الشّيخ د. محمّد إبراهيم النّمر(*)
يحترم الإسلام الإنسان ويقدّره ويكرّمه، يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾([1]). ومن أجل حفظ الكرامة -بحسب ما يريدها الله سبحانه وتعالى-، شرّع الإسلام للبشر تشريعات تحفظ لهم كرامتهم وعزّتهم، إنِ التزموا بها. وكما شرّع تشريعات عامّة لكِلا الجنسَين، شرّع أيضًا تشريعات مختصّة بكلّ جنس على حدة؛ بحيث تنسجم مع طبيعته ووظيفته في هذه الحياة.
ومن أهمّ الأمور الّتي شرّعها الله سبحانه وتعالى لحفظ الحياء والعفّة والكرامة هو موضوع السّتر، واختصَّ المرأة بوجوب ستر جزء إضافيّ من جسدها عن الرّجل؛ لتحفظ جمال جسدها عن الأعين والنّظرات المنحرفة تُجاهها، ولكي لا تثير فتنة النّاظرين إليها… إلى غيرها من الأمور الّتي هي من فوائد الحجاب.
إنّ نّ أتحقيق الأمن الأخلاقيّ ليس حكرًا على المرأة، ولا تشكّل العفّة ضريبة فُرضت عليها، فالرّجل مُلزَم أيضًا بالحشمة والعفّة، ومطلوب منه ارتداء نوع من الحجاب والسّتر؛ إذ لا يجوز له التّعرّي، ولا اللّبس المنافي للاحتشام([2]) أو ما يشكّل عنصر إثارة للنّساء؛ لأنّه كما أنّ المرأة تُشكّل عنصر إثارة للرّجل، فالعكس صحيح أيضًا. إلّا أنّه يبقى للمرأة خصوصيّتها؛ لأنّها تُمثّل -بحسب طبيعتها، وبحسب نظرة الرّجل إليها وميوله الغريزيّة تُجاهها- عنصر الإثارة الأكبر، وعنصر الجذب. لذا، كان التّركيز في التّشريع الإسلاميّ على حجابها، ولا سيّما أنّ المرأة تميل إلى الحلية والزّينة. وجاءت النّظرة الاجتماعيّة تُجاه المرأة لتركِّز هذا المعنى في شخصيّتها، ليغدوَ الجمالُ هو القيمة الأساسيّة عند المرأة، فهو ينسجمُ مع ميولها ورغباتها، إلّا أنّ ذلك استدعى تركيز التّشريع على حجابها، وسترها، وعفّتها، وحيائها.
ولحجاب المرأة آثار كبيرة على الصّعيدَين الفرديّ والاجتماعيّ، كما أنّ له تأثيرات واضحة من النّاحية التّربويّة. لذلك، سنسلّط الضّوء في هذه المقالة على أهمّ الآثار التّربويّة للحجاب؛ حيث إنّ مسألة الحجاب من المسائل المهمّة الّتي تمَّ تناولها من قِبَل كثيرٍ من الاتّجاهات الفكريّة والحركات النّسويّة، باعتبارها موضوعًا يتعلّق بحرّيّة المرأة، ومكانتها في المجتمع، وتحقيق ذاتها، خصوصًا مع تأكيد هذه الاتّجاهات على أنّ للحجاب آثارًا تربويّة سلبيّة على المرأة؛ من ناحية تقييدها، وتعطيل نصف المجتمع، وفرض الأحكام الذّكوريّة عليها، إلى غيرها من الإشكالات التي تُطرح. لذلك، لا بدّ من البحث عن: ماهيّة الرّؤية التّربويّة للحجاب في الإسلام، وأهمّ تجلّياته وآثاره التّربويّة.
