التّطبيع مع الشّذوذ الجنسيّ في الرّسوم المتحرّكة مخاطر التّرويج لثقافة مدمّرة
سهام محمد عزوز[1]
عند الحديث عن ظاهرة اجتماعيّة معيّنة يقف المرء أمام عدد من الأسئلة، في محاولة لفهم أسبابها وظروف انتشارها ومدى تأثيرها على المحيط العام، وإلى غير ذلك من الأسئلة. في هذا الموضوع؛ نحن أمام ظاهرة غير عاديّة بالمبدأ، ويمكن القول إنّها بدأت بشكل ظاهرة اجتماعيّة مغمورة بسبب كمّ القيود والتابوهات الرافضة للحديث أو الإشارة إليها، كونها مشكلة اجتماعيّة أو ظاهرة “شاذة” محدودة المعالم لا تستحقّ الدّرس والمتابعة، أو أنّها مرتبطة بإطار أخلاقيّ ودينيّ معيّن يرفض بالمطلق التطرّق لها وإعطائها حجم الظّاهرة الاجتماعيّة المؤثرة والمنتشرة بشكل كبير. لكن لا بدّ من الاعتراف بأنّ الخطأ ليس في عدم التطرق لها ومعالجة أسبابها وأساليبها ونتائجها، إنّما في إهمال المخاطر التي يمكن ان تنجرّ عن استخدامها بما هي عليه، لاختراق البيئات السّليمة تحت عناوين رنّانة كالحريّات الشخصيّة والانفتاح، والتطوّر وقبول الآخر… إلى غير ذلك من العناوين.
لقد تطوّرت هذه الظّاهرة، وأصبحت أداةً اختراق لمختلف البيئات الاجتماعيّة، بقطع النظر عن ميولها وقواعدها العامّة، عرفيّة كانت أو عقديّة. ويُعدّ موضوع الشّذوذ الجنسيّ من أحدث المواضيع التي تثير اهتمام النّاس على اختلاف مشاربهم الدّينيّة والفكريّة والاجتماعيّة، وذلك بسبب انتشار هذه الظّاهرة في العالم العربيّ والإسلاميّ، وسعي الغرب للتركيز عليها وتثبيتها أمرًا واقعًا في عالم معولم لا يؤمن بالقيود ويتجاوز المؤثرات الأخلاقيّة والدّينيّة وحتى العرفيّة كلّها، وانتقال دعاتها من مرحلة الدّفاع إلى الهجوم، وتحدّيهم للقوانين والشرائع التي تحرّم هذا الفعل وتجرّمه.
بدايةً؛ لم يستخدم مصطلح “الشّذوذ الجنسيّ” لوصف العلاقات الجنسيّة المثليّة قبل القرن العشرين، إلّا أنّ الخطاب العربيّ الحديث المعادي للمثليّة يتعامل مع مصطلح “الشّذوذ الجنسيّ” على أنّه مسألة حياة أو موت. فعلى سبيل المثال، في بحث ظاهرة الشّذوذ في العالم العربيّ والتراث الإسلاميّ،ذكرأنّ أوّل وسيلة لمحاربة الشّذوذ تتمثل بالتشديد على استخدام مصطلح “الشّذوذ الجنسيّ” عند الحديث عن هذا الفعل، ورفض استبداله بمصطلح “المثليّة الجنسيّة” المحايد الذي يُعدّ مجرد توصيف لما يسمّى الميل الجنسيّ للفرد من دون أن يحتوي على أي حكم أخلاقيّ بتحريمه ورفضه.
