الشّذوذ الجنسيّ مرضٌ متأصّلٌ في الشّخصيّة
راغدة حسن مراد[1]
[1] – مرشدة نفسيّة واجتماعيّة.
إنّ موضوع الشّذوذ الجنسيّ من المواضيع الحديثة المثيرة لاهتمام الباحثين في العالمين العربيّ والإسلاميّ، على اختلاف اتّجاهاتهم الدّينيّة والاجتماعيّة والفكريّة، لا لأنّ السّلوك الجنسيّ مستجدٌّ بين بني البشر؛ بل لانتشار هذه الظّاهرة الواسعة. إضافةً إلى انتقال دعاتها من مرحلة الانعزال والتّقوقع وسيطرة مشاعر الضّعة إلى مرحلة الهجوم، وفرض السّلوك فرضًا قهريًّا على المجتمعات، وتحدّيهم للقوانين والأعراف والتّشريعات المجرّمة له.
لقد أدّت المجامع العلميّة للطّبّ العقليّ والنّفسيّ دورًا إيجابيًّا في إحداث التّضخّم الاستعراضيّ الهجوميّ بعد إعطائه الشّرعيّة الاجتماعيّة، وتأمين الحضانة له في مختلف ميادين الحياة المعاشة في دول الغرب. فقد حُذفت المجامع العلميّة من دليل التّشخيص الإحصائي للأمراض العقليّة(DMC) الذي تصدره “الجمعيّة الأمريكيّة للأطبّاء النّفسيّين”، التّصنيف المرضيّ عن الشّاذّين جنسيًّا. الجدير ذكره؛ تمثيل هذا المرجع للسّلطة الرّئيسة للتّشخيصات النّفسيّة؛ فهو المرجع في الدّراسات النّفسيّة في مختلف جامعات العالم لاختصاص علم النفس. وغالبًا ما يُحدّد مقدّمو الرّعاية الصّحيّة (أطبّاء أعصابٍ ومعالجين نفسانيّين) توصيات العلاج، والتّدخل العلاجيّ المناسب لهذا الصّنف.
كما “عمد الطّب العصبيّ الذي كان حتى العام 1953م يُصنّف الجنسية المثليّة على أنّها نوعٌ من الاضّطراب الجنسيّ؛ لشخصيّةٍ مصابةٍ بمرضٍ عقليٍّ (psychopathic personality). وإثر شغب بعض النّاشطين المؤيّدين للشّذوذ الجنسيّ؛ حُذف مصطلح “المثليّة الجنسيّة” من دليل الأمراض العقليّة، ليوضع مكانه “اضّطرابٌ في التّوجّه الجنسيّ” (oriental sexual disturbance)(1). وقد “حدث هذا الانقلاب “العلميّ” في العام ١٩٦٨م؛ إثر أعمال شغبٍ حدثت في فندق “ستون وول” في “نيويورك” لمدّة ثلاثة أيّامٍ، قام بها شاذّون مع داعمين لهم؛ إذ نادوا بسقوط الرّجعيّة الجنسيّة[1].
سوف أعالج في هذا المقال إشكاليّة التّأسيس المرضيّ لهذا السّلوك.
الإشكاليّة:
نشير إلى توصّل الطّب العصبيّ إلى حقيقةٍ علميّةٍ كانت ثابتةً حتى العام ١٩٥٣م في ( DSM)، مفادها أنّ الشّاذ جنسيًّا يعاني مرضًا عقليًّا. ومع ذلك؛ حُذف هذا التّصنيف بضغطٍ من “اللّوبي المثليّ”، والذي لا يحمل صفةً علميّةً. فكما نعلم إنّ الأمراض العقليّة التي تصيب الشّخصيّة أكانت منذ الطّفولة أم نتيجة الصّدمات، والمسجّلة في (DSM)؛ تحتاج إلى علاجٍ دوائيٍّ دائمٍ يلازمه علاجٌ نفسيٌّ. فما هو المسوّغ العلميّ لحذف هذا المرض من ( DSM)؟ وما الأمر الذي يستلزم توقّف العلاج الدّوائيّ والمعالجة النّفسانيّة؟
رؤية النّظريّة التّحليليّة للمثليّة الجنسيّة
يرى “فرويد” أنّ الطّفل، منذ سنواته الأولى، تبدأ ميولاته الجنسيّة وتتحدّد ملامح هويّته ومقوّماتها الجنسيّة. وتكون ميولاته الجنسيّة إمّا إيجابًا أو سلبًأ. وهذا في إشارةٍ إلى أنّ السّلب يعني تطبيق العلاقة الجنسيّة مع المماثل له، والإيجاب تعني تطبيقها مع المغاير؛ فالتّطبيق الإيجابيّ للميل والسّلوك الجنسيّ يكون في حلّ وتفكك “عقدة أوديب”. أمّا “عقدة أوديب”؛ فهي نظريّةٌ أسّس لها “فرويد” في مرحلة الطّفولة (تمتد من ثلاث إلى خمس سنوات)؛ لمحاكاة ميول الفرد الجنسيّة أكانت سويّةً أم شاذّةً. ويعزو الميل الجنسي الشاذّ إلى عدم التّخلّص من “عقدة أوديب” عند الطّفل الذّكر، ومثيلتها “عقدة ألكترا” عند البنت.