الحجاب وأهمّيّته التّربويّة
الحجاب لغة هو السّتر([3])، ويُطلق عليه أسماء مختلفة، بحسب الثّقافات والبلدان، منها ينطبق على السّتر الفقهيّ الّذي هو ستر كامل جسد المرأة، وبعضها يعبّر عن جزء من معنى السّتر الشّرعيّ؛ كالخمار، والمقنعة، والنّقاب، والجلباب، والبرقع، والقناع، واللّثام… وفي لغتنا المعاصرة يُستخدم الحجاب بمعنى ما يستر الرأس، ويسمّى أيضًا “إيشارب” أو “منديل”.
إنّ مسألة الحجاب هي من أهمّ المسائل الّتي أثارت الجدل في المجتمعات على المستوى الاجتماعيّ العامّ، لِمَا لها من أثر كبير في تحديد هُويّة المجتمع الثّقافيّة والتّربويّة والدّينيّة، ولِمَا لها من دورٍ أساسيّ وحاسمٍ في توجّه المجتمع ومسلكيّته، بنسائه ورجاله. لذلك، كان الحجاب -ولا يزال- يتعرّض دائمًا لحملات التّشويه والتّضعيف؛ بالجدل وطرح الشّبهات تارةً، وبالمحاربة العمليّة من خلال قوانين تحديده ومنعه تارةً أخرى، وكذلك من خلال محاولة عزل المحجّبات عن التّأثير في المجتمع بإطلاق تُهم التّخلّف والرّجعيّة والتّحجّر… مرّات أخرى.
وهذا إنّ دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أهمّيّة الحجاب، ودوره المصيريّ والحاسم في التّربية على مفهوم “صراع الحقّ والباطل”، والتّربية على تعزيز الهُويّة الثّقافيّة والدّينيّة للمرأة.
كما أنّ الحجاب يُشكّل أحد العوامل المساعِدة على التّربية على مفهوم الحياة الطيّبة، يقول الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾([4]). إنّه مفهوم الحياة الطّيّبة القائم على القناعة والعفّة والعمل الصالح؛ لأنّ له دورًا مساعدًا على قيام كِلا الجنسَين بمهامهما الإنسانيّة والاجتماعيّة والدّينيّة، وتهيئة الحياة الدّنيا لتكون مزرعة طيّبة للآخرة، بعيدًا عن إثارة الغريزة لديهما([5]).
كما أنّ القضايا الإسلاميّة الإشكاليّة، لا يصحّ أن تُدرس بشكل تجزيئيّ؛ لأنّ دراستها كذلك لن تُقدّم صورة كاملة عن حقيقة التّصوّر الإسلاميّ إزاء القضيّة الّتي هي مورد النّظر، وربّما نستنتج أمورًا مغايرة لحقيقة التّعاليم الإسلامية. وإنّما يفترض أن تدرس في إطار الرّؤية الإسلاميّة العامّة حول المرأة ودورها في الحياة، والّتي هي بدورها جزء من الصّورة الإسلاميّة العامّة، والجزء الآخر المكمّل للصّورة هو وظيفة الإنسان -رجلًا أو امرأة- في نظام الخلق ودوره في الحياة.
وهكذا الحال في قضيّة السّتر والحجاب، فإنّ المنهج الصحيح في دراستها هو وضعها في إطار الرّؤية الإسلاميّة العامّة حول المرأة، ودورها في الحياة جنبًا إلى جنب مع دور الرّجل.
هذه الرّؤية –باختصار- قائمة على مبدأ تكريم المرأة كإنسان، ومن مقتضيات التّكريم أن يتمّ التّعامل معها على أساس أنّها إنسان، وليست مجرد أنثى أو مجرّد جسد فحسب، وهو يقتضي أن تخرج إلى المجتمع أيضًا كإنسان لا كأنثى تظهر مفاتنها أمام النّاس. فدراسات علم النّفس تؤكّد على أمور لها علاقة بالتّحفيز البصريّ، والاستجابة البصريّة، والفرق بين الجنسَين في كيفيّة الاستجابة وكيفيّة الاستثارة، وهي تتلاقى مع الرّؤية الإسلاميّة للسّتر، والحجاب، وغضّ البصر. فعلى خلاف باقي الحيوانات، الّتي يكون عنصر الاستثارة والجذب والجمال من مميّزات ذكورها، تنقلب الأمور في عالم الإنسان؛ حيث إنّ عنصر الجذب والاستثارة والجمال يكون لدى المرأة. والرّجال “بصريّون” أكثر من النّساء، والتّحفيز البصريّ أسرع لديهم. كما أظهرت الدّراسات أنّ كلًّا من الرّجال والنّساء يميلون إلى التّركيز على أجزاء معيّنة من جسم المرأة، وليس على جسمها بالكامل، لكنّهم لا يفعلون ذلك عندما يتعلّق الأمر بالرّجال، وأنّ أدمغتنا مبرمجة على رؤية المرأة كأجزاء، ورؤية الرّجال ككائنات كاملة([6]).
