيّ، للإحاطة بالشّذوذ، والاعتراف به على أنّه ممارسات مقبولة في المجتمعات. ثمّ ركّزت هذه المنظمّات على حقّ الإنسان في تغيير جنسه من ذكر إلى أنثى والعكس بالعكس، أو ما يعرف بـ “ترانس جندلر”( (Transgender، والّذي كان ممنوعًا منعًا باتًّا في السّابق، ثمّ أصبح مسموحًا به لمن هم فوق سن 18 من دون موافقة الوالدين، ثم بعد ذلك، أصبح مسموحًا به لمن هم فوق 12 سنة، إلى أن وصلنا لمن هم بعمر 4 سنوات، والّذين أصبح لديهم الحقّ في اختيار البقاء على ما هم عليه أو التّغيير الكامل لجنسهم.
من هنا يُطرح السّؤال: هل التّحوّل الجنسيّ ضرورة بيولوجيّة فعلًا، كما سبق وأن روّجت بعض الأوساط الدّوليّة؟ أم تجارة السّوق، والرّأسماليّة الورديّة الّتي يروّج لها صنّاع الرّأسماليّة واللّيبيراليّة والعولمة الاقتصاديّة؟ وما الخطورة فيما تروّج له هذه الجهات، إن اعترفنا أنّ مسألة التّحوّل الجنسيّ هي مسالة حسّاسة هدفها الأساسيّ ضرب الصّحّة العامّة للمستهدفين، وفسخ الهويّة الإنسانيّة وتدميرها؟
وسط هذه الحال من الجدل العالميّ، حول خطورة التّعاطيّ بموضوع التّحوّل الجنسيّ، وأسبابه المعلنة من جهة، وغير المعلنة من جهة أخرى، سنتطرق في الجزء الأوّل إلى التّحوّل الجنسيّ بين الضّرورة البيولوجيّة والتّصحيح الجنسيّ، ثمّ في الجزء الثّاني، إلى مخاطر التّحوّل الجنسيّ وأهدافه المدمّرة .
- التّحوّل الجنسيّ: بين الضّرورة البيولوجيّة والتّصحيح الجنسيّ:
هناك الكثير من الأطفال الّذين يولدون بعيوب خلقيّة ظاهرة. وهنا لا يقف الأهل مكتوفي الأيدي، مستسلمين لإرادة اللّه في خلقه؛ بل يسارعون إلى أطبّاء التّجميل لمداراة عيوب أبنائهم، ويساندهم المجتمع في ذلك. ولكن، هناك أنواعٌ أخرى من العيوب الخلقيّة الّتي لا يعترف بها المجتمع، ويُعدّ الاقتراب منها لمحاولة إصلاحها من المحرّمات دينيّا، ومنها العيوب الخلقيّة في الأعضاء التّناسليّة، ما يسمّى “الأنترسيكس”، أو الإصابة بـ “اضطراب الهويّة الجنسيّة” (الترانس سيكس). وهؤلاء يحتاج بعضهم إلى علاج نفسيّ، والبعض الآخر إلى تدخّل جراحيّ فوريّ لتصحيح جنسه. وتكمن معاناة هؤلاء الأشخاص في أنّ هناك رسالة مسجّلة في المخّ تحدّد جنسهم الحقيقيّ، ورسالة أخرى يراها الشّخص نفسه، ويراها معه الآخرون.
فيما مضى، كان جنس المولود يُحدّد من شكل أعضائه التّناسليّة فقط، أمّا مع تطوّر العلم، اكتشف المجتمع أنّ هناك ظلمًا وقع على الكثيرين، ذلك أنّ معيار تحديد الجنس من شكل الأعضاء التّناسليّة، لم يكن كافيًا لتحديد هويّة جنس المولود، فهناك الهرمونات ونسبها، والغدد المسؤولة عن إفرازها. هنا، أضاف العلماء معيارًا جديدًا لتحديد جنس المولود، وهو الجينات والهرمونات وأماكن ووقت إفرازها. وبعد مدّة، تطوّر العلم والطبّ مرة أخرى، وأصبح بالإمكان رؤية ما بداخل الأحشاء. فاكتُشف إناثٌ بخصيتين داخليّتين في أحشائهنّ، وذكورٌ برحم، وإناثٌ بلا رحم ولا مبايض، وغير ذلك كثير ممّا لا يمكن رؤيته ولا معرفته إلّا بواسطة التّكنولوجيا.
