د. طلال عتريسي*
صدر عام 1985 م في الولايات المتّحدة، كتاب (نحو 500 صفحة) [1]، ألّفته المؤرّخة الأميركيَّة غيردا ليرنر (Gerda Lerner) وعنوانه: “نشأة النظام الأبويّ”. وهو من الكتب الَّتِي ألهمت الحركات والجمعيّات التي تبنّت الدعوة إلى الجندر، وإلى المساواة ، وإلى إلغاء الهيمنة الذكوريَّة الأبويَّة، خاصّة وأنّ الكتاب يجعل من الجنس، من حيث الذكورة والأنوثة أساسًا لتحليله.
ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب الَّذي استغرقت المؤلّفة، كما تقول، سبع سنوات في تأليفه، أنّه يربط نشأة النّظام الأبويّ بالثقافة الغربيَّة، خلافًا لكلّ الَّذين كتبوا عن هذا النظام من العرب والمسلمين، الذين انتقدوه، وعدّوا الدين الإسلاميّ، والمجتمع الشرقيّ، والعادات والتقاليد، هي المسؤولة عن إنتاج النّظام الأبويّ وما يقوم به من تهميش للمرأة ومن تسلّط عليها، وعلى باقي أفراد الأسرة.
تتبنّى ليرنر الأطروحة الَّتِي باتت معروفة اليوم لدى المدافعين عن الجندر، وهي رفض الاختلاف بين الرجال والنساء بسبب هُويّتهم البيولوجيَّة. إلَّا أنَّ المؤلّفة تعتبر أنّ المصدر الَّذِي جعل النساء في وضعٍ أدنى، هي المنظومة التربويَّة الغربيَّة المُستمَدّة من الدّين المسيحيّ، “حيث الله لا يتحدّث مع النساء، ولا تستطيع النساء التَّحدُّث مع الله، ولا يستطعْنَ الوصول إلى الله، إلّا عبر توسُّط الرجال. وفي حقبة ألفي سنة من التاريخ المسيحيّ، اعتُنقت تلك الأفكار كأنّها أوامر من الله، وصارت مُتضمّنة في المنظومة التربويَّة الغربيَّة على جميع المستويات”.[2]
إذاً؛ النظام الأبويّ هو بالنسبة إلى “ليرنر” نتاج ألفي سنة من التاريخ المسيحيّ، وهو نتاج المنظومة التربويَّة الغربيَّة المُستمدّة من ذلك الدين.
تربط ليرنر بين ذلك البُعْد الدّينيّ، وبين ما تُسمّيه “التّأسيس الفلسفيّ للحضارة الغربيَّة” لتفسير نشأة النّظام الأبويّ. فقد” قالت الفلسفة الأرسطيَّة إنّ النساء كائنات بشريَّة ناقصة ومُشوّهة…ومع إنشاء هاتين البُنْيَتين (تجريد المرأة الرمزيّ من العلاقة مع المُقدّس، بما هي رمز الخطيئة والشّر، والفلسفة الأرسطيَّة: المرأة كائن ناقص)، صار يُنظر إلى خضوع النساء على أنَّه “طبيعيّ”، ولهذا صار غير مرئيّ. وهذا في النهاية ما أسّس النّظام الأبويّ بقوّةٍ بوصفه واقعًا وأيديولوجيا”.[3]
من المعلوم، في هذا المجال، أنّ الربط المسيحيّ (التوراتيّ) للمرأة بالخطيئة الأصليَّة، وبالبُعْد من المقدّس، ناتج من تلك الرُّؤية التَّوراتيَّة الَّتِي تقول بأنّ حواء أغوت آدم بتناول التفاحة الَّتِي أخرجته من الجنّة. لكن تلك الرُّؤية ليست كذلك في المنظور القرآنيّ، وهي تختلف تمامًا؛ إذ تتحدّث القصّة عن إغواء الشيطان “لهما” (آدم وحواء)، في قوله تعالى: ﴿فدلّاهُما بغرور فلمّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما﴾[4]، والخطاب هنا عن آدم وحواء، ﴿فأكلا منها﴾[5]، ﴿فأزلّهما الشيطان﴾[6]، لقد كان العمل مُشتركًا (بالمثنّى وليس بالمفرد)؛ أي إنّ الرُّؤية القرآنيَّة لا تبدأ باتّهام المرأة، ولا بدونيّتها، وهي ليست مصدر أيّ خطيئة أصليَّة؛ بل “هما” معًا الرجل والمرأة، آدم وحواء، يتحمّلان بالتّساوي نتيجة ما فعلاه، فأُخرجا من الجنّة. وتلك نقطة افتراق أساسيَّة عن التّأسيس التوراتيّ لدونيَّة المرأة.