فالشّذوذ أو المثليّة- كما يسمّونها- هي دعوة جنسيّة قائمة على معيار عدم وجود فوارق بين الذّكر والأنثى، وأنّ الأصل واحد، وعليه قاموا بابتكار مصطلح آخر زعموا أنّه يجمع بين الجنسيّن في مسمّى واحد، ألا وهو مصطلح “الجندر“، وأنّ هذا المصطلح يرمز لكائن الإنسان ذكرًا كان أم أنثى، وأنّه -أي الجندر- كفيل بمحو الفوارق التمييزيّة كلّها بين الجنسيّن ما يضمن كمال العدل بينهما. وعليه؛ فلا حرج من المطالبة بإقرار زواج الشّواذ (عقد PAX)، ولذلك أنشأت مؤسسّات وجمعيّات ومنظّمات وأحزاب سياسيّة تطالب بإقرار هذه الفكرة في القوانين والدّساتير الدّوليّة؛ بل وصل بهم الأمر إلى المطالبة بإدخال أفكار هذه المجموعة الشّاذة في المناهج والمقرّرات الدّراسيّة، وفتح السّاحات الإعلاميّة بكلّ أدواتها الاتّصاليّة للترويج لهذا النّمط الاجتماعيّ الشّاذ. وهذا ما تمّ فعله في كثير من بلدان الغرب، ويبدو أنّ الرّهان الآن على بلدان الشرق، والتي تعمل جهات كثيرة على اختراق بيئاتها المحافظة لنشر هذه الأفكار، ودعم هذه الظّاهرة علنيًا عن طريق شركات ووسائل إعلام، فضلاً عن استثمار الصّناعة السينمائيّة لترويجها بعد السّينما، وحاليًا جاء دور الأطفال في أفلام الكرتون، فضلاً عن تسخيرهم لمواقع التواصل الاجتماعيّ لبث أفكارهم.
لقد أصبح الرّهان واضحًا على ضرب الوعي الجمعيّ لدى شعوب بعينها، من خلال استهداف متلقّين من نوع خاص -الأطفال والمراهقين لما يمثّلونه من عناصر أساسيّة وفعّالة في بناء المجتمع السّليم- عبر الأفلام الكارتونيّة لأشهر وأكبر شركة إنتاج وهي “ديزني”، المعروفة بغزارة وتنوّع برامجها التي تتّصل أساسًا بالذّوق الأسريّ العام، حيث تروّج لما يسمّى بالدّراما “العائليّة النظيفة”. إذ منذ سنوات، بدأ الحديث عن قيام الشركة بالتّرويج لظاهرة الشّذوذ الجنسيّ عبر صناعة شخصيّات كرتونيّة شاذة جنسيًا ورسمها بطريقة تجعل منها بطلًا دراميًا (Hero) لافتًا وناجحًا ومقبولًا عند المتلقّين.
في هذا السّياق؛ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ إدارة “ديزني” التي تعمل على التّسويق لهذه الظّاهرة، بشكل أساسيّ، استخدمت العديد من الأساليب التّرويجيّة لتمرير هذه الظّاهرة وترسيخها في عقل المتلقّي، بشكل سلس وتدريجيّ، من دون أن يحدث ذلك أي ردّ فعل سلبيّة، قد تؤثر على المحتوى العام لمشروع ديزني الدّرامي. ربما ما أثار الحديث عن الموضوع ليس ما نجحت به هذه الشركة طيلة السّنوات الأخيرة في التّرويج له؛ بل ما صدر من تصريحات مباشرة على لسان مديرته التنفيذيّة التي طرحت موضوع ” الشّاذون جنسيًا” مباشرةً مشيدةً بأنّ المجتمع الأمريكي قد تخطّى هذا الاختلاف منذ سنوات طويلة وأنّ هذه الفئة باتت تشكل جزءًا أساسيًّا من المجتمع، وعليه، بات من الضروري العمل على التّرويج لشخصيّات كرتونيّة من المفترض أنّها تمثّل فئة اجتماعيّة وازنة، في المجتمع الأمريكي”؛ وهذا بحسب قولها.
في هذه الورقة، نطرح الأساليب التي يسوّق من خلالها لهذه الظّاهرة في مجتمعاتنا، ومخاطر ذلك على الوعي الجمعيّ والبنية الاجتماعيّة العامّة.
- البرامج والأفلام الكرتونيّة للأطفال
ظهر ترويج كبير للشذوذ الجنسيّ، في السّنوات الأخيرة، في العديد من السّاحات والمنصّات الإلكترونيّة، ومن الطرائق الفعّالة والأكثر تأثيرًا لمخاطبة حواس الإنسان وترسيخ الفكرة في ذهنه، وهو الإعلام والأعمال السّمعيّة البصريّة؛ مثل المسلسلات والأفلام الكارتونيّة وحتّى البرامج السّياسيّة، وخاصّةً برامج “التوك شوو”. فالتركيز عليهم، ومشاهدتهم في أكثر من مناسبة سيجعلك تعتقد أنّ الشّذوذ الجنسيّ أصبح شيئًا عاديًا وظاهرة يمكن التّعايش معها طبيعيًا، وأنّه حريّة شخصيّة.. وهذا ما يمكن تسميته بالبروباغاندا الناجحة. والأخطر في الأمر أنّه بعد نجاحهم في غرس الفكرة عند الشّباب، الآن يتوجهون للمراهقين والأطفال، خصوصًا الّذين هم في مرحلة يصدّقون فيها أي شيء..