وهنا، ظنّ المجتمع أنّ معايير تحديد الجنس قد اكتملت ولن يُظلم أحد بعد ذلك. ولكن، وبعد انقضاء سنوات طويلة، تطوّر العلم مرّة أخرى، فوجدوا إناثًا مكتملات الأنوثة، والمعايير السّابقة كلّها تثبت أنّهنّ إناث، ولكنّهنّ يحملن كروموسوم ذكريّ، وكذلك الحال بالنّسبة إلى الذّكور. وبعدها، اكتشفوا أنّ هناك حالات تحمل كروموسومًا لا هو ذكريّ ولا أنثويّ. ولكن عادت الدّراسات لتثبت أنّ المتحوّلين يحملون تركيبة عقل الجنس الّذي تحوّلوا إليه؛ لأنّ تركيبة البنية الكيميائيّة للمخّ تختلف من الذّكر للأنثى وفاقًا للتّحليلات الطّبّية المعروفة. فعندما يكون الجنين في الأسبوع الثّامن من الحمل، تبدأ هرمونات معيّنة بالتّواصل، والرّسالة تنطلق من المخّ إلى الغدّة التّناسليّة. ويفسّر العلماء ذلك، بأنّه في البداية، وقبل الأسبوع الثّامن من الحمل، تكون الغدد التّناسليّة غير مصنّفة. وكلّنا في هذه المرحلة لدينا القابليّة لأن نكون إناثًا أم ذكورًا من دون تصنيف، ولكن، عند انتهاء الأسبوع الثّامن من الحمل، يقوم المخّ بإرسال هرمونات معيّنة إلى الغدد التّناسليّة، لتذكيرها أو تأنيثها ، فتتحوّل بعد ذلك، إلى الجهاز التّناسليّ المؤنّث أو المذكّر. إنّ هذه الرّسالة تنطلق من المخّ إلى الأسفل وبعدها تعود إلى الأعلى. وأحيانًا، لا تعود إلى |لأعلى أو تعود جزئيًّا، حيث يكون السبب خللًا بيولوجيًّا. وفي الحقيقة تبدو الخطوات أكثر تعقيدًا من الشّرح، ولكن، لتبسيط الفكرة؛ يمكن القول إنّ ما يحصل هو: أنّ الرسالة ترسل ولكنّها تعاود الرّجوع جزئيًّا، وعندها يحدث الاضّطراب.
أ- من النّاحية العلميّة:
علميًّا، يُطلق اسم “مرض اضّطراب الهويّة الجنسيّة” المعروف باللّغة الأجنبيّة بـ”الترانسكس”، على التّحوّل الجنسيّ من ذكر إلى أنثى، أو العكس بالعكس . وهذا النّوع من المرض لم يكن معروفًا في الماضي، كما لم تكن عمليّات التّحويل الجنسيّ معروفة. لكنّ الأطبّاء اليوم يقولون إنّه مرض حقيقيّ معترف به في الموسوعات الطّبيّة المحترمة، وقد ورد في دائرة المعارف البريطانيّة عن مرض التّحوّل الجنسيّ إنّه : “اضّطراب في الهويّة الجنسيّة، يجعل المصاب به يعتقد إنّه من الجنس المعاكس”[6]. واللّافت، إنّ جمعيّات الشّذوذ في أميركا كانت ترفض انتساب المتحوّلين جنسيًّا إليها، لأنّ معظمهم لا يرغب في الجنس كمثليّة، فالذّكر المتحوّل جنسيًّا إلى أنثى، يرغب في تنظيم علاقاته مع الذّكور على أنّه أنثى، وفاقًا للأعراف والتّقاليد الّتي يظنّ أنّه يمكن الوصول إليها، لهذا، يطمح من مجتمعه أن يعامله معاملة الأنثى الطّبيعيّة، كما أنّه ليس مصابًا بالانحراف الجنسيّ الّذي يدفع الرّجل إلى ارتداء ملابس المرأة، أو المرأة إلى ارتداء لباس الرجل من قبيل التّشبّه، بل هو يرغب بالتّحوّل الكامل إلى الجنس الآخر. وهي رغبة لا فكاك منها؛ لأنّ مرض الترانسكس هو مرض فعليّ كما يصرّح المصابون به، وكما يقول الأطبّاء، وليس نزوة شيطانيّة. وقد ورد في دائرة المعارف البريطانيّة أيضًا : “يستمرّ هذا المرض لسنوات طوال، وعلى الأغلب العمر كلّه، مع خطورة تطوّره لاكتئاب والوصول به إلى الانتحار، وهو يبدأ في مرحلة مبكرة قبل البلوغ، اذ لا علاقة له بالرّغبات الجنسيّة، ويستمرّ حتّى إجراء الجراحة، وإن كان لا ينتهي تمامًا بعدها. ويقول أحد المصابين بهذا المرض: إنّه لا خيار له في هذا المرض؛ بل هو مصيبة نزلت على رأسه. من يدرس أعراض هذا المرض يجد أنّ أصحابه تصيبهم الأمراض النّفسيّة المصاحبة لهذا المرض، فهو مرض نفسيّ يؤدّي بالمريض إلى الانزواء والتّراجع، وتحمّل عذاباته الرّهيبة خوفًا من افتضاح حقيقته”.
العلاج النّفسيّ لهذا المرض لا يفيد، كما يقول بعض الأطبّاء، خاصّةً وأنّ معظم هذه الحالات لا تكتشف إلّا في مرحلة متأخّرة بعد البلوغ. كما أنّ المريض نفسه لا يعترف بأنّ مرضه نفسيّ،. بل إنّ فكرة التّحوّل إلى الجنس الآخر تصبح ملحّة عنده، وتسيطر على أفكاره كلّها، وتدفعه للّجوء إلى الجرّاحين. ويشير بعض الباحثين والأطبّاء إلى أنّه: “إذا كانت مهمّة الطبّ هي المحافظة على حياة الإنسان، فلماذا نعرّض هؤلاء المرضى للعذاب؟ ولماذا نحظّر عليهم شيئًا من حقّهم بصفتهم مرضى حقيقيّين؟ ونحن عادةً بصفتنا جرّاحين، لا نأخذ الحالات هكذا؛ بل نشترط خضوع المريض لإشراف الطّبيب النّفسيّ المباشر مدّة سنتين على الأقلّ. إنّ المتحوّلين جنسيًّا لا يستطيعون الإنجاب مطلقًا، لكنّ الأهمّ بالنّسبة إليهم أنّهم يستطيعون أن يعيشوا حياة زوجيّة سعيدة، ويشعرون بالرّاحة الشّديدة على نحو لا يوصف، ويستردّون اتّساقهم مع ذواتهم.”
