الحجاب..أيّ دور في صناعة الإنسان؟
د. أحمد الشّامي(*)
يجدر التّسليم بأنَّ التّنوّع الثّقافيّ في تقاطعاته هو مجال حيويّ يحفّز الشّخصيَّة -الفرديَّة والجماعيَّة- نحو مزيد من مستويات الارتقاء والتّطوّر، وبأنّ المجتمعات الّتي تفتقد أو ترفض هذا التّنوّع، دائمًا ما يُنظر إليها على أنّها أسيرة تقليد وجمود يعجزانها عن مواكبة حركة الطّبيعة الإنسانيّة في مسارها التّصاعديّ. لكنّ الموضوعيَّة تقتضي العمل على تبيان حدٍّ يفصل بين تنوّع ثقافيّ قائم على التّفاعل والحوار، وبين ما يمكن وصفه بالتّوهين والإكراه.
تأتي مبرّرات القول بالإكراه الثّقافيّ من لحاظ سلوكيّات يدأب البعض على المجاهرة بها، ففيما يجهد هؤلاء في تقديم أنفسهم دعاة للحريّة وعُمُد حرّاسها، ولا سيّما في تعامل الأفراد والجماعات البشريَّة مع العناصر الّتي تشكِّل هويَّتهم الشّخصيَّة والجامعة، هم في الوقت عينه، يُنصّبون أنفسهم معياراً لصوابيَّة التّفكير وحسن الاختيار، وسط دفقٍ هائلٍ من رسائل ثقافيَّة يقتحمون بها الوعي البشريّ، عبر ما يتوافر لهم من شبكات تواصل متعدَّدة وهائلة، كمًّا ونوعًا.
يبرز هذا السّلوك الفوقيّ -بشكل جليّ- في مسألة الحجاب([1])، والّذي يعود بجذوره إلى لحظة احتكاك الغرب بالإسلام، حيث أخذ حجاب المرأة يتصدّر قائمة الموضوعات الخلافيّة، والّتي ارتفعت وتيرتها مع تنامي الاختراق الغربيّ للعالم الإسلاميّ، وبالتّحديد، منذ عهد الخلافة العثمانيَّة، الّتي شهدت غزوات غربيَّة عدّة وبأشكالٍ مختلفة، من جنود وقناصلة ومؤسّسات تعليميَّة وإعلاميَّة ومراكز تجاريّة. وتكثر الشّواهد على ذلك، منها، ما قاله رئيس الوزراء البريطانيّ “وليم غلادستون” في العام 1894، عندما أعلن عن رؤيته لمصالح بلاده في الشّرق، وصرّح بأنّها لن تكون جيّدة حتّى يتم نزع الحجاب عن النّساء، وجعله غطاءً للقرآن، لحجبه عن أداء دوره في الحياة.
لا يقلّ الحاضر بمشهديّاته عن الماضي؛ بل إنّ الأدبيّات والسّلوكيّات ذات الصّلة بمسعى نزع الحجاب وإخراجه من دائرة التّأثير في الحياة لا تزال تتصاعد وتيرتها، مع متغيّر ملفت بأنّ محرّكاتها ما عادت أجنبيّة حصرًا؛ بل صار الحجاب موضوعًا إشكاليًّا حتّى في المجتمعات الّتي يعدّ أحد أهمّ معالم هويّتها. وهذا ما يُخرج المسألة من دائرة التّرف الفكريّ إلى مقام الواجب البحثيّ، للإسهام في تقديم مقاربة موضوعيّة تخطو نحو إجابة على سؤال مركزيّ يتمحور حول ماهيّة هذا السّاتر لجسد المرأة ومفاتنها، وبالتّحديد، لجهة حقيقة دوره في بناء الإنسان، والمجتمعات الإنسانيّة؟
الحجاب بين النّظريّة المادّيّة والدّين
إنّ نقطة البداية من حتميّة العلاقة الجدليّة بين حركة المجتمعات -رقيًّا أو تخلّفًا- وبين عمليّة بناء الإنسان، والّتي تأخذ بأدوات البحث نحو إدراك الأيديولوجيّات الّتي تسود هذه المجتمعات، بوصفها الأكثر تأثيرًا في تعيين رؤية إنسانها لنفسه، وللآخر، ولعامّة الوجود. لذلك، يلاحظ كم تتزاحم الأيديولوجيّات –وتتصارع فيما بينها- لتقديم رؤيتها في عمليّة بناء الإنسان، بوصفها الأطروحة الأمثل.