تضيف ليرنر الدَّاروينيَّة إلى تفسيرها لنشأة النّظام الأبويّ: “فقد هيمنت الدَّاروينيَّة على الفكر التّاريخيّ…الَّتِي حسبت أنّ ما نجح وبقي حيًّا، عُدَّ متفوّقًا على ما تلاشى؛ لأنّه فشل”. وطالما أنّ الافتراضات المتمركزة ذكوريًّا هيمنت على تفسيراتنا…فقد افترضنا وجود الهيمنة الذكوريَّة بوصفها حقيقةً مُقرّرة، وحسبنا أيّ دليل يُشكّك في ذلك مجرّد استثناء عن القاعدة، أو بديلًا فاشلًا”.[7]والمقصود بذلك أنّ الدّاروينيَّة سوّغت للرجال بقاء سيطرتهم؛ لأنّ تلك السَّيطرة بقيت واستمرّت…
ما توصّلت إليه ليرنر في كتابها “نشأة النّظام الأبويّ” غاية في الأهمّيَّة، فهي تربط نشأة ذلك النّظام بتقاليد مسيحيَّة، وبتوجُّهات فكريَّة وفلسفيَّة يونانيَّة وغربيَّة حديثة؛ ما يفرض إعادة التّفكير، وحتّى التّراجع عن كلّ تلك الاتّهامات إلى المجتمعات الشّرقيَّة، بوصفها أصل البلاء في نشأة ذلك النظام. وعلى الاتّجاهات الجندريَّة بعد ذلك أن تقف بقوّةٍ ضدّ الحضارة اليونانيَّة، وضدّ الفرويديَّة “الذكوريَّة”، وضدّ تدريسهما في الجامعات، على غرار الجهود الحثيثة، الَّتِي تبذلها لتغيير الصُّور النّمطيَّة عن الذكور والإناث في مناهج التعليم في المدارس الابتدائيَّة والثانويَّة.
- استهداف الأبويَّة:
إنَّ فكرة إزاحة سُلطة الأب ليست جديدة؛ بل على الأرجح هي نتاج سلسلة من التّراجعات مرّت بها الأبويَّة أدّت إلى إضعافها، ثمّ إلى تهميشها، لتُستبدل لاحقًا بأنموذجٍ جديدٍ للأسرة وللأُبُوَّة. لقد حصل ذلك تدريجاً نتيجة تحوُّلات في المجتمع الأوروبيّ ابتداءً من القرن التاسع عشر، بعد الثورة الفرنسيَّة، (1789م) الَّتِي نظّمت برنامجًا عُرف بـ”اجتثاث المسيحيَّة” من فرنسا، من خلال تدمير كل ما له علاقة بالمسيحيَّة من رموز، وتماثيل، وأيقونات، وصُلبان، وأجراس. وتمّ إنهاء الشّعائر الدينيَّة والدّين نفسه.
هكذا أسّست الثورة الفرنسيَّة للانقلاب على صورة الأب بعد الحرب الَّتِي شنّتها على المسيحيَّة، وبعدما رفعت شعار العداء للدين ولرموزه ومُؤسّساته. وقد تمّ الربط في هذا الهجوم المباشر على المسيحيَّة بين الإطاحة بسُلطة الملك “الأب”، صاحب “الحقّ الإلهيّ” في كل الأمور السِّياسيَّة والرُّوحيَّة، وبين سُلطة الأب “رأس العائلة”.