لقد تبيّن لنا من هذا العرض العلميّ الموجز الّذي استقيناه من تحقيق موسّع حول هذا الموضوع أجراه “السيّد أسامة الرّحيمي” في القاهرة[7]، أنّ مرض الترانسكس أو التّحوّل الجنسيّ، هو انفصام حادّ بين النّفس والجسد، فيكون الذّكر كامل الذّكورة من حيث الأعضاء الظّاهرة، لكنّ إحساسه النّفسيّ مناقض لذلك تمامًا؛ فهو يحسّ بأنّه أنثى. كما تكون الأنثى كاملة الأنوثة من حيث الأعضاء الظّاهرة، لكنّها تشعر أنّها ذكر. فإذا تعذّر عن طريق المعالجة النّفسيّة، إنهاء هذا الانفصام، لن يعود أمامنا إلّا إجراء عمليّة التحوّل الجنسيّ، وذلك بهدف إعادة التكيّف بين النّفس والجسد، وهو أساس الصحّة النّفسيّة والجسديّة بحسب آراء الأطبّاء والعلماء. وطالما أننّا ما نزال نتحدّث عن التحّوّل الجنسيّ على أنّه ضرورة بيولوجيّة، فمن الطّبيعيّ أن نعرف أكثر، ما هو الفرق بين التّصحيح الجنسيّ والتّحوّل كما طرحه العلماء والباحثون.
ب- الفرق بين التّصحيح والتّحويل:
“التّصحيح الجنسيّ” مصطلح ينطبق على أولئك الّذين يعانون تشويهًا خلقيًّا في الأعضاء التنّاسليّة، كأن يكون هناك جهازان تناسليّان في آن واحد، أحدهما ذكريّ والآخر أنثويّ، أو يكون هناك جهاز مضمور وبحاجة إلى إظهاره، أو تكون كروموسومات الشّخص ذكريّة، في حين أنّ مظهره الخارجيّ أنثويّ، أو العكس، فهذه الحالة تكون مرضيّة، وينشأ عنها اضطراب في شخصيّة المريض، يتعدّى كونه مجرد اضطراب نفسيّ، فهناك تشوّه خلقيّ يؤثّر على الشّخصيّة، ما يستدعي عمليّة جراحيّة لتصحيح الجنس الغالب على الآخر.
وعلى النقيض من ذلك في بعض حالات “التحول الجنسي”، ليس هناك أي خلل خلقيّ؛ بل إنّ المسألة لا تتعدّى كونها حالًا سلوكيّة أو نفسيّة، تعتري الفرد لأسباب مختلفة، سواء أكانت بيئيّة أم تربويّة أم شهوانيّة وما إلى ذلك. وهذه الحالات ليست بحاجة إلى تصحيح جنس أو هويّة، لكنّها بحاجة إلى علاج نفسيّ، وغسيل فكر من تلوّث لحق بها. ويسمّى تغيير الجنس في هذه الحال تحوّلًا جنسيًّا؛ لأنّه ناتج فقط عن رغبة ذاتيّة، لا تستند إلى مسوّغات شرعيّة بحسب الضّوابط الطّبيّة.
لهذا يجب التّفريق جيّدًا بين الحالين، وليس ذلك من باب التّشجيع لحالات “التحول الجنسي” أبدًا؛ بل على العكس، علينا أن نفحص وندافع عن حالات إنسانيّة مرضيّة، بحاجة إلى علاج نفسيّ وشرعيّ بمختلف الوسائل، طالما أنّ المجتمع رفضها، لجهله وقلّة وعيه، وبوجود فتاوى في الفضائيّات لم تبحث الموضوع من جوانبه كلّها، على الرغم من وجود بعض التجارب، في بعض الدّول العربيّة والإسلاميّة الّتي نجحت في احتواء هذه الظّاهرة، مثل تركيّا وإيران ومصر. أمّا كيف يثبت أنّ حالًا معيّنة بحاجة إلى التّصحيح، ولا تنتمي إلى حالات الشّذوذ، فذلك لا يكون بمجرّد النّظر إلى المظهر الخارجي؛ بل يجب النّظر في التّقارير الطّبّية الّتي تثبت أنّ الشّخص مريض، وتسوّغ له تصحيح جنسه. مع العلم أنّ كلّ حال تختلف تمامًا عن الأخرى. وبعد فحص التّقارير الطّبّية المتعلّقة بكلّ حال، ينبغي الحصول على الفتاوى الشّرعيّة الّتي ترى وتُجيز القيام بتصحيح الجنس لها. ونحن نعلم جميعًا أنّ الإسلام أمرنا بالتّداوي والعلاج، لكن، هناك نظرة قاصرة للمجتمع بالنّسبة إلى بعض الأمور، فكثيرًا ما نواجه اتّهامات بأنّنا نقلّد أو نجاري الأجانب، أو أنّ العادات والتّقاليد تحكم أمورنا وتوجّه حياتنا، بعيدًا عن المنظور الشّرعي. فنحن لا نجاري أهل الغرب في كلّ أمر؛ لأنّ المسلم ينبغي أن يضع كلّ حال في محلّها الصّحيح، ويعالجها وفاقًا للضّوابط الطّبّية والشّرعيّة، ويستفيد من علوم غيره بما لا يتعارض والأسس الشّرعيّة، بغية أن نساعد من هو فعلًا بحاجة إلى المساعدة.