عندئذٍ، يمكن لنا أن نبحث حول الآثار التّربويّة لتشريع الحجاب –الّذي يتعلّق بالسّلوك الإيجابيّ المنعكس على الفرد والمجتمع-، وما له من دور تربويّ على الصّعيد الفرديّ والاجتماعيّ.
الآثار الفرديّة للحجاب
يُعدّ الحجاب ذا قيمة عظمى في تشكيل شخصيّة المرأة المسلمة التّربويّة والنّفسيّة، فهو يتّسق مع الفطرة السّليمة الّتي هيّأها الله للمرأة؛ إذ يربّيها على الالتزام بالقِيَم، والضّوابط، والموازين، الّتي يُحدّدها الشّرع. ومن أهمّ الآثار الفرديّة للحجاب يمكن أن نذكر:
1- التّربية على العبوديّة لله سبحانه وتعالى
يشكلّ الحجاب منبّهًا دائمًا للمرأة على وجود الله تعالى، وضرورة الالتزام بأحكامه الشّرعيّة الّتي فرضها عليها، والّتي من شأنها أن تربّيها على حسّ المسؤوليّة والالتزام الدّينيّ، والمساعدة على طمأنينة القلب من خلال تلبية الواجب الشّرعيّ، ومن خلال الرّاحة النّفسيّة الّتي يولّدها الالتزام الدّينيّ. فالمرأة بالتزامها السّتر، تكون في عبادة دائمة، واستحقاق للثّواب المترتّب على الطّاعة، وفي استشعار دائم لرقابة المولى عزّ وجلّ الّتي تسدّد سيرها في طريقها نحو الكمال والعبوديّة لله عزّ وجلّ. كما ينعكس الحجاب على الاستقامة السّلوكيّة، الّتي هي من آثار استشعار رقابة الله عزّ وجلّ، والتزام الخلق السّليم، والابتعاد عن مواطن الشّبهة.
2- تنمية سلوك العفّة والسّتر
كما ينمّي الحجاب سلوك العفّة والسّتر من خلال إيجاد سلوك تلقائيّ عند المرأة للمحافظة على العفّة والطّهارة، وهذا يحتاج إلى وقت. لذلك، لا يجب تأخير “تحجيب” الفتاة عن سنّ التّكليف الشّرعيّ، لكي لا يتولّد لديها سلوكٌ معاكسٌ نتيجة التّربية غير السّليمة الّتي يمكن للمجتمع أن يفرضها في بعض الأحيان. فالشّخص يبني معلوماته وسلوكه من خلال عدّة مؤثرات ثقافيّة ومعرفيّة وعلميّة، ويتأثّر بالبيئة المحيطة به، وكذا بالمجتمع، واللّغة، والثقافة السّائدة.
كما أنّ الالتزام بالحجاب يقتضي الاستشعار برقابة الله، ومخافته وتقواه في السّرّ والعلن، فينعكس استقامة سلوكيّة ظاهرة وباطنة، ويغدو المظهر الخارجيّ مظهرًا لصفاء القلب، وتجسيدًا للإيمان الصّحيح. وإنّ طهارة القلب تحتاج إلى تحصين وتربية مستمرّة؛ كالابتعاد عن النّظر المحرّم، وعن الخضوع للرّغبات والشّهوات بين الجنسين. قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾([7])، فالالتزام بالحجاب يساعد على التّربية على غضّ البصر، وعدم اتّباع الشهوات، ويساعد على إيجاد حلاوة الإيمان في قلوب المؤمنين، وقد قال رسول الله (6) -وهو يحدّث عن ربّه-: “إنّ النّظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه”([8]). كما يعزّز الحجاب قيمة الحياء، الّتي تُشكّل عنصرًا مهمًّا في التّربية الإسلاميّة للمرأة، يقول الإمام الكاظم (ص): “الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة”([9]).