إنّ أغلب أفلام وبرامج الرّسوم المتحرّكة الوافدة الموجّھة للأطفال[1] تحاول فرض مفاھیم ثقافيّة ومصطلحات جديدة علیھم، من خلال الإيحاءات والدّلالات الاتّصاليّة التي یستقبلھا العقل الباطن للطفل؛ وذلك لتغییر المفاھیم الثقافيّة التي تعلّمھا في مجتمعه. لذلك؛ كان من الضروري تقديم أمثلة والكشف عن المضامين والدّلالات الإيحائيّة والرّموز في بعض أفلام الرّسوم المتحرّكة. من هنا؛ قامت شركة ديزني- مؤخرًا- بتقديم أوّل شخصيّة كرتونيّة شاذة جنسيًا جعلتنا نتساءل عن براءة ما يقدّم للأطفال من محتوى مليء بالأجندات التي يرغب الغرب بترسيخها في أذهان من يشكّلون أجيالًا لبناء مستقبل بلدانهم. ما يعني أنّ مستقبل صناعة أفلام الكرتون أصبح يأخذ منحىً آخر بعيدًا عن براءة الطفولة، كما كنا نظن ونعتقد.
لكن، هل هذه أوّل محاولة لترويج فكرة الشّذوذ الجنسيّ وترسيخها في أذهان الأطفال أم أنّ ديزني وغيرها من صُنّاع أفلام الكرتون قاموا بمحاولات سابقة لترويج هذا الفكر الشّاذ؟
مثال على ذلك؛ فيلم “سندريلا”، وهو من بطولة Cabello Camila، ظهرت فيه العرابة شخصيّة شاذة، يعني رجل بعقليّة امرأة ولباسها جعلوا منه أمرًا طبيعيًا.. والمشكلة الأكبر أنّ الفيلم، وهو من تصنيف عائليّ، يعني يمكنك تشغيل الفيلم لطفلك بغرض التّسلية لتظهر له تلك الشخصيّة.. ليسألك الطّفل اذ كان هذا رجل أم امرأة…؟ وبمجرد تفادي السؤال أو التطرّق إليه فستكون قد حققّت المراد لمن يروّج لذلك!! لقد أضحى الآباء والأمهات يخشون على أبنائهم من المشاهد والألفاظ الخارجة (الثّامنة عشر وما فوق) التي ترد في المسلسلات والأفلام، فيضعونهم أمام قنوات الأطفال بكلّ ثقة، كونها مخصّصة لهم، ولن تقدّم سوى ما يتناسب وطفولتهم البريئة. لكن الأمر لم يعد كذلك؛ بل أصبحت وسيطًا لتمرير أفكار تتنافى والمعتقدات والفطرة السّليمة، خاصّةً في ما يتعلقّ بأفكار الشّذوذ الجنسيّ والتّرويج للعلاقات الجنسيّة عمومًا بين الأطفال.
كمٌ هائل من الرّسائل الضمنيّة بشأن تغيير مفاهيم التربية المنضبطة، في أفلام الكارتون، يتعرّض لها الأطفال يوميًا بطريقة مدروسة وممنهجة، في ظل غياب تام للرّقابة العائليّة… والخطة بسيطة: إجعل الطّفل يعتاد على هذه الأفكار والمشاهد فتصبح مألوفة لديه، وعندما يكبر يتقبّلها بسهولة؛ بل ويقلّدها. فهي مرتبطة بأهمّ مراحل تكوينه العقليّ وأفضل أيام ذكرياته. الأمر الذي جعل هذه الرّسائل تتطوّر من كونها ضمنيّة مبطّنة إلى أفكار عامّة يُعلن عن تأييدها، مثلما فعلت قناة Cartoon Network قبل أيام، بأنّ غيّرت صورتها على “فيسبوك” بشعار قوس قزح دعمًا لحقوق الشّواذ جنسيًا حول العالم، واحتفالًا بـ”شهر الفخر” كما يطلقون عليه، والذي يشهد كثير من الفعاليّات الخاصّةً بمجتمع الشّواذ حول العالم. ولم تكتفِ بتغيير الشّعار فقط؛ بل نشرت فيديو يدعو الأطفال لتقبّل العائلات المثليّة كلّها، المكوّنة من امرأتين أو رجلين؛ وذلك بمحاورة عدد من تلك العائلات، والتركيز على ردّ فعل الأبناء الّذين يقومون بتبنّيهم، ليظهروا كيف أنّ الأمر به تسامح وحبّ وسعادة غامرة، مع تأكيد القناة على أنّها ستحتفل لمدة شهر من كلّ عام بمجتمع المثليين.