ج- دور الأسرة في التّحويل والتّصحيح:
للأسرة دور كبير في معالجة الخلل المتعلّق في الذّريّة- ذكورًا أم إناثًا- وهذا يكون من خلال تفهّم القضيّة من النّاحية الطّبّية التّخصّصيّة، وأيضًا السّلوكيّة، بعيدًا عن تحميل النّصوص الشّرعيّة في هذا المجال. فمن الخطأ الفادح، النّظر إلى قضيّة الخلل الوارد لدى بعض النّاس في جنسهم، ووجود الاضّطراب في تكوينهم، على أنّه تشبّه بالجنس الآخر، ويستلزم اللّعنة والطّرد من رحمة اللّه، ذلك أنّه لم يسع إلى هذا الأمر بمحض إرادته، ولا بشوق منه، ولكن، سبق قدر اللّه عليه لحكمة منه سبحانه.
أمّا ما يجعل حلّ المشكلة ممكنًا من البداية، فهو توفّر الفهم والوعي الكافيين لدى الوالدين في التعرّف إلى هذه القضيّة، وبذل الأسباب الطّبيّة في الكشف عنها، بعيدًا عن تغليب العاطفة الاجتماعيّة، واللّوم، وكأنّ مصيبة قد حلّت بالأسرة، ولا سبيل إلى حلّها أو معالجتها إلّا بالتّستّر عليها أو نبذها. وقد يلجأ بعض الآباء إلى معاقبة وليدهم، أو حرمانه أو طرده من البلد، ما يزيد المرض سوءًا، وأحيانًا لو تمكّن الأب من دفن هذا الوليد لفعل، لكنّه يلجأ إلى الضّرب والتّهديد، وهناك من رمى بـالمريض إلى دوائر الشّرطة ليعالجوا الخلل فيه. فالقضيّة في التّصحيح أو التّحويل، تكون وفاقًا لرأي أهل الطّبّ، وبعد الفحص والنّظر يمكن إصدار الفتاوى اللّائقة بمثل هذه الحالات المرضيّة، وتنجز العمليّات، ويتمّ تغيير الأوراق الرّسميّة المتعلّقة بالإنسان، وتنتهي المشكلة قبل أن تتفاقم، ولا يعرف الأبّ كيف يعالجها.
إنّ كثيرًا من النّاس الّذين يعانون اضطرابًا في الهويّة الجنسيّة، لا يرون مشاعرهم وتصرّفاتهم الجنسيّة المختلطة اضطرابًا. كما أنّ الأشخاص الّذين يعانون اضطرابًا في الهويّة الجنسيّة يتساءلون دائمًا، كيف يجب أن تكون الهويّة الجنسيّة الطّبيعيّة، أو الدّور الجنسيّ الطّبيعي؟ هناك اتّفاق واحد؛ وهو أنّ الخصائص الجنسيّة هي اجتماعيّة، وليس لها علاقة بالجنس البيولوجيّ. من هذا المنظور، يظهر أنّ الثّقافات الأخرى لا سيّما التّاريخيّة منها، كانت تُعدّ الأدوار الجنسيّة الّتي توحي حاليًا بالشّذوذ الجنسيّ وتغيير الجنس، سلوكًا عاديًّا. وهناك بعض الأشخاص الّذين يرون تغيير الجنس وسيلة للتّفكيك بين الجنسين. ولكنّ الأشخاص المتحوّلون ليسوا كلّهم ذوي رغبة في تفكيك الجنس (Gender dysphoria).
إذًا؛ فالمشكلة هي أنّ كثيرًا من النّاس لا يعرفون تحديدّا طبيعة مرض اضطراب الهويّة الجنسيّة، فيخلطون، أحيانًا، بينه وبين الجنسيّة المثليّة، أو انحراف السّلوك الجنسيّ والأخلاقيّ عمومًا. وهذه مسؤوليّة الأطبّاء النّفسيّين الّذين عليهم أن يوضّحوا لهم طبيعة هذا المرض وتداعياته. ولكي تثبت القاعدة الأساسيّة المتمثّلة في التّصحيح بوصفه ضرورة بيولوجيّة، لا بدّ أن يكون علاج اضّطرابات الهويّة الجنسيّة متعدّد الأوجه أو الأبعاد ويشمل:
- زيارة طبيب نفسيّ ليميّز حال المريض، إنْ كانت سلوكيّة، أم أنّها مشكلة في الهويّة الجنسيّة. والهويّة هي نظرة الإنسان لذاته ونفسه، فهل ينظر لنفسه على أنّه ذكر أم أنثى؟
- تشخيص وتحديد الحال، لكي يعالج المريض. فإن كانت مشكلة سلوكيّة يعالج سلوكيًّا. وإن كانت ازدواجيّة (شيزوفرينا)، حيث يتخيّل المريض أنّه أنثى أو العكس، يعالج بالأدوية. وهناك الكثير من الحالات الّتي تشابه مرض الاضّطراب.