وبهذا تكون شخصيّة المسلم شخصيّة سويّة في دوافعها وغرائزها وعواطفها وانفعالاتها، وفي القدرة على ضبط شهواتها، والتحكّم في أهوائها، وإشباع مطالبها الفطريّة الطّبيعيّة، وحاجاتها النّفسيّة والاجتماعيّة المكتسبة بالطّرق السّويّة المشروعة([10]).
3- التّربية على المحافظة على كرامة المرأة
بما أنّ للمرأة دورًا إيجابيًّا في المجتمع؛ من ناحية تطوّره، والمحافظة عليه، وتحقيق الحياة الطّيّبة، فمن الطّبيعيّ أن تعمل في المجتمع لأداء دورها الموكَل بها بدون الحطِّ من كرامتها وإنسانيّتها، وهذا ما يساعد عليه الحجاب؛ من خلال بناء الفضيلة وعدم التعرّض لها بالأذيّة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾([11]). هذه الآية المباركة تبيّن أنّ الحجاب أمان من الأذى بالنّسبة إلى المؤمنات؛ فالأذيّة الّتي تتعرّض لها المرأة من الآخرين هي بسبب الجاذبيّة الّتي أودعها الله تعالى في خلقها، وتلك الجاذبيّة هي الّتي تُثير شهواتهم ورغباتهم، وتجعلهم يطلبون النّساء بأيّ كيفيّة كانت، ما يؤدّي إلى التّجاوز على المرأة وإيذائها.
لذلك، يشجّع الإسلام على عدم النّظر إلى المرأة بطريقة جنسيّة شهويّة غرائزيّة، تمنعها من الانخراط في المجتمع، ومن أداء وظيفتها بالشّكل الّذي يتناسب مع قدراتها وإمكانيّاتها. وذلك يؤكّد على قيمة الحجاب التّربويّة، لما يترتّب عليه من منافع ومصالح متعدّدة في تحقيق الأهداف المرجوّة؛ كالطّهر والفضيلة في سلوك الأفراد.
4- الصّبر على تحمّل المسؤوليّة
إنّ مسؤوليّة الحجاب مسؤوليّة كبيرة للمرأة، وتكليف مهمّ في حياتها. لذلك، يجب تربية المرأة على قيمة الصّبر لكي تتحمّل الضّغوط والأعباء الملقاة على عاتقها من خلال فرض الحجاب، وخاصّة في المجتمعات الّتي ترفض الحجاب وتهاجمه. فالتزام المرأة المؤمنة بحجابها يرمز إلى تمسّكها بهُويّتها الإسلاميّة والإيمانيّة، ورفضها للتّنميط الثقافيّ والقيميّ الغربيّ.
كما أنّ وسائل الإعلام والدّعايات والحركات النّسويّة الّتي تهاجم الحجاب ليلًا نهارًا، تستدعي من المرأة التحلّي بقيمة الصّبر، لتتمكّن من المحافظة على حجابها؛ حيث إنّ ثقافة رفض الحجاب تؤثّر في شخصيّة المرأة، فتحتاج إلى قيمة الصّبر لتتحمّل وتجاهد في المحافظة على تديّنها. وبذلك، يربّي الحجاب الفتاة على تحمّل الأعباء النّفسيّة والاجتماعيّة الّتي يمكن أن تواجهها، ويعزّز ثقتها بنفسها.
