مقالات - 04/01/2024

الزّواج مدنيّ أم وضعيّ؟

تدليس المصطلح وتبليس الدّلالة

د. علي فضل الله [1]


[1] — أستاذ حوزوي وجامعي..

الملخّص:

يتزاحم العرب للّحاق بركب التّطوّر والحداثة، وبهدف ذلك، يقومون أحيانًا بتبنّي مفاهيم ومصطلحات وعادات تميّز المجتمع الغربيّ، ظنًّا منهم أنّهم بذلك يتحضّرون. ومن أبرز ما يُنادى به، اليوم، المدّنيّة بكلّ ما يرتبط بها وخاصّة الزّواج المدنيّ. ولا يوفّر القائمون بهذه الحملات جهدًا لاستمالة النّاس والسّيطرة على عقولهم وأذهانهم بهدف جعلهم مناصرين لحملاتهم الإعلاميّة الهادفة ضمنيًّا إلى إبعاد النّاس عن الدّين، من خلال تفكيك الأسر والمجتمعات. يتناول هذا المقال عشرة تعريفات لمصطلح “مدني”؛ فهم يقيمون مقارنة بين تعريف معيّن ونقيضه؛ ذلك بهدف تمييز الأساسيّ الأصيل عن المستورد من الغرب الهادف إلى السّيطرة على عقول النّاس وإقناعهم بأنّ المدنية سبب خلاصهم من القيود الدّينيّة المفروضة عليهم.

كلمات مفتاحيّة

مدنيّ – استعمار- علمانيّة- مثليّة- زواج مدنيّ- اغراق ثقافيّ مشوّه- حركات الإصلاح- التّنوير – الغطاء الإلهيّ- فقه الأسرة – الدّومينو- البيدوفيليا- علمنة- التّدليس- التّفكّك الاجتماعيّ.

مقدّمة

إنّ السّؤال الّذي يمكن أن يوجّه، خصوصًا، إلى النّاطقين باللّغة العربيّة، هو عن معنى مصطلح “مدنيّ”، فكيف سيجيبون؟

بحسب الاستقراء؛ ستكون الإجابات مبهمة، بين من يعدّ “المدنيّة” إبعادًا لرجال الدّين عن السّياسة، أو العمل العامّ، وبين من يربط كلمة “مدنيّ” بالحداثة والمعاصرة والتّطور الّذي لا بدّ منه. وقد يرفض آخرون  المصطلح؛ لأنّه يتناقض، برأيهم، مع ما هو “شرعيّ” في الإسلام، مثلًا، من دون أن يكون لديهم فكرة واضحة عمّا تعنيه هذه الكلمة. واقعيّا؛ إنّ تعريف المصطلحات وفهمها، عند العامّة، هو سلاح يمكن استخدامه للتّضليل أو التّصويب. كما أنّ حسن اختيار المفردات أمر محوريّ، في سياق صناعة حملة إعلاميّة أو ثقافيّة ناجحة من جهة، وقد يعبّر عن نصف هزيمة في حال استُخدم مصطلح صاغه آخرون من دون تدقيق، من جهة أخرى.

من هنا؛ ينبغي الالتفات إلى أنّ التّرويج لفكرة ما، جيّدة أم سيّئة، يستلزم أوّلًا، رفع جودة تقديمه إلى الآخرين؛ ذلك من خلال تفتيت أي مقاومة لقبح المفهوم المراد التّسويق له أو الأضرار الجانبيّة المترتّبة عنه.

انطلاقًا من هذا، تلجأ شركات العلاقات العامّة والإعلان إلى البحث المعمّق في المصطلحات المتداولة من أجل خلق علامة جديدة يتقبّلها عقل النّاس بسهولة أكبر. مثال على ذلك: استخدام مصطلح “استعمار” لترجمة معنى الاحتلال الوحشيّ للشّعوب الأخرى، أو كلمة “علمانيّة” لترجمة فكرة فصل الكنيسة عن الدّولة في السّياق الأوروبيّ، أو كلمة “مثليّة” لوصف الشّذوذ المرفوض، أو سواها من المصطلحات أو التّرجمات المشبوهة.