- إن ثبُت أنّ الحال لديها هويّة جنسيّة مخالفة للجنس البيولوجيّ بعد مدة من الخضوع للعلاج النّفسيّ، يجب أن تخضع لعلاج هرمونيّ، وبعد ذلك علاج جراحيّ لتصحيح الجنس.
قد تكون الظّروف المحيطة بالحالة المرضيّة متشعّبة ومعقّدة، ما يجعل مسالة الضّرورة الّتي سبق وتحدّثنا عنها؛ أي ضرورة التّحوّل، مسالة معقّدة، أيضًا، ومتشعّبة وتتطلّب التّدقيق وفاقًا لمعطيات كثيرة دينيّة، أخلاقيّة، اجتماعيّة وإنسانيّة. وما يزيد الأمور تعقيدًا، ما تظهره بعض الأطراف الأمريكيّة من تصنيفات، لما تطلق عليه اسم “قواعد تشخيص اضّطراب الهويّة الجنسيّة” الّذي يخرج بنا من دائرة التّصحيح الضّروريّ، لدائرة التّغيير الكليّ بناءً على أسباب يقع تشخيصها على أنّها أمراض نفسيّة تستوجب الحلّ الفوريّ، حتّى ولو كانت هذه الحلول على حساب الهويّة الإنسانيّة.
يقدّم الباحثون الأمريكيّون حججًا لتسويغ الحاجة للتّغيير، ومنها أن يشعر الشخص بـ:
- نزعة قويّة ودائمة للتّماهي”التّعرّف إلى الذّات” مع الجنس المغاير( cross-gender identification)، وليس فقط مجرّد رغبة بسبب وضع اجتماعيّ أفضل للجنس الآخر، حيث يظهر لدى المراهقين والرّاشدين الاضّطراب على شكل أعراض مثل: الإقرار بالرّغبة في أن يكون من الجنس الآخر، التّصرّف غالبًا كفرد من الجنس الآخر، الرّغبة في أن يعامله الآخرون كفرد من الجنس المغاير، أو القناعة التامّة بأنّه ينتمي للجنس المغاير، ويشعر بمشاعره ويتفاعل بطريقته.
- ضيق دائم وعدم رضى عن شعوره بعدم ملاءمته الدّور الّذي يمليه عليه الدّور الاجتماعيّ لجنسه التّشريحيّ، حيث تظهر لدى المراهقين والرّاشدين أعراض مثل: الانشغال بالتخلّص من صفات وأعضاء الجسد الجنسيّة الّتي تنتمي للجنس المرفوض؛ فيطلب مثلا العلاج بالهرمون لتغيير نبرة الصّوت، وربّما يحلم بالجراحة لتغيير تلك الأعضاء حتّى يشابه أفراد الجنس المغاير، ومنهم من يعتقد أنّه ولد خطأ بهذا الجنس.
يركّز العلماء الأمريكيّون على الاضطراب في الهويّة، ويصنّفونه على أنّه مرض نفسيّ، ويقدمون على إجراء عمليّات التّحوّل الجنسيّ كحلّ جذريّ لهذا المرض، وكوسيلة لإنهاء حال الاضّطراب. لكنّ المشكلة الأساسيّة والأشدّ خطورة، هي عندما يصبح التّحوّل خيارًا شخصيًّا، حيث لا يخضع صاحبه للعلاج النفسيّ ولا للتّأطير الضّروريّ، فتتلقّفه جهات مموّلة وداعمة لثقافة شاذّة معقّدة وغير صالحة، بهدف طمس الهويّة الإنسانيّة وتشويهها.
- مخاطر التّحوّل الجنسيّ؛مسخ للهويّة الطبّيعيّة:
تُظهر مخاطر التّرويج للتّحوّل الجنسيّ، وخاصّة لثقافة الشّذوذ والسّعار الجنسيّ، هشاشة المجتمعات الغربيّة وعدم قدرتها على حماية عقول وخيارات أبنائها. لكنّ الأشدّ خطورة من ذلك كلّه، أنّها أصبحت سوقًا عالميّة، تديرها لوبيات من الأغنياء، وصنّاع القرار في العالم، إضافة الى أصحاب الشّركات الكبرى، ورؤوس الأموال، ما يجعل منها تجارة مربحة لمروّجيها. وممّا لا شكّ فيه أنّ مسألة التّحوّل الجنسيّ هي مسألة معقّدة في كلّ الظرّوف، وتستوجب حقيقةً، الوقوف عند السّياسات كلّها الّتي تعمل بعض الجهات المروّجة والمستفيدة في العالم على التّرويج، والتّسويق لها، لأنّها باختصار تجارة واستثمار، فلا يهمّ إن دمرّت الهويّة الطّبيعيّة، طالما أنّ الطّالب والمطلوب كليهما مستفيد ومتقبّل وضعه. طبعًا إنّ هذا الأمر، يسوّق له تحت شعار العلاج والحلول، لكنّه في الأحوال كلّها يشكّل خطورة كبيرة على الهويّة الإنسانيّة.