تُظهر عمليّة التّتبّع لمسار تشكّل الوعي البشريّ وجود نقطة اختلاف جوهريّ بين أيديولوجيّتين أساسيّتين: المادّيّة والدّينيّة، وبالتّحديد في الأمور الّتي تعين الإنسان على تطويع الطّبيعة، ومواجهة التّحدّيات للبقاء، وفي الاستجابة إلى غاية وجوده ونزعته التّطوريّة؛ أي في تعيين حقيقة الإنسان وجوهره. وفيما راح المادّيّون يجاهرون في إعلاء شأن الأبعاد المادّيّة بوصفها جوهر الإنسان وحقيقته، صوّب الدّين نحو النّفس البشريّة بوصفها هي الجوهر.
ولأنّ قيمة الجوهر في إظهاره وتشخيص دوره ومكانته في صناعة الحياة وتطوّرها، يصير بديهيًّا في اعتقاد المذهب المادّيّ العمل على تظهير عناصر القوّة المادّيّة للإنسان وتدعيمها، بما فيها من فاعليّة وجاذبيّة وحتّى الإغراء. بينما يدعو الاعتقاد الدّينيّ، بما ينسجم مع مبادئه، إلى الانشغال أكثر بدعامة القوّة النّفسيّة والرّوحيّة للإنسان، وإظهار جاذبيّتها.
يبرز هذا التّباين بين الأيديولوجيّتين في مسألة المرأة بوصفها نصف المجتمع، وشريك أساس في صناعة النّصف الآخر، حيث يلاحظ حجم التّركيز الّذي أولاه دعاة النّظريّة المادّيّة لمسألة جسد المرأة، وما يمتلكه من قدرات فاتنة، بتعيينه محور قوّة حضورها وجاذبيّتها؛ لذلك خاطبها المادّيّون بقولهم: صوّبي اهتمامك بالدّرجة الأولى نحو جسدك ليكون جاذبًا، وأحسني الاستفادة منه لدعامة دورك في الحياة.
في المقابل، يلاحظ كم أشار الدّين إلى المرأة بضرورة ووجوب ستر مفاتنها عندما تخرج إلى المجال العامّ؛ لتأكيد حضورها وفعاليّة أدوارها في الحياة. وفي تفسير لهذا التّشريع، أنّه في ما أراده لها، القول بأن لا يكون إظهار المفاتن الجسديّة عامل حجبٍ لجوهرها وجلالها المتمثّلين بنفسيّتها وروحيّتها؛ وذلك من خلال الانصراف الكامل عنها، والانشغال بتلك المفاتن بوصفها القوّة الأساس، وكي لا يكون جسدها سلعة استثماريّة في سوق المنافسة والاستغلال المادّيّ.
وفي هذا السّياق، يبرز سؤالٌ جوهريّ عن الدّوافع الأساسيّة لبروز المذاهب الوضعيّة المادّيّة -المتعارضة مع الدّين وتشريعاته- وحضورها الفاعل في الوعي وصناعة الإنسان، ولا سيّما، أنّ المجتمعات الغربية (بلاد المنشأ لهذه المذاهب إذا صحّ التّعبير) كانت بأغلبيّتها تؤمن بوجود الله، وتحرص على تأدية واجبات الدّين، والالتزام بتعاليمه؛ من بينها اللّباس المحتشم ووضع الحجاب.