يتكرّر الأمر مع مصطلح “مدنيّ”؛ فتسمعهم يكرّرون استخدام تعبيري “زواج مدنيّ” أو “دولة مدنيّة”، حتّى الإطناب في النّقاش العامّ من دون تحديد المقصود. فيجترّ البعض هذه المصطلحات، وتقترن في ذهنه بالخطاب السّائد والمقبول؛ بل، إنّه يصبح مدافعًا شرسًا عمّا لا يعلم. هنا، تبدأ الفتن باختلاط الحقّ بالباطل، وحينها يستولي الشّيطان على أوليائه؛ فيتوجّب على أصحاب الفكر والقلم والأدب التّصدّي لهذه الحملات، وتنقية أذهان العامّة من الإغراق الثّقافيّ المشوّه الّذي تتعرّض له.

معاني كلمة مدنيّ

بحسب التّعريف بالنّقيض، يمكن تلخيص معاني مصطلح “مدنيّ”، بصورة واضحة.

 وهنا عشرة تعريفات للمصطلح:

  1. مدنيّ مقابل عسكريّ: في اللّغة العسكريّة؛ يكون المدنيّ هو الشّخص غير المقاتل أو المحارب، وتكون الأعيان مدنيّة عندما لا تُستخدم في إطار عسكريّ. وفي القانون الدّوليّ الإنسانيّ (Jus in Bello)[1] ، يتمتع المدنيّون والأعيان المدنيّة بالحماية من الاستهداف إلّا لضرورات عسكريّة خاصّة سنفصّله في محلّه؛ لذلك، نجد هنا استخدامًا مكثّفًا لمصطلح “مدنيّ” في مجال محدّد.
  2. مدنيّ مقابل ريفيّ: مدنيّ هنا تعني مدينيّ، وهي تعبير يستعمل للتّمييز المجتمعيّ بين مدنيّ وريفيّ (Rural)، وهذا معنى آخر لكلمة “مدنيّ”.
  3. مدنيّ مقابل أهليّ: المجتمع الأهليّ (Society Communal) هو ذاك المحافظ على الأشكال التّقليديّة للرّوابط الاجتماعيّة من أسرة وعشيرة وقبيلة، في مقابل المجتمع المدنيّ المتشكّل من مؤسّسات تعاقديّة. في هذه النّقطة؛ نلحظ خلطًا غير مسوَّغ بين ما هو أهليّ ومدنيّ. مثالٌ على ذلك، تُترجم “Civil War” بالحرب الأهليّة، مع أنّها ترجمة خطأ؛ إذ إنّها، حرفيًّا، تعني الحرب المدنيّة؛ فيكون السّؤال طبيعيًّا في هذه الحال: لماذا التّلاعب بالتّرجمات إلى العربيّة، وهي مسألة تتكرّر، كما لاحظنا، في بعض النّماذج الواردة أعلاه، وهل المقصود إعلاء كلمة “مدنيّ” لاستخدامها كما أراد المروّجون لها؟

    نعم، هي حروب مدنيّة، وليست أهليّة بالضّرورة.