كانت الثورة الفرنسيَّة من خلال شعاراتها عن الحرِّية والمساواة والإخاء، تستهدف ليس الملك فقط؛ بل السُّلطة الدِّينيَّة الَّتِي كان الملك يحتمي بها، ويحسب نفسه امتدادًا لها. خاصّة وأنّ النُّصُوص الدّينيَّة المسيحيَّة تؤكد تلك العلاقة المُقدّسة بين “الأب” و”الابن” و”الروح القُدس”. “والله هنا يرعى شعبه، كما يرعى الأب أبناءه، “أبانا الَّذِي في السّماوات”. يقول النبي أشعيا في إحدى صلواته: «ومع ذلك فأنت يا الله أبونا…”[8] ويتكرّر ذلك البُعْد للأبّوة والبنّوة في النُّصوص والأسفار المقدّسة. وبهذا المعنى، ومن خلال دلالات “الأُبوّة المسيحيَّة”، كانت الإطاحة بسُلطة الكنيسة بعد الثورة الفرنسيَّة، هي عمليًّا، دعوة، في الوقت نفسه، للإطاحة بسُلطة الأب؛ أي هي إطاحة بسُلطة الأب “الَّذِي هو في السّماوات”، وبسلطة الأب الَّذِي هو على الأرض.
لم يقتصر استهداف الأُبوّة على رمزيّتها الدينيَّة والرعائيَّة العائليَّة؛ بل امتدّ ذلك الاستهداف إلى الرَّمزيَّة الزَّوجيَّة أيضًا، (الرباط الزوجيّ لن يعود مُقدّسًا)؛ لأنّ النّصّ المسيحيّ الَّذِي يؤكّد قُدْسيَّة الحياة الزَّوجيَّة، ويُعظّم من شأنها، يؤكد، في الوقت نفسه، تبعيَّة الزّوجة لزوجها، وأنّ الزّوج هو رأس العائلة. “أُريد أن تعلموا أنّ رَأسَ كُلِّ رَجُلٍ هو المسيِحُ. وأمَّا رأسُ المرأةِ فهُوَ الرَّجُلُ”؛ ما يعني أنّ تلك البِنْيَة من العلاقات (تقديس الزَّوجيَّة، ورأس العائلة، وسُلطة الأُبوّة…) كما هي في البُعْد المسيحيّ، يجب أن تتفكّك وتسقط، بعدما قُطع حبل الوريد الَّذِي هو مرجعيّتها الدِّينيَّة المسيحيَّة.
هكذا فتحت الثورة الفرنسيَّة، من خلال عدائها لكلّ ما هو دينيّ، الأبواب أمام ما ستعرفه أوروبا لاحقًا من تبخيس لدور الأُبوّة، ومن تفكيك للإطار العائليّ. وسيتأثّر علماء النفس والاجتماع والتربية، في كثير من نظريّاتهم وأعمالهم، في فهم المجتمع، وفي حلّ مشكلات الأفراد بتلك البيئة من العداء للدين، وبالدعوة إلى التفلُّت من الضّوابط، الَّتِي كانت تدعو إلى المحافظة عليها والتمسُّك بها. وسيصبح كلّ ما له علاقة بالرُّموز والدّلالات الدِّينيَّة، بعد الثورة الفرنسيَّة، موضع شكّ وتساؤل طوال القرن التاسع عشر. كما سيتراجع دور الآباء والحضور العائليّ، بعدما تحوّل الزواج إلى عقدٍ مدنيٍّ، وبعدما تمَّ التّعامل مع وضع الأطفال الشَّرعيِّين على قدم المساواة مع الأطفال “الطَّبيعيِّين”(من خارج الزواج، وغير معروفي الأب). وستُسهم حركات الشَّبيبة في السِّتينيَّات، والشّعارات الَّتِي رفعتها من أجل التَّحرُّر من سُلطة القيود المفروضة على الحريات الشَّخصيَّة (ثورة الطُّلَّاب في فرنسا 1968م)؛ في هذا الإضعاف المتواصل للسُّلطة الأبويَّة.
- – “ذكوريَّة” الحضارة اليونانيَّة
تُعَدُّ الحضارة اليونانيَّة من أحد أهمّ روافد الحضارة الغربيَّة الحديثة، ويُقرّ الباحثون على اختلاف اتّجاهاتهم بمزايا نتاجها الفكريّ والفلسفيّ وغزارته. وعلى الرّغم من ذلك، فقد استبعدت تلك الحضارة المرأة بالكامل من الحضور الاجتماعيّ والثّقافيّ والسّياسيّ. وها هو “وول ديورانت”، في مُؤلَّفِه الشهير “قصّة الحضارة”، يُبدي دهشةً بالغةً من ازدهار الحضارة اليونانيَّة، دون أن يكون للمرأة فيها “نصيب”.