الآثار الاجتماعيّة للحجاب
إنّ المجتمعات البشريّة متغيّرة بشكل مستمرّ، وتسير إمّا نحو التّسامي والتكامل، وإمّا نحو الانحطاط والتّسافل. ويشتمل كمال المجتمع وسعادته على البُعدين: الرّوحيّ والمادّيّ، تحت مظلّة السّعي للقرب مِنَ الله تعالى.
وتتعزّز الرّوحيّة العباديّة في الأنشطة والممارسات الاجتماعيّة المختلفة، من خلال التّطوير والتّحسين الدائمَين لأداء مؤسسات المجتمع المختلفة، ومن خلال التّصدّي للمشاكل والتّحديات المجتمعيّة بما يضمن السّير نحو التّسامي والتّكامل، وبمكافحة الفساد الأخلاقيّ والسّلوكيّ في كلّ أشكاله وصوره، وبتعزيز ثقافة العفّة والحجاب، وتجنّب الاختلاط المحرَّم بما يحفظ المجتمع ويصونه.
إنّ رؤية الشريعة الإسلاميّة للجنبة الاجتماعيّة التّربويّة للحجاب تؤكّد على أنّ عدم الحجاب، والّذي يساوي السّفور وإظهار محاسن النّساء وبعض أجسامهنّ -قلّ أو كثر-، له تأثير سلبيّ في المجتمع؛ حيث إنّه يُعرّض شريحة الرّجال، وخصوصًا الشّباب منهم إلى الميل نحو النّساء، ويحرّك الغريزة الجنسيّة، وهذا من شأنه أن يضرّ الأمن الفرديّ للمجتمع، كما أنّه يضرّ العوائل ويُسبّب انعدام حالة الأمن العامّة في المجتمع؛ فلا يأمن الأب على ابنته، ولا الزّوج على زوجته، وهكذا. فإنّ عدم الحجاب يؤدّي إلى انعدام الأمن، ويضرّ بالعفّة والسلامة العامّة. وعليه، يحدّ الحجاب من هذه الأُمور، ويؤدّي إلى تحقّق العفّة والسّلامة العامّة.
إنّ السّعي نحو تحقيق الطّهر السّلوكيّ في المجتمع المسلم هو من أهداف التّربية الإسلاميّة. وقضيّة الحجاب واللّباس والسّتر ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة، ولا عن تحديد طريق التّكامل والسّعادة وتغليب الطّابع الإنسانيّ (العقل- النور) على الجانب الحيوانيّ (الجهل- الغريزة). لذلك، يمكن تعداد الكثير من الآثار الاجتماعيّة للحجاب، نذكر منها:
1- المحافظة على طهارة المجتمع
حيث إنّ الحجاب يُعدّ عاملًا مهمًّا في مكافحة الفاحشة في المجتمع، وفي الوقاية من بعض الأمراض السّلوكيّة، والحدّ من الغرائز في المجتمع، فإنّه يشكّل عنوانًا لمجموعة من الأحكام الاجتماعيّة المتعلّقة بوضع المرأة في النّظام الإسلاميّ، والّتي من شأنها صناعة الأجيال و تحديد أسس التّربية.
لذلك، يساعد الحجاب على تحقيق الطّهر والفضيلة في المجتمع المسلم، والابتعاد عن عوامل الفتنة ودواعي الغواية([12]). ذلك أنّ التّربية الإسلاميّة تستهدف إيجاد مجتمع نظيف طاهر؛ لا تُهاج فيه الشّهوات في كلّ لحظة، ولا تستثار فيه الغرائز، ويُحافَظ فيه على الدّافع الفطريّ العميق بين الجنسَين.