  • مدنيّ مقابل معماريّ: في علوم الهندسة، يكون دور المهندس المعماريّ تصميم المباني والهياكل إضافة إلى الجوانب الجماليّة. أمّا المهندس المدنيّ(الإنشائيّ) فيركّز على العناصر الهيكليّة للتّصميم من أجل أن يتحمّل الظّروف كافّة. وقد استُخدم مصطلح “مدني” هنا لتمييزه عن الهندسة العسكريّة، وهو ما يردّنا إلى التّعريف الأوّل، لكن يبقى أنّ المصطلح يُتداول مفردًا في هذا الجانب التّخصّصيّ.
  • مدنيّ مقابل عام أو عمومي: في علوم القانون؛ يُميّز بين القانون المدنيّ كما هو الحال في القانون الفرنسيّ، وبين القانون العامّ أو العموميّ (Common Law) كما هو الحال في بريطانيا؛ حيث إنّه ليس هناك قانون مكتوب، ويعتمد إصدار الأحكام على السّوابق والأعراف وغيرها.
  • مدنيّ مقابل جزائيّ: يميّز في القانون، أيضًا، بين القانون المدنيّ وأصول محاكماته وبين القانون الجزائيّ وأصول محاكماته؛ حيث تصبح الدّولة والمجتمع طرفًا في العمليّة القضائيّة على أساس الحقّ. هذه استعمالات أخرى لمصطلح “مدنيّ”، وهي شائعة ومعروفة.
  • مدنيّ مقابل سريّ: في الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الملحقة بها؛ ثمّة إيمان بسبعة أسرار، أحدها سرّ الزّواج؛ حيث أصبح الطّلاق متعذّرًا، والهجر مهربًا، والبُطلان حلًّا مكلفًا. لذلك؛ تميّزت مشاريع الزّواج المعارِضة للنّص السّائد بالسّماح بالطّلاق، وسُميّت مدنيّة.
  • مدنيّ مقابل كنسيّ: هو مرتبط بالتّعريف السّابق، لكنّه أشمل. فمنذ اتّفاقيّة “وستفاليا[2]” 1648 إلى حركات الإصلاح الدّينيّ: “اللّوثرية” و” الكالفنيّة” وسواها، وما سُمّي بالتّنوير إلى ثورة نابليون الثّقافيّة؛ فقد أطيح بسلطان الكنيسة السّياسيّ والاقتصاديّة في الدّاخل الأوروبيّ – دون خارجه- إلى الحدّ الأقصى. وكانت المصطلحات البديلة في النّموذج المعرفيّ الآتي هي: المدنيّة والوضعيّة والأنسنة والتّجريبيّة والوجوديّة وغيرها من سلّة كلمات تناسب المرحلة الجديدة الّتي أصبحت اليوم متقادمة.
  • مدنيّ مقابل السّلطة: بحسب” هيغل”، إنّ المجتمع “المدنيّ” هو كلّ ما بين الفرد والدّولة، ويمكن تظهيره في تسع مؤسّسات. من هنا؛ بدا في هذه الفئة من التّعريفات، أنّ مصطلح “مدنيّ” يقابل الدّولة، وتحرّكات جمعيّاته الحاملة له مستقلّة عن السّلطة العامّة وسياساتها العموميّة؛ فيكون مكمّلًا لها أو منتفضًا عليها، بحسب نوع الإدارة والتّوجيه والتّمويل الّذي يتمتّع به.
  • مدنيّ مقابل مكّيّ: في علوم القرآن، يميّز بين الآيات المكيّة والمدنيّة، نسبة إلى مدينتَي مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، على أسس الضّابطة الزّمانيّة أو المكانيّة أو الخطابيّة، والرّاجح عند المفسّرين الضّابطة الأولى.

يقول “فولتير”:” إذا رغبت في التّحدّث معي، عرّف مصطلحاتك”. هذا صحيح؛ فإنّ كثرة التّعريفات لمصطلح واحد يثير خطر التّدليس فيها، وتضييع دلالتها على مستوى الخطاب؛ وهذا ما حصل بكثرة في مصطلح “مدنيّ”، خصوصًا في اللّغة العربيّة. لا تعني كلمة “مدنيّ” حداثيّ ولا عصريّ ولا متطوّر، كما أنّها لا تعني غير دينيّ. وهذه نقطة لا بدّ من عرضها، ولو باختصار.

الفارق بين غير الدينيّ وغير الكنسيّ

في تعريف كلمة “دين”، هناك آراء عدّة في علم الكلام[3] وهناك فارق بين الدّين الحقّ والدّين المتحقّق. فبالنّسبة إلى المسلمين، والمسيحيّين ينظر كا منهم إلى دين الآخر بشكل مختلف هذا الاختلاف طبيعيّ في الفكر، وهو يسمح بالمقارنة العلميّة المجرّدة بين “الدّيانتين”. نركّز هنا على الإسلام والمسيحيّة كونهما الأكثر تقابلًا وانتشارًا في العالم. إضافة إلى أنّ جزءًا من هويّة “الغرب” مسيحيّة، وهذا معلنٌ رغم سرديّة “علمانويتّه”. كما أنّ الغرب هو الّذي يطرح نفسه بصفته ثقافة هجوميّة يريد عولمتها بالقوّة.