ويمكننا النّظر هنا في مسالتين أساسيّتين وهما: كيف أصبح التّحوّل الجنسيّ سوقًا طبيًّا عالميًّا، ونمط حياة جديد ضارب للهويّة الطّبيعيّة، والفطرة الإنسانيّة(أ)، وما يشكّله هذا التّحوّل من خطورة صحيّة واجتماعيّة على المتحولّين (ب).
أ- المتحوّلون جنسيًّا: سوق طبّي ونمط حياة جديد
تبعًا لموقع” غراند فيو ريسرتش” ([8]Grandview research)، بلغت قيمة حجم سوق جراحة تغيير الجنس في الولايات المتّحدة 1.9 مليار دولار أمريكيّ في العام 2021، ومن المتوقّع أن يتوسّع بمعدّل نموّ سنويّ مركّب ليبلغ 11.23٪ من العام 2022 إلى العام 2030. ومع تزايد حالات اضطراب الهويّة الجنسيّة، وزيادة عدد الأشخاص الّذين يختارون عمليّات تغيير الجنس، وهي أقلّ لدى الذّكور المتحوّلين جنسيًّا، وفاقًا لدراسة أجرتها”سيدارز سيني” (Cedars Sinai) في يونيو 2020، عانى ما يقرب من 78٪،من الذّكور المتحوّلين جنسيًّا، من خلل في الهويّة الجنسيّة عند بلوغهم سنّ السّابعة، وكان متوسّط العمر من 2 إلى 6 سنوات، ومن المتوقّع أن يتعزّز النّمو خلال مرحلة التنبّؤ لتجربة اضّطراب الهويّة الجنسيّة.
ويروّج الموقع إلى أنّ جراحة تغيير الجنس تكتسب اليوم شعبيّة بين الشّباب المتحوّلين جنسيًّا في الولايات المتّحدة، لأنّها تساعد الأشخاص الّذين يعانون اضطرابًا في الهويّة الجنسيّة على الانتقال إلى جنسهم المحدّد بأنفسهم. وفاقًا لمقال نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز”، فإنّ نحو 1.4٪ و1.3٪ من الشّباب الّذين تتراوح أعمارهم بين 13 و17 سنة ومن 18 إلى 24 سنة على التّوالي، هم من المتحوّلين جنسيًّا في الولايات المتّحدة، ويمثّلون 0.5٪ فقط من إجمالي البالغين. ويشير الموقع أيضًا، إلى أنّه من المتوقّع أن يؤدّي العدد المتزايد من جراحات تغيير الجنس في الولايات المتّحدة إلى دفع نموّ هذه الصّناعة. ووفاقًا لإحصائيّات الجراحة التّجميليّة للعام 2020 الصّادرة عن” الجمعيّة الأمريكيّة لجرّاحي التّجميل “(ASPS)، أُبلغ عن زيادة بنسبة 15٪ في العمليّات الجراحيّة للصّدر أو الثّدي لدى المرضى الذّكور المتحوّلين جنسيًّا من العام 2019 إلى العام 2020. كما يوفّر مقدّمو خدمات التّأمين مثل” اتنا و يونيكار” (Aetna وUnicare)، التّأمين على الإجراءات الجراحيّة الضّروريّة، مثل: استئصال الرّحم أو استئصال الخصية أو استئصال المبيض. وفي الولايات المتّحدة، سُجّل نحو 152000 من المتحوّلين جنسيًّا في برنامج “ميديكايد” ((Medicaid، و69000 منهم فقط لديهم إمكانيّة الوصول إلى تغطية رعاية تأكيد النّوع الاجتماعيّ بموجب قانون الولاية.
اللّافت هنا، أنّ ما يعرض من الخدمات والتّسهيلات للمقبلين على عمليّات التّحوّل الجنسيّ في ازدياد دائم، ما يدلّ على أنّ المسالة تخطّت مسالة المراجعة النّفسيّة، أو الضّرورة الصّحيّة، لتصبح محاولة لطمس معالم الهويّة الإنسانيّة المتوازنة، ولتشويه الفطرة الإنسانيّة الّتي خُلق عليها الإنسان، تحت عناوين وحلول غير واضحة، وغير منطقيّة. إنّ كلّ ما يحرّك الجهات المروّجة والمستفيدة من هذه السّياسات هو المال والتّجارة، وتكديس الأموال، حتّى ولو على حساب صحّة النّاس. لكنّ الأشدّ خطرًا من ذلك كلّه هو أنّ هذه السّياسات تستهدف المجتمعات المحافظة والمتوازنة بما تقوم به من محاولات حثيثة لضرب أجيال وأجيال من الشّباب- ذكورًا وإناثًا- وتحت مسميّات مختلفة، بهدف إضعاف هذه المجتمعات، وضرب التّوازن الاجتماعيّ والبنيويّ فيها، وفسخ هويّة شبابها.