أُنشئت قناة Cartoon Network ، وهي تابعة لشبكة تليفزيونية أمريكيّة، منذ أكثر من 25 عامًا، ولديها قنوات موجّهة لأغلب دول العالم، منها القناة الناطقة باللّغة العربيّة التي أطلقت في العام 2010م، وأحدثت تأثيرًا كبيرًا في الدول العربيّة كلّها، حيث يتابعها ملايين الأطفال باستمرار، وهو ما جعل عدد من الانتقادات تظهر من آن لآخر حول المحتوى الذي تقدّمه، والذي لا ينفصل كثيرًا عن سياسات الشبكة ككل؛ بل بالعكس تُختار طريقة توصيل هذه الرّسائل الفكريّة للأطفال وفاقًا لثقافة بلدانهم، فتُختار بعض الحلقات لعرضها في بلدان معيّنة ومنعها في أخرى تجنبا للانتقادات، مع استمرار إيصال الرّسائل بشكل غير مباشر.
تركّز عدد من القنوات والأفلام الكارتونيّة الأجنبيّة الموجهّة للأطفال على إظهار شخصيّات شاذة جنسيًا داخل العمل، ثمّ الإعلان رسميًا عن ذلك بعد أن تحقّق نجاحًا كبيرًا يثبت أنّ الأمر غير عشوائي على الإطلاق. فقبل مدّة، احتفلت شبكة Nickelodeon الشّهيرة بشخصيّات شاذة جنسيًا عبر شاشتها، كان أبرزهم “سبونج بوب” الذي ظهر في إحدى الحلقات سابقًا، وقد تبنّى “قوقع بحر” هو وصديقه “باتريك”، وكأنّهما زوجين، وقام “سبونج بوب” بدور الأم، فضلاً عن مشاهد متعدّدة ظهر في إحداها “باتريك” وهو يضع في مؤخرته لافتة مكتوب عليها “سبونج بوب”.
كما نشر، أيضًا، موقع buzzfeed.com الأمريكي من قبل، تقريرًا مطوّلًا عن الشخصيّات الكرتونيّة المروّجة للمثليّة الجنسيّة، والتي كان أبرزها شخصيّة Judy Funny في كارتون Doug، ووصفت التقرير بأنّ الشخصيّة تركت تأثيرًا كبيرًا، وقدّمت دعمًا هائلًا لجيل القرن العشرين من الشّواذ. كذلك شخصيّة Johnny Bravo الذي اشتهر بارتداء قميص (تي شيرت) أسود يقوم بخلعه- أحيانًا كثيرة- ليقف بنصف جسده العلوي عاريًا، كي تظهر تحرّكاته وإيحاءاته وحتّى لهجته مقاربة لتصرفات الشّواذ. أمّا الكرتون الشّهير “وقت المغامرة” فقد أثار، أيضًا، بعض الشكوك حول ميول “مارسيلين” وعلاقتها بأميرة العلكة، ليؤكّد المؤلف بعد ذلك أنّ الفتاتين كانتا في علاقة غراميّة قصيرة قديمة، لكن هذا لا يظهر في المسلسل بحسب دبلجة شخصيّة “مارسيلين”؛ لأنّ الشّذوذ ممنوع في بعض البلدان. لذلك؛ تبدو الفتاتان متخاصمتان من دون أي سبب ظاهر في المسلسل.[2] كما رصدت تقارير صحفيّة ما تضمّنه كارتون “ستيفن البطل” المذاع عبر Arabic Cartoon Network منذ العام 2014م، إذ ركّز على ظهور الشّواذ جنسيًا، لتوضّح المؤلفة أنّها أيضا شاذة، وأنّ هذه الفكرة مقصودة لتوعية الأطفال بقضية الميول الجنسيّة[3].