أمّا مشكلة “الغرب” مع مسيحيّته، فهي شأنه، وليس المقام هنا تقويم قبوله أو رفضه للكنيسة. لكنّ المشكلة العميقة هي في التّضخّم الذّاتيّ للعقل الجمعيّ الغربيّ على نحو انتقاميّ من تاريخه الجاف، والّذي وصفه “مكيافيلي” بعصور الظّلمات. وقد أدّت هذه الحال إلى نتيجتين: الأولى هي سرقة إنجازات اليونانيّين والرّومان التّاريخيّة ونسبتها إلى نفسه، مع أنّها حضارات متوسطيّة وليست شماليّة أوروبيّة شابت علاقته معها كثير من النّزاعات، والثّانية عدّ “الغربيين” مشاكلهم وكأنّها مشاكل العالم كلّه، وهذا لا يستقيم مع العقل السّليم.

ابتداءً من هنا، يصبح تعريف “العلمانيّة” بأنّها فصل الدّين عن الدّولة خطأً؛ بل، هو فصل الكنيسة عن الدّولة. وتصبح مقولة “ماركس” بأنّ “الدّين أفيون الشّعوب” أدقّ لو أنّه وصف واقعه الخاص، وهذه أزمته مع الكنيسة وحدها. ليست الأديان كلّها متشابهة، ومن مظاهر الاختلال العلميّ استيراد مصطلحات أجنبيّة والتّداول بها خارج سياقها. فإذا كان المقصود بمصطلح “مدنيّ” ما هو معارض لتدخّل المؤسّسة الدّينيّة في الحياة، فهي مشكلة أوروبيّة وغربيّة، وليست مشكلة الإسلام. نعم، في تاريخ المسلمين، وليس التّاريخ الإسلاميّ[4]، هناك مشكلة سلطات غير دينيّة تلطّت بغطاءات مذهبيّة ودينيّة معيّنة، لتُخضع النّاس. أمّا الإسلام، فهو لم يحكم كونه دينًا، ولا المؤسّسة الدّينيّة أو المسجد، مقارنة بالكنيسة مثلًا، إلّا لسنوات قليلة، وهذا يُناقش بالتّفصيل في الفقه السّياسيّ.

من جهة أخرى، لا بدّ من التّعرض ولو بسرعة، إلى أنّ المسيحيّة الحاليّة تترك ما لقيصر لقيصر، وهو ليس شأن الإسلام؛ حيث الشّريعة تامّة، ولكلِّ واقعةٍ حُكم. هذا هو الواقع العلميّ، بغضّ النّظر عن مدى تطبيق الإسلام وحاكميّته من عدم تطبيقه.

“علمنة” الأسرة

تسعى الثّقافة الماديّة إلى تفكيك الأسرة، وإعلاء المصلحة الخاصّة لكلّ فرد فيها. من خلال الإجهاز على الأسرة الممتدّة، وضرب مفاهيم صلة الرّحم وبرّ الوالدين؛ حتّى إنّ حواجزًا توضع بين أعضاء الأسرة النّواتيّة. ويلاحظ الجميع اليوم كيف ينشغل كلّ فرد من العائلة بنفسه وهاتفه وأصدقائه واهتماماته، ولا يبدو على مروّجي الفردانيّة أي انزعاج بسبب ذلك.

إذ وفاقًا للتّاريخ الأوروبيّ؛ فقد أسهمت” البروتستانيّة” في خلق “اللّيبراليّة” بمفهومها الحديث، وبات لكلّ شخص حريّة تحديد علاقته مع خالقه، ثمّ مع الآخرين. وقد تراجعت تدريجيًّا مفاهيم التّراحم والحميميّة؛ بل، بات هناك من يهاجمها. إضافة إلى ذلك، فقد أُعلي شأن القانون كونه النّاظم الوحيد للعلاقات الاجتماعيّة، وهو أمر خطير. فالقانون قد حُصر في إطار وضعيّ مصلحيّ، وهو يتأثّر جدًّا بانزياحات ميول الطّبقات المؤثّرة في المجتمع. ولم يعد القانون عبارة عن قواعد اجتماعيّة تلحظ وجود وعي أعلى أو هدف أسمى أو نظام عام أوسع؛ بل، استُخدمت لغة القانون المقعّدة وقوّة الزّجر واستعمال العنف الشّرعيّ الّذي تتمتّع به قواعده، لإعادة تشكيل المجتمعات على أساس تعاقديّ صارم، يُغيّب العدالة الحقيقيّة ويملأ العالم بالظّلم، تحت ستار انضباط الضّعفاء.

