التّطبيع مع الشّذوذ الجنسيّ في الدّراما
هبة الله حسن مروّة[1]
“إنّهم موجودون في مجتمعنا“؛ عبارةٌ يتسلّح بها منتجو الدّراما العربيّة لتقديم أعمالهم المحتوية على الشّذوذ الجنسيّ، والتي ازدادت نسبة عرضها في السّنوات الأخيرة. فقد عُرضت أعمالٌ عربيّة متنوّعةٌ في تقديم محتواها الشّاذّ؛ بين شخصيّةٍ شاذّةٍ تأخذ حيّزًا مهمًّا في العمل الدراميّ وبين شخصيّة عرضيّة في العمل. ومقارنةً مع الأعمال الغربيّة الموجّهة والذّاخرة بتقديم المحتويات الجنسيّة؛ يُلحظ أنّ نسبة الأعمال العربيّة المحتوية على فكرة الشّذوذ الجنسيّ قليلة. كما يبرز الفرق من جهة المضمون؛ فالدّراما العربيّة تقدّم محتواها الشّاذّ ضمن إطار دراميٍّ اجتماعيٍّ يرفض الشّذوذ، ويرى أنّه أمرٌ خارجٌ عن الطّبيعة البشريّة وبعيدٌ عن عادات المجتمع وتقاليده، أمّا الدراما الغربيّة؛ فلم يكن الشّذوذ جزءًا منها فقط؛ بل أصبح مؤخّرًا يُقدّم ضمن إطارٍ دراميٍّ اجتماعيٍّ طبيعيٍّ بفخرٍ واعتزازٍ في المجتمع.
نعم؛ إنّ الكيفيّة التي تُقدّم فيها الشّخصيّات الشّاذّة في الدّراما العربيّة درسها صنّاع العمل؛ إذ إنّهم حريصون جدًّا على عدم دغدغة عواطف المشاهد العربيّ، والمسّ بمعتقداته المؤمنة بأنّ الشّذوذ من المحرّمات الكبيرة. فهم يقدّمون الشّخصيّة الشّاذة محاطةً بالكثير من رفض أهلها ومجتمعها. وبمعزلٍ عن نوايا صنّاع هذه الأعمال، إن كانت ماديّةً بحتةً أم تنفيذًا لأجندةٍ معيّنةٍ أو غيره. ولكن حرصهم على تقديم شخصيّاتهم الشّاذّة بهذه الطّريقة كمن يقدّم السّمَّ بالعسل، يستمتع الشّارب بشربه؛ لكنّه واقعًا يتسمّم من دون درايةٍ؛ خصوصًا أنّ الشّخصيّة الشّاذّة تُقدّم بشكلٍ مختلفٍ عمّا كانت تُقدَّم به سابقًا؛ إذ توضع في قالبٍ كوميديٍّ؛ يتشبّه فيه الشّاب الشّاذ بالأنثى مظهرًا وسلوكًا، وبذلك يكون معروفًا في محيطه.
سنوضّح هذه الفكرة أكثر في مقالنا؛ كالآتي:
- أوّلًا: دراسةٌ مختصرةٌ لشخصيّتين شاذّتين قُدِّمَتا بقالبٍ دراميٍّ مسبكٍ ومحيطٍ بالشّخصيّة بأدقّ تفاصيلها.
- ثانيًا: تبيان الرّسالة السّلبيّة غير الواعية التي تقدّمها الشّخصيّتان.
وقد حصرنا الدّراسة بشخصيّتين فقط؛ لأنّ الفكرة تتّضح بهما ولا داعي للمزيد.
الشّخصيّة الأولى
غادة (الأم): أنا بكرهك، قرفانة منك، ما بعرفك ولا بدي أعرفك… لإنّه هيدا ضدّ الطّبيعة.
نديم (الإبن): بس هيدي طبيعتي، وأنا إنسان، وموجودة فيّي يعني موجودة بالطّبيعة.
غادة: هيدا شواذ؛ وإلّا ربنا ما خلق البشر رجّال ومرة.
نديم: إذا أنا شاذّ بس، هيدا أنا، واقبليني مثل ما أنا.
هذا أنموذج من حوارٍ بين الأمّ “غادة” وابنها “نديم” في المسلسل العربيّ “عشق النّساء”؛ وهو مسلسلٌ دراميٌّ عُرض في العام 2014م.