2. المخاطر: تغيير الوعي الجمعيّ
بما أنّنا نتحدّث عن لعبة الإعلام وتأثير الصّورة والخطاب الإعلامي، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ مهمّة المروّجين لهذه الظّاهرة ليست في جعلها مقبولة وطبيعيّة وإعطاء المنتمين لها هويّة مقبولة اجتماعيّا وتجاوز الجدل حول إشكاليّتها وأسبابها النّفسيّة والاجتماعيّة- وما يمكن أن تحدثه من خللٍ على مستوى الوعي الجمعيّ إذا ما قوبلت هذه الظّاهرة الشّاذة طبيعيًا- فحسب ولكن الأهم، هو ما يمكن أن تشكّله من رافد أساسيّ لحرب ناعمة تقودها جهات ومؤسّسات وقوى خارجية تعمل ليل نهار على اختراق البيئات الاجتماعيّة، وضرب السّلم الاجتماعيّ. هذا إضافة إلى ما يمكن أن تحدثه من إرباك في صورة الثقافة والمعتقدات والأعراف وتشويهها.
الأخطر في الموضوع، ليس في طرح الظّاهرة إعلاميّا وتسليط الضوء عليها مباشرة – وقد يكون ذلك مقبولًا إن طُرحت للمعالجة مرفقة بحلول لكيفية احتواء هذه الظّاهرة اجتماعيًا وإنسانيًا- إنّما في جعلها أداة فاعلة لضرب القيم والأسس الأخلاقيّة والدّينيّة للمجتمعات خاصّةً المحافظة منها، بتمرير رسائل مشوّهة حول الحرية الشخصيّة وحرية الضمير وحقوق الإنسان. هذا إضافة إلى جعلها غطاءً، وبعنوان مدني مفتعل، لتوجيه السّياسات العامّة والتأثير على الخيارات المجتمعيّة حتّى لو كانت هذه المجتمعات متطوّرة وحداثيّة، كما يُفضّل البعض تسميتها.
إنّ التأثير في الصّورة والخطاب الإعلامي الذي يروّج لهذه الظّاهرة، وضرب فئة بعينها- نقصد هنا الفئات العمريّة التي يعتمد عليها في بناء مستقبل المجتمعات-هو هدف أساسيّ، تسعى من خلاله قوى العالم المسيطر (صنّاع القرار في العالم) للسيطرة على الوعي الجمعيّ والهيمنة على العقول السّليمة بفطرتها بإدخال مفردات وعناوين تتناقض والمنظومة الطبيعيّة كلّيا، وتعمل على خلق مجتمعات مشوّهة وضعيفة ومربكة ومستسلمة، يعني مجتمعات شاذّة فكريًا وإنسانيًا وعاجزة عن تحقيق طموحها بالابتكار والتفوّق والقدرة. وكذلك احترام الاختلاف، فهم التغيّرات.. كلّها كلمات فضفاضة تنثرها المنصّات والمواقع والإعلانات التي تصل للمتلقّي؛ خصوصًا من الأطفال والشّباب بعمر المراهقة بسهولة، وهم يلعبون على هواتفهم أو خلال تصفّحهم “يوتيوب” أو حتّى القنوات التلفزيونية للأطفال التي دخلت هي الأخرى سباقًا لإثبات ولائها لتلك الأفكار التي يُتّهم رافضوها بأنّهم مذنبون.
الأمر ليس فقط في دعم القضايا الجنسيّة، في أعمال مثل “غامبول” وبن تن” و”أبطال التايتنز” و”وقت المغامرة” و”ريك أند مورتن”… وغيرها الكثير، لكن أيضا في إيصال رسائل أخرى حول معتقدات وأفكار غير مناسبة لمجتمعاتنا؛ مثل: التركيز على فكرة “الطبيعة الأم”، وأنّها السّبب في كلّ شيء وفي خلق كلّ شيء، مثل كارتون “السنافر” الشّهير، فضلًا عن انتشار ظهور شخصيّات بلهاء وغبيّة، بشكل مبالغ فيه يتعلّق بها الأطفال لأنّها مضحكة.