الحجاب.. دوافع التّهميش في الغرب
تقاطعت التّفسيرات حول التحوّلات الفكرية الحادّة في المجتمعات الغربيّة وما تبعها من انحرافات سلوكيّة عن الدين، عند حقيقة لا يمكن تجاوزها، بأنّ توالد الأيديولوجيّات المادّيّة والإلحاديّة وانتشارها الواسع إنّما يعود بالدّرجة الأولى إلى أخطاء فادحة مورست باسم الدّيانة المسيحيّة؛ فالكنيسة عملت خلال القرون الوسطى على تحريفٍ لحقائق من الوحي الإلهيّ وخلطها بكلام البشر وخرافات وثنيّة، وجعلها عقائد إلهيّة تدخل في صلب الدّين وصميمه، وعدّت مخالفتها كفرًا وهرطقة، وراحت تُنشئ محاكم التّفتيش، لمساءلة النّاس عن آرائهم في أمور الطّبيعة والكون، ومعاقبة المخالف منهم، حيث يقدّر عدد من عاقبتهم هذه المحاكم 300,000 شخصٍ، أُحرق منهم 32,000 أحياءً.
ومن بين تلك التّحريفات ما يتعلّق بالمرأة، بقولهم إنّها أصل الخطيئة؛ فهي من أغوت آدم عندما أكلا من الشّجرة الّتي نهاهما الرّبّ عنها، وبسبب هذا الفعل، حكم الرّبّ بسيادة الرّجل عليها نهائيًّا. وقد جاء على لسان القدّيس بولس في العهد الجديد: “رأس كلّ رجل هو المسيح، أمّا رأس المرأة فهو الرّجل. الرّجل لا ينبغي أن يغطّي رأسه لكونه صورة الله ومجده، وأمّا المرأة فهي مجد الرّجل، لأنّ الرّجل ليس من المرأة؛ بل المرأة من الرّجل”([2]).
هذه الدّوافع وغيرها، هي مَن جعلت الكثيرين في أوروبا والعالم يبتعدون عن الدّين بحثًا عن إجابات غير لاهوتيّة حول الإنسان والوجود، وفي أحسن الأحوال، الذّهاب نحو طروحات علمانيّة تدعو إلى الفصل بين الدّين والدّولة. لكن ما يثير الجدل حول مسألة العلمانيّة، الّتي تُقدَّم بوصفها أيقونة الفكر الحداثويّ، والّتي تعزل الخاصّ (الاعتقاد الدينيّ) عن العامّ (التزامات الفرد نحو الدولة)، بينما تكشف سلوكيّاتها عن تطرّف وتعصّب تُجاه الدّين وكلّ المظاهر المعبّرة عن هُويّته، من بينها، الموقف الحادّ والعدائيّ تُجاه الحجاب، وتوصيفه عائقًا أساسيًّا أمام حرّيّة المرأة، ومعطّلًا لدورها في الحياة.
وقد أشار المفكّر”ألكسي دي توكفيل” أنّ فلاسفة العلمانيّة يعتقدون بأنّ الحماسة الدّينيّة ستخمد عندما تزيد الحرّيّة، لاعتبارهم أنّ روح الدّين وروح الحرّيّة متناقضان، إذ لا يزال يُنظر إلى الدّين على أنّه تهديد للحرّيّة([3]). وحقيقة هذا الاعتقاد المتطرّف لا تبتعد عن الدّور الفاعل والمؤثّر للمرأة وحجابها في تأكيد الهويّة، وحراسة المنظومة القيميّة، كمقدّمات تحمي الاستقلال الفكريّ في ظلّ تصدّر الثّقافة ميادين المواجهة.