ب-المخاطر الصّحيّة والاجتماعيّة على المتحوّلين جنسيًّا:
لقد توصّلت دراسة صادرة عن” بريتش ميديكال جورنال”( British Medical Journal ) ، إلى أنّ حاصرات البلوغ الّتي تروّج لها شركات الأدوية الأمريكيّة والعالميّة، وتطرحها حلًّا من الحلول لتصحيح الاضطراب في الهويّة الجنسيّة، من وجهة نظرها، لا تخفّف من الأفكار السلبيّة لدى الأطفال الّذين يعانون خللًا جنسيًّا. وأشارت الدّراسة إلى أنّ حاصرات البلوغ المستخدمة لعلاج الأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين 12 و15 سنة، والّذين يعانون خللًا جنسيًّا شديدًا ومستمرًّا (gender dysphoria) بين الجنسين، لم يكن لها تأثير كبير على وظائفهم النّفسيّة أو أفكارهم مثل إيذاء النّفس أو صورة الجسد.
مع ذلك، وكما هو متوقّع، عانى الأطفال انخفاضًا في النّمو، الطّول، وقوّة العظام، بحلول الوقت الّذي أنهوا فيه العلاج في سن 16. كما تبيّن في نتائج دراسة أجريت على 44 طفلًا عالجتهم “خدمة تنمية الهويّة الجنسانيّة” (GIDS) الّتي تديرها مؤسّسة” تافيستوك اند بورتمان إن إتش إس فاوندايشن تراست” (Tavistock and Portman NHS Foundation Trust) في لندن[9]، بينما يستعدّ الصّندوق للاستئناف ضد حكم المحكمة العليا الّذي دفع مؤسسة” إن إتش إس انجلاند” (NHS England) إلى إيقاف الإحالات لمن هم دون 16 سنة لحاصرات سنّ البلوغ.
لقد تابعت الدّراسة 44 طفلًا بدأوا العلاج بين يونيو/حزيران 2011 وأبريل/نيسان 2015 حتّى أنهوه حين بلغوا 16 سنة. وكان أحد معايير الإدراج في الدّراسة هو القدرة على إعطاء الموافقة المسبقة. رفعت القضية ” كيرا بيل”، وهي مريضة سابقة ندمت على العلاج بالهرمونات المتصالبة، وعادت إلى الجنس المحدّد عند الولادة، أمام المحكمة العليا وكذلك فعلت السّيدة” أ”، والدة مريض، وهي على قائمة الانتظار. تدخّلت مستشفيات جامعة “كوليدج” لندن( NHS Foundation Trust)، ومستشفيات” ليدز”( Leeds) التّعليميّة” إن إتش إس تراست”( (NHS Trust، الّتي توفّر خدمات الغدد الصّماء المسؤولة عن توفّر حاصرات البلوغ، في القضيّة لتقديم طلباتهم الخاصّة إلى المحكمة، كما فعلت” تراسجاندر تراندز”([10](Transgender Trends الّتي تدعو إلى علاج قائم على الأدلّة، للخلل الجنسيّ. فوافقت محكمة الاستئناف، أيضًا، على الاستماع إلى متدخّلين جدد، بما في ذلك” ديفيد بيل”، وهو حاكم سابق لموظّفي مؤسّسة” إن إتش إس إنجلاند” ( (NHS England الّذي تم التّواصل معه بشأن مخاوف جديّة من عشرة أطبّاء كانوا يعملون أو عملوا في ” جي أي دي إس” ([11](GIDS.
وفي طلبه للتّدخّل في الاستئناف، قال للمحكمة إنّه في أغسطس/آب 2018، حقّق في مخاوف الأطباء بشأن قدرة الأطفال على الموافقة على حاصرات البلوغ وقدرة الممارسين على تلك الموافقة. وكان الاستنتاج المركزيّ لتقريره: “خدمة (GIDS) كما تعمل الآن [ليست] مناسبة للغرض، واحتياجات الأطفال يتمّ تلبيتها بطريقة مؤسفة وغير ملائمة، وسوف يعيش البعض مع العواقب المدمّرة.” تضمنت الأسباب الّتي قدّمت لهذا الاستنتاج “مخاوف أخلاقيّة بالغة الخطورة في ما يتعلّق بأساليب الممارسة وعدم كفاية الموافقة”. أخبر محكمة الاستئناف أنّ المخاوف تضمنّت قلقًا من أنّ الخدمة تركّز على الموافقة على حاصرات البلوغ فقط، في حين أنّ مسار العلاج يميل إلى الهرمونات الجنسيّة المعاكسة. ومن بين 44 طفلًا شملتهم الدّراسة، هناك طفل واحد فقط لم يتعاطى الهرمونات الجنسيّة.
إنّ المخاطر في ازدياد كبير، فتقبّل ثقافة الشّذوذ وسياسة التّحوّل الجنسيّ أو ما يسمّى” ترانسجندر” (Transgender)، والقول إنّ المثليّة الجنسيّة، في حدّ ذاتها، ليست مشكلة تتعلّق بالصّحّة العقليّة، كما صرّح الإجماع العلميّ الّذي أقرّته منظّمة الصّحة العالميّة، لا يهدّد فقط المجتمعات الغربيّة، إنّما يمتدّ الآن، وبشكل كبير، إلى مجتمعات العالم الإسلاميّ؛ بل إنّه يعمل على اختراقها، تحت شعار حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعيّة، والحريّات، خاصّة ما يسمّى حريّة الضّمير الّتي أدرجت في العديد من دساتير الدّول العربيّة (الدّستور التّونسيّ للعام 2014). وحصل جدل واسع حولها، أكّد فيه العديد من المراقبين أنّ المقصود هنا هم المثليون جنسيًّا الّذين بدأوا يظهرون علنيًّا في بعض الدّول العربيّة والإسلاميّة في إطار جمعيّات أهليّة مموّلة من منظّمات دوليّة، وبعض الدّول المروّجة لهذه الثّقافة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، والدّول الأوروبيّة.