أحدهم سيقول: “ما ضرر ظهور ألوان قوس قزح أو قبلات في ثوان معدودة، أو رسائل مبطّنة وليست مباشرة عن أي شيء، قد لا يلاحظها الطّفل أساسًا ولا يفهمها لو سألته عنها..” ؟ حسنا إليك ما أثبته بعض العلماء والباحثون، في معهد ماكس بلانك، حين قالوا:” إنّ قراراتنا تُصنع في عقلنا غير الواعي 7 ثوانٍ قبل أن نصبح مدركين لها بعقلنا الواعي”. ففي الدّراسة أُعطي المشاركون الحرية الكاملة في استخدام اليد اليمنى أو اليسرى للضغط على زر أمامهم، وعليهم أن يُشعِروا الباحثين في اللّحظة التي قرّروا فيها أي يد سيستخدمون، وبمساعدة أشعة الرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّة استطاع الباحثون أن يحدّدوا- وبكلّ دقة – أي يد سيستخدمها المشارك قبل أن يقرّر هو ذاته في عقله الواعي أيّ يد سيضغط بها على الزر”.
يشرح البروفيسور “بروس ليبتون“- وهو عالم الأحياء البيولوجية في ستانفورد- أنّ عمل العقل غير الواعي أشبه ما يكون بحاسوب عظيم محمّل ببنك من المعلومات فيها عدد هائل من التّصرفات والسّلوكيّات المبرمجة، والتي تُكتسب وتُحصّل معظمها في السّنوات الأولى من حياتنا. ويتحدّث “بروس”عن عقلين منفصلين؛ أحدهما العقل الواعي الذي يفكّر بحريّة ويكوّن أفكارًا جديدة خارج الصّندوق، وهو مسؤول عن الأعمال التي تحتاج المنطق والحساب. والآخر هو العقل غير الواعي الّذي لا يستطيع الخروج عن برمجته المحدّدة، فهو يتفاعل ويستجيب، ويكون ردّ فعله المبرمج أوتوماتيكيًا وتلقائيًا بناءً على ردود الفعل السّلوكيّة المخزّنة سابقًا – خاصّةً مرحلة الطفولة- وتعمل من دون علم أو سيطرة من العقل الواعي، فهو أقوى وأسرع بكثير منه، وهو الذي ينظّم ويشكّل طريقة حياتنا. من هذا المنطلق، يبيّن العلماء أنّ 95% إلى 99% من قراراتنا وتصرّفاتنا وسلوكيّاتنا وعواطفنا وانفعالاتنا تعتمد على نشاط الدّماغ في العقل غير الواعي، فهو يتحكّم في سرعة دقات القلب وسرعة التّنفس وكلّ الوظائف غير الإراديّة في الإنسان.
اختصارًا لما تقدّم، ما يخزّنه الطّفل بوعي أو من دون وعي في مرحلة الطفولة هو ما يؤثّر بقوة على اختياراته وقناعاته مستقبلًا؛ لذلك من الضروري الإدراك لكلّ ما يتلقاه الطّفل من رسائل وأفكار في هذه المرحلة، حتى لا يسقط في أفخاخ الإعلام الجديد (الميديا أو نيو ميديا) المشوّهة ومشاريعها المدسوسة.
مرحلة الطفولة ھي حجر الأساس في بناء العقيدة، حیث یولد الطّفل على فطرة سھلة الانقياد سريعة التأثر، حيث یستطیعُ المربّي توجیهه كيفما أراد. فالطّفل یتشرب عقائده من الجو المحيط به تشرّبًا تلقائيًا. كما أنّ أغلب أفلام الرّسوم المتحرّكة وبرامجها الوافدة الموجّھة للأطفال تحاول أن تفرض مفاھیم ثقافيّة ومصطلحات جديدة علیھم، من خلال الإيحاءات والدّلالات الاتّصاليّة التي یستقبلھا العقل الباطن للطفل؛ وذلك لتغییر المفاھیم الثقافيّة التي تعلّمھا الطّفل في مجتمعه العربيّ. لذلك كان من الضروري الكشف عن المضامين والدّلالات الإيحائيّة والرموز في بعض أفلام الرّسوم المتحرّكة.
كما أنّ هناك دورًا خطيرًا ومھمًا تؤدّيه الرّسوم المتحرّكة في حیاة الناشئة؛ فمحاكاة الطّفل لشخصيّات الكرتون قد تسبّب أثارًا معنويًة وجسديًة خطيرة علیه وعلى أقرانه. وكذلك توظيف عنصر الإثارة والتّشويق، إضافة إلى عنصر الطرافة في المكان المناسب، وكذلك مزج الواقع ببعض الخیال من خلال اختراعات وتخیّل الأهداف وكیفیة تحقیقھا، ثمّ ترجمتها في الواقع.