وإذا كان ما تقدّم يسهم في تبيان عوامل أساسيّة أدّت إلى انطلاق الفكر المادّيّ في المجتمعات الغربيّة، وما تبعه من أدبيّات وسلوكيّات عملت على تحجيم دور الدّين في الحياة، ولا سيّما ما يتعلّق بالمرأة وحجابها، فالسّؤال الّذي يطرح هنا: ما هي العوامل الّتي جعلت هذه الأدبيّات والسّلوكيّات تغزو المجتمعات المسلمة أيضًا؟
الحجاب، دوافع التّهميش في الشّرق
أوّل الدّوافع ذاتيّ؛ فمن السّهولة والتّقصير في آنٍ الاكتفاء بتوجيه أصابع الاتّهام للفاعل الخارجيّ في تحميله مسؤوليّة وتبعات غزو الشّرق، بأدبيّاته وسلوكيّاته المناقضة للدّين وقيمٍ إنسانيّة، من دون الأخذ بعين الاعتبار ما قدّمه الشّرقيّون أنفسهم من محفّزات وقابليّات. إذ يبدو جليًّا أنّ عوامل انبعاث هذه الأدبيّات والسّلوكيّات في المجتمعات المسيحيّة الغربيّة قد وجدت ما يجاريها -إلى حدٍّ ما- في المجتمعات الإسلاميّة. ففي عصور لاحقة على البعثة النّبويّة، شهدت المجتمعات الإسلاميّة ممارسات باسم الدّين يختلف بعضها إلى حدّ النّقيض عن الّذي جاء به النّبيّ محمّد(6)، ولا سيّما لجهة التّعامل مع المرأة وقضاياها.
فمن الثّابت عمليًّا، مكانة المرأة في الدّين الإسلاميّ؛ فالنّساء في عهد الرّسول محمّد(6) كنّ يحضرنَ إلى المسجد للصّلاة، الّذي ضمّ إلى جانب صفوفهنّ صفوف الرّجال، وجلست المرأة إلى جوار رسول الله وآل بيته(G) متعلّمة ومتحدّثة ومقاتلة ومهاجرة في ميادين شتّى، كما عُرف عنها أيضًا اشتغالها بأعمال الطّبّ، والتّجارة، والتّعليم وغيرها من الأعمال. فالمرأة في الإسلام هي حارسة القِيَم وصانعة الرّجال.
ومن الثّابت أيضًا، أنّ الانحراف الّذي بدأ مع خذلان المسلمين للنّبي محمّد(6)، حين مخالفتهم تعيينه للوليّ من بعده، قد امتدّ ليطال نواحٍ عدّة في العقيدة والفكر والتّشريع الدّيني، وهو فيما أدّى إليه، من تهميش وتغييب لدور المرأة. فالحجاب السّاتر لمفاتن المرأة الهادف إلى تألّقها أكثر في حضور جوهرها وجلالها، صار بفضل هذه الانحرافات عنوانًا لعزلتها، وقهرها، واستغلالها، وتعطيلًا لدورها في صناعة الحياة.
إحدى النّتائج الكارثيّة لهذا المسار الانحرافيّ برزت حين اتّخذ الغرب، بنزعته الاستعماريّة وأيديولوجيّته المادّيّة، من إنقاذ المرأة الشّرقيّة مجالًا حيويًّا للاستغلال والتّسلّل إلى المجتمعات الإسلاميّة. فهذه الحميّة الغربيّة الّتي برزت بقوّة، منذ القرن التّاسع عشر، دفعت العديد من الباحثين إلى القول بأنّ شعار تحرير المرأة كان غطاءً أساسيًّا لغزو بلاد الشّرق واستعمارها.
عمل المستشرقون، في قراءاتهم لمآلات انحراف المجتمعات الإسلاميّة عن الإسلام الأصيل، على صوغهم أفكاراً تنال من الدّين الإسلاميّ وتشوّه صورته، بوصفهم رسالته بأنّها عائق أساسيّ في تقدّم الإنسانيّة، ما مكّن النّخب الاستعماريّة، بأدوات تبريريّة، لشنّ غزواتها لبلاد المسلمين تحت لافتة جلب الحضارة لها وتخليصها من تخلّفها.