يدعو القرآن الرّجل والمرأة إلى الرّضى والقناعة في العلاقات الاجتماعيّة، ويأمر النّساء بالحجاب والسّتر، وينهاهنّ عن التبرّج الجاهليّ، كما ينهاهنّ عن إبراز البُعد الأنثويّ في علاقتهنّ مع الآخرين. وتأتي هذه التّشريعات الإسلاميّة كلّها في سياق تحقيق الأمن الاجتماعيّ. فالحجاب، مثلًا، تشريع ملزم للمرأة بوجوب ستر مفاتنها، وحفظ أنوثتها عن غير المحارم من الرّجال؛ لأنّ التّبرّج، والتّجمّل، والتّقليل من الملابس شيئًا فشيئًا، تثير نار الشّهوة البهيميّة المتأجّجة في صدور الرّجال، الّذين لا يزيدهم ذلك إلّا عطشًا لرؤية منظر آخر أكثر منه سفورًا وكشفًا، وكأنّ المرأة لم تُخلق إلّا لتمتُّع الرّجل بجسدها([13]).
2- الاستقرار الأسريّ والتّربية الأسرية السّليمة
لا شكّ في أنّ كلّ ما يوطّد العلاقة العائليّة، ويتسبّب باستحكام الرّوابط بين الزّوجين، يكون مفيدًا للحياة العائليّة. وعلى العكس من ذلك، فإنّ كلّ ما يُضعف من هذه الرّوابط بين الزّوجين، ويوجد بينهما الفتور والبرود، يكون مضرًّا بالحياة العائليّة، ويستوجب مكافحته والقضاء عليه.
إنّ تخصيص العلاقة الزوجيّة الخاصّة بالمحيط العائليّ، وضمن العلاقة الزوجيّة المشروعة، يزيد من استحكام الرّوابط الزّوجيّة، ويزيد الزّوجين تقرّبًا. وإنّ فلسفة الحجاب ومنع المتعة الجنسيّة إلّا عن طريق الحياة الزوجيّة المشروعة، من حيث وجهة نظر علم اجتماع العائلة، هي أنّ الزّواج الشرعيّ يسبغ السّعادة والرّاحة على نفسيّة طرفَيه. أمّا في حالة التّحرّر الجنسيّ، فيكون الزّوجان القانونيّان، من حيث وضعهما النّفسيّ، طرفَين متنافسَين، ويرى كلّ منهما الآخر حائلًا في طريقه، وتكون النّتيجة أنّ الحياة العائليّة تقام على أساس من العداء والنّفور. إنّ نظام حرّيّة الرّوابط الجنسيّة يحمل الشبّان على تأخير موعد الزّواج وتكوين عائلة إلى أبعد حدٍّ ممكنٍ، فلا يقدمون على الزّواج إلّا بعد أن تضعف قواهم، ويخفت نشاطهم، وتخفت فورة الشّباب عندهم، وفي هذه الحالة فهم لا يريدون المرأة إلّا للإنجاب، وأحيانًا للخدمة([14]).
إنّ الاستقرار الأسريّ هو أحد الغايات في التّربية الإسلاميّة، وتتحقّق تلك الغاية بالتزام أفراد المجتمع بالأحكام الشّرعيّة الّتي حدّدها الشّرع داخل الأسرة، وإعطاء أولويّة للتّربية والتّنشئة السّليمة في الأسرة. والالتزام بالحجاب يُعدّ عنصرًا ضروريًّا في حفظ الأسرة وتماسكها وحمايتها من التفكّك؛ من خلال حفظ العفّة والفضيلة في أفراد الأسرة المسلمة. وبالتّالي، سينعكس كلّ ذلك تربويًّا في بناء المجتمع المسلم.
3- تحقيق نهضة المجتمع
يعتبر الإسلام التّسّتر والاحتشام تلبية لنداء الفطرة السّليمة، والتّوافق مع متطلّباتها من الأمن والطّمأنينة والسّكينة، ممّا ينعكس على سلوك المرأة في المجتمع، ويساعد على ارتقاء المجتمع قِيَميًّا وأخلاقيَّا، وتكامله في مراتب الحياة الطّيّبة، الّتي هي الوضعيّة المنشودة لحياة البشر في الأبعاد والدّرجات المرجوّ للإسلام تحقيقها في المجتمع. وهما -أي التستّر والاحتشام- حصيلة السّعي الواعي والاختياريّ للإنسان في التّشكّل والتّسامي في هذه الحياة الدّنيا؛ بإضفاء الصّبغة الإلهيّة عليها.