“نديم” شابٌّ عشرينيٌّ؛ لا تبدو ميوله الجنسيّة الشّاذّة على مظهره الخارجيّ ولا على سلوكه. كان يتعلّم، وكان مرتبطًا بفتاة لا يعيش معها استقرارًا عاطفيًّا؛ لأنّه يعيش في صراعٍ نفسيٍّ مستمرٍّ بين تقبّله لميوله الجنسيّة الشّاذّة، وبين نظرة عائلته ومجتمعه للشّاذّ. ثمّ استسلم لميوله وارتبط بعلاقةٍ عاطفيّةٍ سرّيّةٍ مع رجل آخر، وترك خطيبته. وبعد مدّةٍ أعلم والدته “غادة” بميوله الجنسيّة، وهي امرأةٌ ضحّت كثيرًا من أجل أولادها؛ فصُدمت ورفضته رفضًا قاطعًا. وصرّحت له بذلك في حوارٍ عنيفٍ مشحونٍ بالعواطف دار بين الاثنين (الحوار الذي ذكرناه سابقًا)، هذا الحوار الذي تذكّره “نديم” عندما أقدم على الانتحار، ونجح في ذلك.
نشير أنّ الحوار الذي دار بين الأمّ وولدها هو حوارٌ حقيقيٌّ بخلفيّته يدور بين الشاذّ وأهله. وإذا أردنا تحليله يمكننا القول إنّه يرتكز على طريقتين بالاستدلال. الطّريقة الأولى هي الطّريقة العقليّة، حين حاول “نديم” إقناع والدته أنّ ميوله هي طبيعته، ويقصد الطّبيعة التي خلقه الله تعالى عليها. وبما أنّها طبيعته؛ فهي إذًا موجودةٌ. كما ردّت الأم عليه بدليلٍ عقليٍّ أيضًا؛ أنّه لو أراد الله ذلك لما خلق الجنسين الذّكر والأنثى. وعندما أصبح الدّليل العقليّ عقيمًا؛ ذهب نديم إلى الطّريقة الثّانية، وهي العاطفيّة، فطلب من والدته تقبّله كما هو إن كانت تريده، فهو لن يتغيّر؛ لأنّ شعوره جزءٌ من هويّته وكيانه.
“نديم” الشّخص المضّطرب نفسيًّا؛ يعيش صراعًا داخليًّا قويًّا جدًّا، لا يستطيع السّيطرة عليه. وفي لحظةٍ مليئةٍ بمشاعر الحزن والخزي والألم والذّل؛ يتذكّر هذا الحوار باكيًا، فيقدم على الانتحار ويموت. إنّه مشهدٌ مؤلمٌ للمشاهد بتفاصيله كلّها؛ فشابٌّ في مقتبل العمر يقدم على عملٍ كبيرٍ جدًّا، وهو إنهاء حياته بسبب معاناته من هويّته الجنسيّة. وغالبًا، ما تُطبع في الذّاكرة المشاهد المليئة بالعواطف أكثر من غيرها؛ لأنّ المشاعر الإنسانيّة التي يشعر بها “نديم”، تصل إلى المشاهد؛ فيتعاطف معه إنسانيًّا، ويشعر بمعاناته بصرف النّظر عن نوعها.
الشّخصيّة الثّانية
أمّا “نورس” في مسلسل “قلم حمرة”؛ فمعاناته إجمالًا تشبه معاناة “نديم”. وهو شابٌّ عشرينيٌّ، رسّامٌ بارعٌ مرهف الإحساس، مظهره الخارجيّ وتصرّفاته طبيعيّةٌ مع بعض التّفاصيل في الشّعر والوجه، وبعض الجمل التي تجعل المشاهد يشكّ في أمرٍ ما. كما أنّه يعيش مع أصدقائه الشّباب في بيتٍ واحدٍ. يبدو هادئًا من الخارج، على عكس حاله من الدّاخل؛ فهو يشعر بالغليان النّفسيّ والحزن والألم والاضطراب. يلاحظ أصدقاؤه الشّباب أنّه يعاني شيئًا ما، لكنّه يأبى إخبارهم حقيقة ما يشعر به، وهم لا يشكّون بميوله الشّاذة أبدًا، إلى أن حاول أيضًا الانتحار كما “نديم”؛ لكنّ محاولته باءت بالفشل. وهنا تبدأ قصّةٌ جديدةٌ من معاناة “نورس”؛ فأصبح مضّطربًا نتيجة الاضّطراب في هويّته الجنسيّة، إضافةً لذلك نظرة المجتمع الدّونيّة له والنّفور منه وعدم تقبُّله…
تفاصيل معاناة “نورس”، بكاؤه الصّامت، تقلّبه على سريره يمينًا ويسارًا، وهو مكتئبٌ ومتألِّمٌ وكارهٌ لنفسه، ابتعاده عن النّاس وانكماشه على نفسه مرّة، أو دفاعه عن ميوله مرّة أخرى، ذهابه إلى الأطبّاء النّفسيّين، محاولته الانتحار، وغيرها من المَشَاهد المليئة بالعواطف والمشاعر؛ يتابعها المُشاهد مع “نورس” طيلة العمل الدّراميّ.