فالأوروبيّون على اختلافهم، رجالًا ونساءً، مستعمرين أو سيّاحًا، فنّانين أو مبشّرين، باحثين أو سياسيّين، قد أجمعوا في ذاك الزّمن على رأي واحد يستند إلى قاعدة فكريّة تقول: لا يمكن أن ترقى شخصيّة المرأة المسلمة ما دامت تقبل حكم القرآن أساسًا لإيمانها، والإذعان إلى الحياة المشوّهة الّتي يحكم بها عليها([4]).
إذ ترتكز النّظرة الغربيّة في فهمها لمسألة حجاب المسلمة، على معطى استشراقيّ يشير إلى أنّ السّلوكيّات الخاطئة الّتي تمارس بحقّ المرأة المسلمة، إنّما تستمدّ مشروعيّتها من تعاليم الدّين الإسلاميّ. وبالتّالي، فإنّ المدخليّة الأساس لتحريرها، هي في إقناعها بأنّ القرآن، بوصفه الدّستور الإلهيّ لدى المسلمين، هو من يقف خلف كلّ ما تعانيه من ظلم وقهر وتهميش، وعليها أن تنزع الحجاب عن رأسها وتلفّ به القرآن، لحجب دوره في الحياة الاجتماعيّة.
ذكرت الباحثة الغربيّة “كاثرين بولوك” في كتابها عن نظرة الغرب إلى الحجاب: أنّ الأوروبيّ كان يجاهر بأنّ إقامته في الشّرق لها غاية واحدة وهي جني المال، لذا وجد من الضروريّ تعليم الأساليب الأوروبيّة لأهل هذه البلاد، والبداية من النّساء المسلمات، لما لهنّ من أثر بالغ على أزواجهنّ وأطفالهنّ([5]).
وكان للباحثة “ليلى أحمد” تحديد واضح لمعنى “الأساليب الأوروبيّة” بقولها: إنّ الأفكار الغربيّة تستخدم أساسًا للتّبرير الأخلاقيّ للهجوم على المجتمعات المحلّيّة، ولتدعم فكرة التّفوّق الشّامل لأوروبا. فالإستراتيجيّة الغربيّة واحدة؛ مفادها: علّموا المرأة في الشّرق كيفيّة غرس الفضائل الغربيّة في أطفالها، فيتقدّم المجتمع([6]).
وبالفعل، إنّ أولى الخطوات الّتي مورست لتنفيذ هذه الإستراتيجيّة كانت في دفع المرأة الشّرقيّة إلى نزع حجابها كمقدّمة للتّخلّي عن دينها؛ إذ تفيد المعطيات الثّابتة بأنّ معلّمي المؤسّسات الإرساليّة، كما العلمانيّة، راحوا يقنعون البنات بتحدّي أولياء أمورهنّ، وذلك من خلال عدم ارتداء الحجاب.
لربّما يعين ما تقدّم على فهم الظّروف الموضوعيّة في حقبات من تاريخ المجتمعات الإسلاميّة، والّتي أتاحت لدوافع الاستعمار بنظريّاته وسلوكيّاته المعارضة للدّين والمنظومة القيميّة من أن تغزو هذه المجتمعات، ولكن ما هو التّفسير الّذي يمكن أن يقدّم الآن في ظلّ انحسار الاستعمار المباشر من جهة، وتجدّد النهضة الإسلاميّة من جهة أخرى، حيث لا يزال الدّين وحجاب المرأة في انشغال بحثيّ دائم عن إجابات مقنعة، وسط دفق هائل من التّشكيك والتّوهين بدورهما في صناعة الإنسان والحياة؟
الحجاب.. وتحدّي تأكيد الدور
يجدر هنا، في سياق الإجابة على السّؤال المطروح، التّوقّف أمام مسألتين:
الأولى: ضرورة الاعتراف ببراعة الغربيّين، ودهائهم في سعيهم للحفاظ على ديمومة تأثيراتهم العميقة في وعي وسلوكيّات الكثير من أهل الشّرق، على الرّغم من مرور عقود على خروج جنودهم من البلاد الّتي كانوا يستعمرونها، حيث استطاعوا إيجاد طبقة واسعة من صنّاع الرّأي في المجتمعات الشّرقيّة، ليكونوا سفراء افتراضيّين يحملون أفكار الغرب المادّيّة، ويمثّلون مصالحه بأمانة عالية.