مقترحات للحلّ:
هذه المخاطر التي ذكرناها تتطلّب جملة من الإجراءات. وبما أنّ الحرب الناعمة الثقافيّة التي يقودها الغرب لضرب قيمنا الأخلاقيّة والدّينيّة والإنسانية واستهداف أطفالنا هي عملية إقناع، وأنّ العصر الحالي هو عصر الدّعاية؛ فإنّ مجتمعاتنا تحتاج إلى المزيد من التأثير في الآراء. ما يعني الاحتياج إلى متخصّصين في الدّعاية للقضايا العادلة وكشف زيف الخداع والتّمويه الذي يستخدمه الغرب، والحدّ من تأثير من يمارسون قصف العقول. ومن المهمّ أن تكون وظيفة هؤلاء المتخصّصين متابعة المعلومات من مصادرها وخوض النقاشات والحوارات المختلفة والتواصل مع الجمهور والمثقّفين.
بناء على ذلك؛ نحن نحتاج إلى:
- تفعيل نماذج تربويّة متكاملة تبدأ من الأسرة والمدرسة ومراكز العبادة ووسائل الإعلام لتحصين المجتمعات بمنظوماتها القيميّة، وتربية الفرد بما يتيح له التعامل مع مصادر المعلومات والقدرة على اتخاذ القرار، وبما يشكّل مناعات ذاتية قادرة على التعامل مع مشاريع التلاعب بالعقول التي يقودها الغرب.
- إعادة التأكيد على قيمنا الخاصّةً، لاسيّما القيم التي تشعر الفرد بانتمائه لمجتمعه ولبيئته الثقافيّة، والعقديّة السّمحة والاجتماعيّة، والتي تتفرّع عنها قيم المحبّة والتضامن والمشاركة والإدراك الصّحيح، بعد أن تكاد الرأسماليّة المفرطة أن تحوّل الأفراد إلى عبيد للآلة ولإشباع النزوات والغرائز والحاجات الماديّة فقط.
- الانتباه إلى أنّ الفردية المفرطة التي صنعها الغرب -حيث تعيش المجتمعات الغربية على وقعها المظلم-تجعل طبائع النّاس مفتوحة على الاضّطراب النفسي والجنسيّ والقلق والشعور بالوحدة وعدم الثقة بفطرته الإنسانية وفقدانه لكلّ مقومات التوازن.
- علينا بكلّ الوسائل والأدوات المتاحة: إعلاميًا، ثقافيًا، فكريًا، تربويًا، سياسيًا فضح ماعني كلّ المصطلحات التي صنعها الغرب تحت شعارات مشوّهة منها ما يتعلّق بالحريّة الفرديّة، ومنها ما يتعلّق بحريّة المرأة، ومنها ما يتعلّق بحريّة الجسد والحريّة الجنسيّة، ما هي إلا شعارات فضفاضة ومغلوطة هدفها تشويه القيم الثابتة وخلق إرباك نفسي وذاتي وعقلي عند الأجيال الناشئة.
- العمل على إنشاء رؤية إعلاميّة واسعة تتبنّاها وسائل الإعلام، المؤسسات المرئية والمسموعة التي تعنى بإنتاج البرامج الثقافيّة والتربويّة؛ خاصّةً التي تهم الأطفال، حيث تهتمّ بشؤون التربية الإعلاميّة (المرئيّة والمسموعة والمكتوبة) للطفل وتراجع كلّ المواد التي تعرض للأطفال، خاصّةً تلك المتعلقة بالبرامج الأجنبيّة (كرتون أو أفلام عائلية)، ولا بدّ أن تكون رؤية متطوّرة ومواكبة لكلّ عناصر التطوّر التكنولوجيّ، والدعاية الحديثة.
- إعداد حلقات توعية وتثقيف في دور الأطفال والمدارس والمؤسّسات التربويّة، خاصّةً باستخدام أساليب الدّعاية المضادة -تظهير الشكل الغربي المروّج على حقيقته المشوّهة وغير الواقعيّة- وأنّه لا يسيء فقط لمجتمعاتنا؛ بل حتى للمجتمعات الغربية وخاصّةً المتدينّة منها التي بدأت تتذمر وتنتقد هذه السّياسات الإعلاميّة وهذه القوالب المشوّهة التي تعرض للأطفال على شكل برامج وألعاب وقصص ذات الهدف التجاريّ، كما تروّج للشذوذ الجنسيّ وللتحوّل الجنسيّ المفرط.