أن تصبح ثقافة الشّذوذ الجنسيّ، بشكلها الحاليّ مسألة عاديّة، وأن تنخرط جهات نافذة في العالم للتّرويج لها ودعمها وتمويلها، وانشاء جمعيّات ومنظّمات بعناوين مختلفة لنشرها وإدماجها في النّسق الاجتماعيّ هذا هو الخطر الّذي يجب التنبّه اليه. فالمخطّطات والمشاريع الّتي تتبنّاها هذه الجهات المروّجة، والّتي تهدف من خلالها لاختراق المجتمعات الإسلاميّة، مثل إنشاء قوانين خاصّة بحماية الطفل، وفرضها عبر منظّمة الأمم المتّحدة في دول العالم الإسلاميّ، وإلزام هذه الدّول بالانخراط فيها والمصادقة عليها وإدراجها في منظومة القوانين الوطنيّة لتصبح نافذة وملزمة قانونًا.
هذه القوانين الّتي تدرج تحت مسمى اتّفاقيّات دوليّة أو تشريعات دوليّة، تبيح نشر الثّقافة الجنسيّة لدى الطّفل، وما يسمى بالصّحّة الجنسيّة. ولا بدّ من الانتباه أيضًا لدور العديد من المنظّمات الدّوليّة والمؤسّسات العالميّة الّتي عملت، ولسنوات، على إعداد الأرضيّة لنشر وترويج ثقافة السّعار الجنسيّ، ولو بطريقة غير مباشرة، سواء عن طريق المنظّمة العالميّة (Planned Parenthood) [12]الّتي نشرت موانع الحمل وكسرت حاجز الإجهاض الّذي كان يرفضه الأمريكيّون ويرونه جريمة. وقد روّجت المنظّمة لنفسها على أنّها تحارب الأمراض الجنسيّة، أو عن طريق “الاتّحاد الدولي لتنظيم الأسرة“[13] (IPPF) ودوره في الفوضى الجنسيّة.
*********
المصادر:
1-Robert J. Stoller, Sex and Gender: The development of masculinity and femininity, Volume 1,1994.
2–https://www.dandc.eu/en/article/world-health-organization-considers-homosexuality-normal-behaviour
3–https://www.ilga-europe.org/
4– https://www.msdmanuals.com/ar/home.
5– https://www.grandviewresearch.com/industry-analysis/us-sex-reassignment-surgery-market
6–https://tavistockandportman.nhs.uk/
7– https://www.transgendertrend.com/
8- https://developersummit.com/
9– https://www.plannedparenthood.org/
[1] -Robert J. Stoller, Sex and Gender: The development of masculinity and femininity, Volume 1,1994.
[2] – بحسب حورج براون، جامعة تينيسي، الولايات المتّحدة: تستخدم مصطلحات مختلفة للحديث عن الجنس وجنس الفرد:
- يشير الجنس Sex إلى تشريح الشخص: ذكر، أنثى، أو ذكر أو أنثى غير واضحين في الأعضاء التناسلية الغامضة، أو خُنثَى intersex
- تشير الهويَّة الجنسية Sexual identity إلى الجنس الذي ينجذب إليه شخص جنسيًا (إن وجد).
- هوية الجنس أو الجندر هي الطريقة التي يرى بها النّاس أنفسهم، سواء أكان ذكوريًا أم أنثويًا أو أي شيء آخر يُطلق عليه أحيانًا اسم الجنس، أو غير ثنائي، أو عاطفي، والذي قد يكون في مكان ما بينهما، مزيجًا من المذكر والمؤنث، أو لا يتغير كثيرًا .
- الدور الجنساني Gender role هو كيفية تقديم الأشخاص أنفسهم للآخرين من حيث الجِنس. ويشتمل ذلك على الطريقة التي يرتدي بها الأشخاصُ ملابسَهم، ويتكلَّمون، ويصفِّفون شعرَهم ـــ في الواقع كلّ ما يقوله الأشخاصُ ويفعلون يشير إلى الذكورة أو الأنوثة.
[3]– في العام 1979، تأسست جمعية هاري بنجامين الدولية لاضطراب النوع الاجتماعيّ (HBIGDA)، لوضع معايير رعاية للأفراد الذين يعانون اضطرابات الهويّة الجنسيّة.
[4]–https://www.dandc.eu/en/article/world-health-organization-considers-homosexuality-normal-behaviour
[5] –https://www.ilga-europe.org/
[6]– https://www.msdmanuals.com/ar/home.
[7] – انظر التحقيق المفصل في مجلّة الشروق المصرية (العدد 329 تاريخ 27/7/1998).
[8]–https://www.grandviewresearch.com/industry-analysis/us-sex-reassignment-surgery-market
[9]– https://tavistockandportman.nhs.uk/
[10]– https://www.transgendertrend.com/
[11]– https://developersummit.com/
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…