فصحيح أنّ الأدبيّات الغربيّة المادّيّة قد فشلت في القضاء على الدّين الإسلاميّ، لكنّها لم تيأس من إحداث تحوّلات على مستوى الفكر والسّلوك الدّينيّ، وذلك من خلال أشخاص استمرّوا في التعرّف على أنفسهم بعدسات غربّية، وجاهروا بتأييدهم المطلق لما تقدّمه تلك العدسات من تشخيصات لواقعهم، ولا سيّما لجهة المرأة وأدوارها، والتزامهم بوصفاتها العلاجيّة، حيث يرى الكاتب المغربيّ “رشيد بوطيّب” أنّ القراءات المغلوطة حول الحجاب تساهم في خلقها آراء لشخصيّات تغرّبت عن ثقافتها وهويّتها العربيّة والإسلاميّة، ومكّنتها الميديا والنّخب الغربيّة من أن تسجّل لها حضورًا إعلاميًّا قويًّا([7]).
الثّانية: حجم التّضخيم الواضح، إلى حدّ التّصوّر الخياليّ، لمسألة الذّكوريّة في المجتمعات الإسلاميّة، على الرّغم من التّطورات الّتي شهدتها هذه المجتمعات، لجهة حجم التّحرّر من موروثات اجتماعيّة ألبست زورًا لبوس الدّين، ومن إقرار لأكثر من باحث في شؤون المرأة الشّرقيّة وحريّتها، منهم على سبيل المثال، “قاسم أمين” الّذي أكّد عدم موضوعيّة هذا التّضخيم في قوله: “بأنّ السّلطة في البيت المصريّ هي في يد المرأة لا الرّجل، فما الرّجل إلّا ما ربّته أمّه عليه، ومن المستحيل تربية رجال ناجحين من دون أمّهات قادرات على تربيتهم ليكونوا ناجحين”([8]).
ومع ذلك، أحدث هذا التّصوّر فوضى على مستوى وعي المرأة المسلمة لهويّتها من خلال انجذابٍ لكثيرات منهنّ -إلى حدّ القناعة- لفكرة ذكوريّة الدّين الإسلاميّ، وتأييدهنّ لحتمية العلاقة النّدّيّة -وليس التّكامليّة- بين الرّجل والمرأة، بوصفها المدخليّة الأساس لتمكين المرأة من القيام بأدوراها في الحياة. ولأنّ الحجاب يُقدَّم على أنّه مجرّد حاجة ذكوريّة، صار خلعه تعبيرًا عن بلوغها مرحلة الرّشد والوعي لمصالحها.
وسط هذه المشهديّات، يلاحظ ما تشهده البشريّة من صحوة جديدة للدّين الإسلاميّ، وعودة جاذبيّته إلى العقول والقلوب، وسرعة انتشاره، وحضوره القويّ والفاعل في الشّرق كما الغرب، على الرغم ممّا يتعرض له من حملات التّشويه والمحاصرة. وما ذلك إلّا نتاج عقول وإرادات أمكنها التّحرّر من أسرها، لمّا أدركت أنّها دعامة سجّانيها. وحول ذلك، تكثر التّفسيرات والتّحليلات لمحفّزات هذه الصّحوة، لكنّها تلتقي جميعها عند المرأة، الّتي لمّا تصالحت مع فطرتها استعادت حقيقة دورها وجوهره؛ بوصفها مربّية الإنسان، الغنيّ بقيمه، والواثق بمعتقده، وما حجابها ولباسها المحتشم إلّا الدّرس الأوّل.