علينا أن ندرك ونراعي في مخاطبتنا لذاتنا وللأمم ما يلي:
إنّ الحرب الناعمة التي يخوضها الغرب علينا، من خلال التّرويج لثقافة الجنس والشّذوذ ومحاولات التسلّل المباشر لعقول الأطفال والناشئة والعمل على ترويض العقول واللّعب بالوعي الجمعيّ، يجب ألّا تنسينا أنّ عصر التكنولوجيا أخفق في الوفاء بوعده في الوصول إلى الرّفاه وتهذيب الذّات والتّعليم الصّحيح؛ بل أصبح يشكّل خطرًا كبيرًا، خاصّةً على أجيال وأجيال من الشّباب المتلهّف لهذه التكنولوجيا والمنبهر بصورها وألوانها المختلفة. وعليه؛ من الضروري العمل على خلق مجال توعية كافٍ لتحصين هذه الأجيال، وعدم إفساح المجال للدخلاء- باسم التكنولوجيا الحديثة وتكنولوجيا المعلومات- ليشوّهوا الأذواق والخيارات والصّور في عقول هذه الأجيال ونفوسها؛ ولذلك علينا:
– أن نعيد للإنسان بعده الآخر، أي البعد الروحي المتلازم مع البعد الماديّ، وهو ديدن الأديان والفلسفات غير الماديّة.
– أن نخوض معركة هدف الحياة في بعدها الفرديّ والجماعيّ والحضاريّ، وأنّ للإنسان أهدافًا متجاوزة لبعده الماديّ.
– يجب الالتفات إلى تطلّعات الجيل الجديد بما يعيد إليه الأمل بالمستقبل، ويثبت الثقة بالنّفس، فربما يمكّن من التغلب على الشّعور بالفراغ والشّعور بخلوّ المعنى، وتعزيز قدرته على الشّعور بأهميّة القيم الواجبة والمستحبّة والتّمييز بينها وبين القيم الهجينة والمستهجنة.
********
لائحة بالمصادر والمراجع:
1- كايت سفيدزر، مسائل الشمول: أكثر 15 لحظة رائدة في مجال LGBTQ + في أفلام وبرامج الأطفال،30 ايلول 2021م https://www.popsugar.com/family/groundbreaking-lgbtq-moments-in-kids-tv-movies-48530343
2- اليغرا فرانك “العالم الغريب” هو أوّل فيلم رسوم متحركة من إنتاج شركة ديزني مع قائد مثلي الجنس. لماذا يتم طمسه؟،23 تشرين الثاني 2022م. https://www.thedailybeast.com/obsessed/disneys-strange-world-is-its-first-animated-movie-with-a-gay-lead-why-1is-it-being-buried
3 – ستيف وارن، “ أجندة مثلي الجنس ليست سرية على الإطلاق ”: ديزني تذهب إلى LGBTQ مرة أخرى مع Gay Teen Romance في الرّسوم المتحرّكة الجديدة الرئيسية،15 تشرين الثاني2022م.
4- دراسة منشورة بعنوان” هل ينبغي أن يكون هناك المزيد من شخصيّات LGBT في أفلام الرّسوم المتحرّكة من ديزني؟”، 19فبراير2020م.https://therift.eu/index.php/2020/02/19/should-there-be-more-lgbt-characters-in-disney-animation-films/
[1] – أنظر دراسة منشورة بعنوان” هل ينبغي أن يكون هناك المزيد من شخصيات LGBT في أفلام الرسوم المتحركة من ديزني؟”
[2]– أنظر ستيف وارن، أجندة مثليّ الجنس ليست سرية على الإطلاق ”: ديزني تذهب إلى LGBTQ مرة أخرى مع Gay Teen Romance في الرسوم المتحركة الجديدة الرئيسية.
[3] -أنظر كايت سفيدزر، مسائل الشمول: أكثر 15 لحظة رائدة في مجالLGBTQ + في أفلام وبرامج الأطفال.
[1] -باحثة وأعلاميّة.
تمرير الشّذوذ الجنسيَّ في الأنمي والمانجا والألعاب الإلكترونيّة
مجتمعاتنا العربيّة، على مرّ التّاريخ عانت ما عانته من حروبٍ وتحدّيات عقيمة، ولكن ما نتعرّض…