كانت الحياة العامّة في أثينا، في الطّرقات، وأماكن الاجتماع، خاصّة بالذكور. وكانت الأسواق ومنتديات الرياضة والجمعيَّات، أماكن يتقابل فيها الرجال مع الرجال. والواقع أنّ المدينة اليونانيَّة كانت من مختلف الوجوه منتدى للرجال…وتلك كانت الحال في الزواج الَّذِي يفرضه الأهل، وكانت الفتاة تتزوّج عادة في سنّ الخامسة عشر، أو السّادسة عشر من شاب في الثلاثين… فإذا ما تزوّجت كان عليها مجموعة من الواجبات، أوّلها العناية بالمنزل…وإذا خرجت إلى الشارع وَجَب عليها أن تتحجّب. وهو فرض على المرأة الحُرّة وحدها دون الجواري، أو الأجنبيّات: “كانت نساء اليونان يستعملن الخمار إذا خرجن، ويخفين وجوههنَّ بطرف منه، كما هي الحال عند الأُمَم الشَّرقيَّة… وحتى بنات الطّبقات الرّاقية انحصرت أعمالهنّ في وظيفةٍ واحدةٍ، أن يكُنّ زوجات ومُدبّرات. يقول زينوفان: “ليس ممّا يشرّف المرأة أن تكون خارج بيتها…” كان المجتمع الأثيني مجتمعًا أبويًّا الرجل فيه هو “السيّد”، و”المالك” لجميع الحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة. ومِنْ ثمَّ؛ هو المالك للأسرة بما في ذلك الزوجة والأولاد”.[9]
لم يقتصر الأمر على استبعاد المرأة من المشاركة في هيئاتٍ سياسيَّةٍ واجتماعيَّة، وفي الحياة العامّة في المجتمع اليونانيّ؛ بل ها هي فلسفة أفلاطون تعكس “كراهية المرأة” المُتأصِّلة في التُّراث اليونانيّ .. كما وضع أرسطو أيضًا نظريَّة متكاملة، ليؤكّد من النّاحية العقليَّة الخالصة الوضع المُتدنِّي للمرأة، الَّذِي ساد التُّراث اليونانيّ القديم. ويعتقد “أرسطو” بأنّ المرأة ليست إلّا رجلًا ناقصًا، وخطأ حصل في الطّبيعة، ونتاج نقصٍ في الخلقة.[10]
إنّ أصل مشكلة استبعاد النساء واحتقار أدوارهنَّ، يكمنُ في الذِّهنيَّة اليونانيَّة الغربيَّة؛ فدراسة آراء مُفكّري الغرب منذ العصور القديمة إلى عصر التّنوير، وحتّى بعد ذلك، تُشير إلى نظرةِ الاحتقار الشّديدة تجاه النساء؛ من حيث المذمّة والملامة، والألفاظ السّيّئة، وعبارات التحقير…
يَفترِض ما تقدّم أن تبدأ الجندرية والنسويّة، ومن خلفها الأمم المتحدة ومؤتمراتها، توجيه النقد ليس إلى الإسلام أو إلى نظامه الأسري، وليس إلى العادات والتقاليد، بل إلى ذلك الإرث اليونانيّ، الأصل الَّذِي بنُيت عليه الحضارة الغربيَّة في التأسيس للأبوية التسلطيّة، وفي نظرتها السَّلبيَّة والدُّونيَّة إلى المرأة…
* أستاذ علم الاجتماع.
[1] ليرنر، غيردا : نشأة النّظام الأبويّ، المنظّمة العربيَّة للترجمة، بيروت، 2013م.
[2] ليرنر، المرجع نفسه، ص8.
[3] ليرنر المرجع السابق ، ص 36.
[4] سورة الأعراف،الآية 22.
[5] سور طه، الآية 121.
[6] سورة البقرة، الآية 36.
[7] ليرنر، المرجع نفسه، ص 44.
[8] (أشعيا 64:8)
[9] عبد الفتاح إمام، إمام، أفلاطون والمرأة، مكتبة مدبولي، القاهرة، لا ط، 1995، ص: 17 /23 /33 /35 /36 /41 /57.
[10] المرجع نفسه، ص 16.
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…
نشكر مركز المشارق على هذه المقالة التي أعتبرها في غاية الأهمية والموضوعية