لائحة المصادر والمراجع
المصادر والمراجع العربيّة
- الكتاب المقدّس، جمعيّة الكتاب المقدّس، لا طبعة، بيروت، 1980م.
- بوطيّب، رشيد، الجدل حول الحجاب في أوروبا: حقد على الحجاب أم تاريخ منسيّ للمرأة الغربيّة؟، موقع قنطرة الألمانيّ، 26-1-2011، الرابط: https://2u.pw/WumzD
- بولوك، كاثرين، نظرة الغرب إلى الحجاب، ترجمة شكري مجاهد، الطبعة الأولى، الرّياض، دار العبيكان، 2011م.
- التّبريزي، جواد بن عليّ، صراط النّجاة، ط1، قم – إيران، دار الصّدّيقة الشّهيدة، ج 9، 1427هـ.
- عبد العزيز، حسين، في نقد العلمانيّة الفرنسية، موقع الجزيرة نت، 25-1-2015، الرابط: https://2u.pw/kOjdy
- عمارة، محمّد، قاسم أمين تحرير المرأة والتّمدّن الإسلاميّ، أعلام 6، لا طبعة، بيروت، دار الوحدة، 1985م.
- هيملفارب، غيرترود، الطّرق إلى الحداثة: التّنوير البريطانيّ والتّنوير الفرنسيّ والتّنوير الأمريكيّ، ترجمة د. محمود سيّد أحمد، مجلّة عالم المعرفة، العدد(367)، 2009م.
المصادر والمراجع الأجنبيّة
- Mabel Sharman Crawford, Through Algeria, no edition, London, Ordinary to Her Majesty, 1863, quoted in j. Marbo (ed.), Veiled Half-Truths: Western Travellers Perception of Middle Eastern Women, London, I,B.Tauris, 1991.
(*) – أستاذ في الجامعة اللّبنانية.
– مدير قسم الدّراسات الميدانيّة في جمعيّة المعارف الثقافيّة.
([1]) لا يوجد في فقه الإسلام ما يُعرف بالحجاب الّذي تستتر به المرأة، بل إنّ أبحاث الفقهاء وفتاويهم كلّها تنصبّ حول مصطلح السّتر والسّاتر، فقد ذكر الفقهاء أنّ مقدار السّتر الشرعيّ الّذي يجب على المرأة هو: ستر جميع بدن المرأة عدا الوجه والكفّين عن الأجانب، وكذا يجب ستر الزينة ولو كانت الزينة في اللّباس؛ لأنّها مظهرة للبدن وكاشفة عن تفاصيله، بحيث توجب جلب نظر الرجال الأجانب الّذين يُحرّم عليهم النّظر إليه. انظر: جواد بن علي التبريزي، صراط النجاة، ج 9، ص 116.
([2]) الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 3-7-8.
([3]) حسين عبد العزيز، في نقد العلمانيّة؛ ولمزيد من التوسّع انظر: غيرترود هيملفارب، الطّرق إلى الحداثة، التّنوير البريطانيّ والتنوير الفرنسيّ والتنوير الأمريكيّ، ص 160.
([4]) Mabel Sharman Crawford, Through Algeria, quoted in j. Marbo (ed), Veiled Half-Truths: Western Travellers Perception of Middel Eastern Women, p. 182. (من كتاب نظرة الغرب إلى الحجاب)
([5]) كاثرين بولوك، نظرة الغرب إلى الحجاب، ص 76.
([7]) رشيد بوطيّب، الجدل حول الحجاب في أوروبا: حقد على الحجاب أم تاريخ منسيّ للمرأة الغربيّة؟، 26-1-2011، https://2u.pw/WumzD
([8]) محمّد عمارة، قاسم أمين تحرير المرأة والتمدّن الإسلاميّ، ص 76.
استهداف الأبويّة ونهاية النّظام الأُسريّ
إذا كانت كتابة التّاريخ -من وجهة نظر نسويّة- و"جندرة اللّغة" بمثابة محاولات جديدة للتّمرّد…