بدءًا من ذلك، تحوّلت العلاقات الأسريّة إلى تعاقديّة: يتعامل الزّوجان مع بعضهما البعض، ويتعامل الأولاد مع أهلهم على أساس الحقوق حصرًا؛ فإذا قصّرت الزّوجة في دفع نصف تكاليف النّفقة، يمكن للزّوج مقاضاتها، وإذا رفعت الأمّ صوتها على ابنتها قليلًا؛ فلها أن تهاتف الشّرطة للشّكوى. لقد باتت الدّولة تتدخّل في الأسر بطريقة سلبيّة، فضاع الإنسان، واختفى التفهّم والتّغافل والتّراحم. فيمكن القول، إنّ هذا غير مقبول، فالأسرة هي الخليّة الأساسيّة في المجتمع، والّتي يتعيّن على الدّولة والمجتمع حمايتها[5]، وليس تدميرها. لقد تعلمنت الأسرة، وبات الابن ينتظر سنّ تحمّل المسؤوليّة “المدنيّة”، أي سن 18 مثلًا، ليفتح باب بيت أهله ويغادره إلى الأبد، إن شاء ذلك. وبات بإمكان الأهل أن يجبروا أولادهم على دفع بدل السّكن إذا أرادوا البقاء فيه بعد هذا السّن.

خلاصة القول؛ إنّ نزع الغطاء الإلهيّ عن الأسر، تحت مسمى “مدني”، لم يؤدّ إلّا إلى تحطيم الأسرة، وليس حمايتها وبنائها.

قانون/ فقه الأسرة، وليس “أحوال شخصيّة”

شاع استخدام مصطلح “الأحوال الشّخصيّة”، في القوانين والخطاب العام، للحديث عن القواعد الحاكمة على الوقوعات وعلى الأسرة. وهذا ليس في محلّه؛ إذ ينبغي لفت النّظر إلى أنّ الزّواج ليس عقدًا عاديًّا بين طرفين. فهو يختلف عن عقد البيع الّذي يوقّع بالتّراضي فقط، مع وجود قواعد عامّة ناظمة له. الزّواج هو نظام اجتماعيّ كامل، حدّدت شروطه الملزمة قبل حدوثه، وهذا مبدأ عالميّ. نعم، هو كالعقود، يمكن إضافة شروط عليه وفق آليّة محدّدة؛ لكنّه يتمتّع بخاصيّة تميّزه.

لذلك؛ فالزّواج ليس حالًا شخصيّةً، يتحقّق بسلطان الإرادة البحتة للفرد؛ بل، هو شأن للمجتمع دخالة فيه، بسبب أهميّته الفائقة في نسيج المجتمع وتماسكه. من هنا؛ إذا زادت حالات الطّلاق مثلًا؛ فالمعنيّون سيستنفرون للمعالجة بسبب خطورة هذا الأمر على الاستقرار العامّ في المجتمع. وبناءً عليه؛ يُتداول اليوم بقانون الأسرة، أو فقه الأسرة، ولا يُحبّذ استخدام المصطلح المستورد أي الأحوال الشّخصيّة.