كما تؤكّد الحياة الطّيّبة على البُعد الاجتماعيّ للتّربية. وبالتّالي، فإنّ التّربية عمليّة تحصل داخل المجتمع، وهذا يقتضي توفير النّظام التّربويّ الاجتماعيّ الّذي يعمل على نشر القِيَم الاجتماعيّة للنّظام المعياريّ الإسلاميّ، وتهيئة الأرضيّة الضّروريّة لهداية أفراد المجتمع بواسطة التّشريعات المتناسبة مع تكاملهم –ومنها الحجاب-، ومن خلال المؤسّسات الاجتماعيّة المطلوبة من أجل تشكيل المجتمع الصالح، وتقدّمه المستمرّ.
لائحة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- ابن منظور، محمّد بن مكرم، لسان العرب، لا طبعة، بيروت، دار إحياء التّراث العربي، 1408هـ.
- البوطي، محمّد سعيد، المرأة بين طغيان النّظام الغربيّ ولطائف التّشريع الرّبّاني، الطّبعة الأولى، دار الفكر المعاصر، دمشق، 2019م.
- أيان، ستيف، آليّة القيادة الذّاتيّة للدماغ تتحكّم في توجيه الوعي، مجلّة العلوم الأميركيّة، 2019م. الرابط:
- الرّيشهري، محمّد، ميزان الحكمة، الطّبعة الأولى، بيروت، دار إحياء التّراث العربي، 2001م.
- الزّناتي، عبد الحميد، فلسفة التّربية الإسلاميّة في القرآن والسُّنَّة، الطبعة الأولى، طرابلس، الدّار العربيّة للكتاب، 1993م.
- إسماعيل، محمّد أحمد، عودة الحجاب، الطّبعة الثّالثة، الرياض، دار الطّيبة، 1988م.
- السّحمراني، أسعد، المرأة في التّاريخ والشّريعة، الطّبعة الثّانية، بيروت، دار النّفائس، 1997م.
- السّتر والحجاب، سلسلة المعارف التّعليميّة: المرأة والأسرة، لا طبعة، بيروت، دار المعارف الإسلاميّة، 2020م.
(*) -دكتوراه تطوير مناهج تربويّة.
– أستاذ حوزوي جامعيّ.
– باحث في مركز الأبحاث والدّراسات التّربويّة.
([2]) حتّى أنّ بعض الفقهاء يفتي بوجوب التستّر على الرّجل في ما هو أزيد من ستر العورة المتعارفة، إذا كان خروجه كذلك يُشكّل فتنةً للمرأة. ويمكن أيضًا للحاكم الشّرعيّ أن يمنع الرّجل من ارتداء لباس الشّهرة، أو اللّباس الّذي ينافي الأخلاق العامّة.
([3]) محمّد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، ج1، ص 298.
([5]) محمّد سعيد البوطي، المرأة بين طغيان النّظام الغربيّ ولطائف التّشريع الرّبّاني، ص 54-56.
([6]) ستيف أيان، آليّة القيادة الذّاتيّة للدّماغ تتحكّم في توجيه الوعي، ص 97-112.
([8]) محمّد الرّيشهريّ، ميزان الحكمة، ج4، ص 3292.
([9]) المصدر نفسه، ج 1، ص 717.
([10]) عبد الحميد الزّناتي، فلسفة التّربية الإسلاميّة في القرآن والسُّنّة، ص 26.
([12]) محمّد أحمد إسماعيل، عودة الحجاب، ص 77.
([13]) أسعد السّحمراني، المرأة في التّاريخ والشّريعة، ص 89-91.
([14]) السّتر والحجاب، سلسلة المعارف التّعليميّة: المرأة والأسرة، ص 95-96.
استهداف الأبويّة ونهاية النّظام الأُسريّ
إذا كانت كتابة التّاريخ -من وجهة نظر نسويّة- و"جندرة اللّغة" بمثابة محاولات جديدة للتّمرّد…