ملخّص “عقدة أوديب”
يرى “فرويد” أنّ شخصيّة الطّفل تتمحور حول جدليّة الحبّ والكره للأب؛ فالطّفل المتعلّق بالأمّ؛ وهي موضوع الحبّ الأوّل له، يرى الأب منازعًا له. كما يعتقد “فرويد” أنّ على الأب تفكيك التّعلّق بالأمّ بطريقةٍ سويّةٍ؛ بإبعاد الطّفل عنها لأنّها تخصّه، والأمّ بدورها عليها الانصياع لهذه الخصوصيّة. فالأب المنازع للطّفل الذّكر سوف يُبعد الطّفل عن أمّه؛ لكنّه في الوقت عينه سيكون نموذج التّماهي(Identification). ونشير، في هذا السّياق، أنّ التّماهي هنا بصورة الأب، الذّكر، القويّ، الحنون، العطوف، المعلّم. هذه الصّورة تؤسّس للسّواء على المستوى النّفسيّ؛ يتبعه السّواءٌ الجنسيٌّ في المراحل اللّاحقة. فالطّفل الذّكر سوف يكون ذكرًا مع امرأةٍ أخرى، وبهذه الدّيناميّة الرّمزيّة تُحلّ “عقدة أوديب”. أمّا مع الأنثى فيكون التّعلّق بالأب، وتجري الدّيناميكيّة نفسها؛ إذ تتماهى البنت مع الأمّ في تكوين صورةٍ سويّةٍ مقابل الأب الذّكر “مرأة + رجل”؛ فتحلّ بهذه الديناميّة “عقدة ألكترا”.
هذه الدّيناميكيّة العلائقيّة تحدّد الهويّة الجنسيّة عند الفرد أكانت سويّةً أو شاذّةً. نذكر هنا قول “فرويد”:” عندما تتحطّم “عقدة أوديب”؛ يصبح الطّفل في حكم المضّطرّ إلى التّخلي عن أمّه من جهة الموضوع الجنسيّ. وفي هذه الحال يمكن حدوث احتمالين: التّماهي بأمّه، إمّا التّماهي بوالده. والاحتمال الأخير يمكّنه أن يصبح سويًّا، ويمكّنه في الوقت نفسه من الاحتفاظ بشعور الحنان تجاه الأمّ. وعندما تنتهي “عقدة أوديب” تبرز الصّلابة في طبعه الذّكري. كما أنّ الفتاة في حال تحطّم “عقدة ألكترا” تتماهى بوالدتها؛ فتكون نتيجة تثبّت العنصر الأنثويّ عندها”[2].
يشير “فرويد” إلى العلاقة الجافّة والباردة والمتوتّرة بين الطّفل الذّكر ووالده المتسلّط، وهذا من شأنه الإخلال بالتّماهي معه، ودوام التّماهي الأنثويّ بالأمّ الّتي تحميه دومًا. إذ يؤسّس لنظريّة الخصاء (منذ ثلاث حتى خمس سنوات)؛ المتلازمة مع “نظريّة أوديب”، والّتي تلخّص خوف الطّفل من إخصائه على يد والده المتسلّط العنيف عند افتعال الأخطاء والمحرّمات. مع هذه المشاعر غير الشّعوريّة يتثبّت عندها الطّفل مع عدم انحلال “عقدة أوديب”؛ يتأكّد عنده ا”لشّذوذ الجنسيّ”. أمّا فيما يخصّ موضوع “النّرجسيّة” عند الفرد؛ يشير “فرويد” إلى سيطرة الأفكار الاضّطهاديّة عند الطّفل إلى مرحلة المراهقة ثم البلوغ. إذا ما حلّت “عقدة أوديب”؛ فيؤكّد أنّ التّثبيت على فكرة “الخصاء” يهدّد “النّرجسيّة”، ويزيد من سيطرة الأفكار الاضّطهاديّة؛ ما يُدخل الفرد في سمات “البارانويا”.
نعرّف “البارانويا” (الهذاء)؛ فهي حال مرضيّةٌ ذهانيّةٌ تميّزها الأوهام والهذيان الواضح المنظّم الثّابت؛ أيّ الهذيانات والمعتقدات الخاطئة عن العظمة أو الاضّطهاد، مع الاحتفاظ بالتّفكير المنطقيّ وعدم وجود هلوساتٍ في حالة الهذاء النّقيّ. أيّ تكون الشّخصيّة مع وجود المرض متماسكةً ومنتظمةً وعلى اتّصالٍ لا بأس به بالواقع، ولا يرافقه تغيّرٌ في السّلوك العامّ إلّا بقدر ما توحي به الأوهام والهذيانات”[3]. ونذكر “أسباب الهذاء بحسب “فرويد”: المشكلات الجنسيّة وسوء التّوافق الجنسيّ، العنوسة، تأخّر الزّواج، الحرمان الجنسيّ. وتعزو مدرسة “التّحليل النّفسيّ” الهذاء إلى أنّه نتيجة للجنسيّة المثليّة المكبوتة والمسقطة والشّعور بالإثم”.