دومينو التّفكيك الاجتماعيّ

يُناقش البعض الزّواج “المدنيّ”، وضرورة فرضه بادّعاء زيادة التّماسك في المجتمع، ومحاربة الخلافات بين مكوّناته الطّائفيّة أو القوميّة أو المذهبيّة، ولمواكبة المعاصرة، والتّضييق على علماء الدّين. تحدّثنا عن تدليس مصطلح “مدنيّ”، بينما الاسم الصّحيح لما يُطرح من مشاريع زواج ينبغي أن يكون الزّواج البلجيكيّ أو الفرنسيّ أو البريطانيّ أو غيره؛ لأنّها مشاريع مستوردة ومترجمة، حتّى لو طالتها بعض التّعديلات، شأنها شأن أغلب قوانين بلادنا للأسف. إنّ الهروب لكلمة “مدنيّ” تلاعبٌ انطلى على كثيرين، خصوصًا إذا أُرفق بكلمة “اختياريّ” لاستدرار المزيد من التّعاطف، وكأنّ القوانين اختياريّة وليست زجريّة. فمن شروط القاعدة القانونيّة هي أن تكون بالفرض، ولو بعد حين.

يُخلط بين الزّواج المختلط وبين الزّواج المسمّى “مدنيًّا”، ويروَّج له على أساس أنّه يعطي حقوقًا أكبر للمرأة، وفاقًا لسرديّة أشاعت بأنّ المرأة مظلومة دائمًا وأبدًا في مجتمعاتنا، وهو ما ينافي التّاريخ. كلّ ظلمٍ مرفوض مطلقًا، لكن وفاقًا لأسس علميّة، غير اجتزائيّة أو انتقائيّة أو افتراضيّة. الملاحظ أنّه قلّما أن نجد من قرأ وفنّد مشاريع الزّواج “المدنيّ” المطروحة، وقليلون هم ممن لاحظوا أنّه لم ينجح في الغرب في حماية الأسرة. إذا كان البعض يريد استيراد كلّ ما يرد من “الغرب”، فليتأكّد أوّلًا من جودته.

لكنّ الدّومينو لا يتوقّف هنا؛ إذ يُلاحظ أنّ مؤيّدي الزّواج والطّلاق الأجنبيّ هم أنفسهم أكثر تقبّلًا للمساكنة، وأقلّ ممانعة تجاه طروحات الشّذوذ المعاصرة. وقريبًا سيتمدّد قبولهم لـ “البيدوفيليا” وسفّاح القربى وغيره من الميول غير المقبول تطبيعها. من هنا؛ يمكن القول إنّ آلة تّفكيك المجتمع تستمرّ بنجاح تحت غطاء اصطلاحيّ مفتعل، ومنها كلمة “مدنيّ”.

مدنيّ أي تعاقديّ

لا ينبغي أن يُفهم ممّا سبق الاعتراض على مصطلح أو أكثر؛ بل، إنّ الاعتراض منصبٌّ على التّدليس في استخدامه ودلالاته. فيمكن، وبحسب السّياق التّاريخيّ، عدّ مصطلح “مدنيّ” مساوقًا لمصطلح تعاقديّ. فمن شاء يمكنه أن يصف الزّواج في الإسلام بأنّه مدنيّ، لأنّه تعاقديّ قائم على الإيجاب والقبول بين المرأة والرّجل. ويمكن لمن يشاء أن يصف الدّولة في الإسلام بأنّها مدنيّة، لأنّ البيعة على بعض الآراء هي عقد بين الحاكم والمحكوم. وقبل كلّ شيء، ينبغي على المهتمّين أن يكونوا رحماء بالإيمان وأشدّاء على الكفر، وحذرين من الاستهلاك الثّقافيّ، وحريصين على الأمن الثّقافيّ للشّباب.


[1]  أي القانون في الحرب (Law in War)، وهو يختلف عن قانون الحرب (Law of War).

[2]  اتّفاقية” وستفاليا” (Peace of Westphalia): هي معاهدة سلام، وُقّعت في ألمانيا العام 1648، وأنهت عقودًا من الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، وحصل فيها الاعتراف بالمذهب البروتستانتيّ، وتراجع دور الكنيسة، وتزايد التّمثيل الدّبلوماسيّ، وإعلاء شأن الانتماء القوميّ.

[3] – لمزيد من المعلومات، يمكن مراجعة كتاب: حسن يوسفيان، دراسات في علم الكلام الجديد، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، بيروت، 2016.

[4]  عدّ الإسلام دينًا ، لم يحكم فعلاً.

[5]  راجع: المادة 16، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 10 كانون الأول 1948، موقع الأمم المتحدة، un.org.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة

إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…