ما الرّسالة غير الواعية من هاتين الشّخصيّتين وأمثالهما؟
إنّ أمثال “نديم” و”نورس” هم حقًّا أناسٌ موجودون في المجتمع، لديهم مشاكل إمّا جسديّةٌ أو نفسيّةٌ، وهم يعانون بشدّةٍ، وليسوا سعداء، وهذا ليس خيارهم؛ فتقبّلوهم واحضنوهم كي لا يواجهوا مصير “نديم”. هذه باختصار الرّسالة غير الواعية التي يتلقّاها المشاهد، مهما كان رأيه واعيًا حول موضوع الشّواذ الجنسيّ.
هذه الرّسالة كمسمارٍ في جليد حرمة الشّذوذ واستنكاره؛ فكثرة الدقّ على هذا المسمار سيزيد انكسار الجليد. والقبول لن يبقى محصورًا بالمرضى الشّاذّين الحقيقيّين الذين يحتاجون إلى علاجٍ طبيٍّ ونفسيٍّ ودعمٍ عائليٍّ، ليخرجوا من مشكلتهم إن أمكن ذلك؛ بل قد يسري إلى غير المرضى الحقيقيّين أيضًا ليصبحوا مقبولين اجتماعيًّا، بعد مدّة من الزّمن ومع تكرار هذه الرّسائل بطرائق وسائل مختلفةٍ.
ولكن كيف ذلك؟
سيصبح الميل إلى الجنس نفسه أمرًا أقلّ رفضًا في المجتمع، ثمّ سيتجرّأ من لديه هذه المشكلة إلى الخروج والتّحدّث عنها، وعدم كتمانها. في الخلاصة؛ إذا أردنا اختصار الفكرة نقول: “إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا”، كي لا يطمع الذي في قلبه مرضٌ؛ فيتجرّأ ويخرج إلى العلن مرفوع الرّأس. وتاليًا سيزداد القبول لفكرة الشّواذ أكثر وأكثر؛ ما يضعف قوّة المجتمع الأخلاقيّة ومبادئه الدّينيّة والإنسانيّة الفطريّة. فإن كان المجتمع في الأصل متحلّلاً أخلاقيًّا ودينيًّا، مع الأخذ بعين الحسبان إنكار جميع الدّيانات السّماوية للشّذوذ وتصنيفها من أشدّ المنكرات؛ سيتأثّر بطريقة أسرع في تقبّل الذين سوّلت لهم أنفسهم وغرائزهم ارتكاب هذه الفاحشة؛ وخصوصًا أنّ موضوع الشّذوذ الجنسيّ يعمل على إرسائه بطرائق عدّة غير الدّراما. إذ يصبح الشّاذّون مقبولين في المجتمع، ويتحوّل فعلهم من منكرٍ شديدٍ إلى حرّيّةٍ شخصيّةٍ، ومن شاذٍّ إلى مثليّ. وأمّا لو كان طابع المجتمع دينيًّا؛ فيكون اختراقه أمرًا أكثر صعوبةً. لكنّ هذا لا يجعل المجتمع بأمانٍ؛ فعلى أفراده تقع مسؤوليّة المقاومة.
أمّا الرّسالة؛ يمكن حصر الحديث عنها ضمن البرامج الاجتماعيّة الطّبيّة؛ فيقدّم موضوع الشّذوذ من الأمراض الجسديّة النّفسيّة، ويُتحدّث عنه بما يناسبه. وهذا بالطّبع الرّدّ على عبارة “إنّهم موجودون في مجتمعنا“، نعم إنّهم موجودون بيننا؛ لكنّ تسليط الضّوء بهذا الشّكل عليها مشكلةٌ بحجم تدمير الإنسانيّة وتدمير المجتمع، هو أمرٌ خاطئٌ ومرفوضٌ.
خاتمة
نشيرُ فيما يخصّ المشاهِد أنّه من الأفضل الابتعاد عن هذا النّوع من الدّراما واستبدالها بالدّراما الهادفة؛ لأنّ مضارّها أكثر من نفعها، مع ضرورة أن تصل إلى حدّ الوجوب في منع الفئات العمريّة الصّغيرة والمراهقة من متابعة هذه الأعمال. من جهة أخرى؛ يجب العمل على تقوية الوعي الفكريّ حول هذه المشكلة للفئات الأكبر سنًّا بالتّزامن مع تقوية الوازع الدّينيّ عند الجميع، والذي- في كثير من الأحيان- سيكون الرّادع في عدم ارتكاب هذه الفاحشة.
[1] – أستاذة جامعيّة وحوزويّة.
تمرير الشّذوذ الجنسيَّ في الأنمي والمانجا والألعاب الإلكترونيّة
مجتمعاتنا العربيّة، على مرّ التّاريخ عانت ما عانته من حروبٍ وتحدّيات عقيمة، ولكن ما نتعرّض…