كذلك؛ يؤكّد علم النّفس على ضرورة المعالجة الدّوائية لمرض “الهذاء”، كما المتابعة العلاجيّة على يدي المعالج النّفسانيّ. أمّا في الدّراسات الحديثة؛ فقد ورد في دراسة “لورنس مايز” و “بول مك هيو” تحت عنوان “الغريزة الجنسية والجندر” في العام 2016م، معلوماتٌ عن تقريرٍ أعدّه “روبرت غراهام” وغيره في معهد الطّب في “واشنطن” في العام 2011م، تحت عنوان “صحة المثليّات والمثليّين ثنائيّي الجنس ومغايري الهويّة الجندريّة”. حول مراجعةٍ موسّعةٍ للمؤلّفات العلميّة والدّراسات التي تتناول الحال الصّحيّة لمجتمع (LGBT). إذ يؤكّد الباحثان على دراية معدّي التّقرير الجيّدة بهذه القضايا؛ ولو أنّهم لم يستعينوا بأطبّاءٍ نفسانيّين. فاستعرض التّقرير “النّتائج على الصحّة الجسديّة والعقليّة في مرحلة الطفولة والمراهقة وأوائل مرحلة الرّشد ومنتصفه وآخره.
تماشيًا مع الدّراسات المذكورة أعلاه، يستعرض التقرير أدلّةً تُظهر أنّ الشّباب من مجتمع (LGBT) (المثليّات والمثليّين وثنائيّي الجنس)، هم أكثر عرضةً للاكتئاب مقارنةً مع الشّباب متبايني الجنس. كذلك؛ هم أكثر عرضةً لمحاولات الانتحار والتّفكير به، أيضًا للتّعرّض للعنف والتّحرّش والتّشرّد. كما أنّ الأفراد من (LGBT)، في أوائل مرحلة الرّشد أو منتصفها هم أكثر عرضةً لاضطرابات المزاج والقلق والاكتئاب والتّفكير بالانتحار ومحاولات الانتحار”[4].
إذًا؛ إنّ العلاقة بين الغريزة الجنسيّة والانتحار تشكّل مادّةً بحثيّةً مهمّةً في “علم النّفس”، وتلقى دعمًا بحثيًّا على مستوى عالٍ من الحكومات والمجامع العلميّة كافّةً. إذ يرى “مايز” و”هيو” أنّ خطر الانتحار؛ هو الأكثر إثارةً للقلق بين مخاطر الصّحة العقليّة كافّةً”. ذلك يعود في جزءٍ منه إلى حقيقة قوّة الأدلّة وثباتها، وفي الجزء الآخر؛ إلى حقيقة أنّ الانتحار مدمّرٌ ومأساويٌّ جدًّا على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع. تاليًا؛ فإنّ فهم عوامل خطر الانتحار بشكلٍ أفضل قد يسمح لنا بإنقاذ الأرواح بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى”[5].
الخاتمة:
انطلاقًا ممّا طُرح؛ يتبيّن أنّ سلوك المثليّة الجنسيّة ذو أساسٍ مرضيٍّ على المستوى العقليّ، وإنّ التّهاون في علاج هؤلاء النّاس يتسبّب في ازدياد أعدادهم. إزاء هذه الظّاهرة المرضيّة تقف المجتمعات الغربيّة عاجزةٌ؛ فالقوانين تُسنّ لشرعنتها في المحافل المجتمعيّة كافّةً بالتّواطؤ مع الجهات الرّسميّة والقياديّة والعلميّة؛ ضاربةً عرض حائط السّيرورة التّاريخيّة لنظام الأسرة الذي سوف ينهار ويتلاشى. فالغرب اليوم يصنع تابوته بيديه.
المصادر والمراجع:
- نهى قاطرجي، ظاهرة الشّذوذ في العالم العربي (الأسباب، النّتائج وآليّات الحلّ)، 1431ه.
- عدنان حبّ الله، التّحليل النّفسيّ للرّجولة والأنوثة من فرويد إلى لاكان- دار الفارابي- لبنان، 2004.
- حامد عبد السّلام زهران، الصّحّة النّفسيّة والعلاج النّفسيّ- عالم الكتب- القاهرة، 2005.
- لورنس ماير و بول مك هيو الغريزة الجنسيّة والجندر- The New Atlantis, A Journal of Technology & Society- العدد 50، 2016.
[1] – نهى قاطرجي، ظاهرة الشّذوذ في العالم العربي (الأسباب، النّتائج وآليّات الحلّ)، ص2.
[2] – المرجع نفسه، ص 3.
[3] – عدنان حبّ الله، التّحليل النّفسيّ للرّجولة والأنوثة من فرويد إلى لاكان، ص 204.
[4] – حامد عبد السّلام زهران، الصّحّة النّفسيّة والعلاج النّفسيّ، ص543.
[5] – لورنس ماير و بول مك هيو، الغريزة الجنسيّة والجندر- The New Atlantis, A Journal of Technology & Society، ص 55-56.
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…