د. أميمة علّيق(*)
“الزّيّ السّاتر للمرأة هو المانع الأساسيّ من التعرّض لها”؛ عبارة عرضها كلّ من الباحثَين في مجال علم النّفس التّطوّريّ “راندي ثورنهايل” و”كريج بالمر” في العام 2000م، وقد لاقت مقالتهما الرّفض في الولايات المتّحدة؛ لأنّها تتنافى مع حرّيّة الاختيار لدى النساء في ارتداء اللّباس القصير أو الضّيّق. وخشي بعض المثّقفين من ترويج هذه الفكرة في المجتمع. كما رُفضت الفكرة على الرّغم من الفظاعة الّتي تسيطر على الأرقام المرتفعة جدًّا للنّساء اللّواتي يتعرّضنَ للتحّرّش والاعتداءات في المجتمع الغربيّ. وكأنّ السّير في هذا النّمط من الحياة هو هدف تسعى إليه تلك المجتمعات: حرّيّة فرديّة، مع كلّ ما يصاحبها من أذى وتحلّل.
من الموضوعات المهمّة والمعقّدة في العلوم الإنسانيّة مسألة “معرفة الإنسان”؛ لأنّها ترتبط بباطنه وبظاهره. ففي باب معرفة الإنسان يبرز واحد من المفاهيم الأخلاقيّة المهمّة الّتي تتمّ معالجتها في الميدان الثّقافيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، وهو الحجاب وعلاقته بالعفاف. يستعمل المصطلحان إلى جانب بعضهما البعض على الرّغم من الاختلاف بينهما. لغويًّا، يستعمل الحجاب بمعنى المانع للوصول إلى شيءٍ ما. ويستند البعض إلى الآية المباركة: ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾([1]) ليفسّروا الحجاب على أنّه الإخفاء، ويرى آخرون أنّ الحجاب هو ستارة تُخفي وتغطّي شيئًا ما([2]).
وللعفاف أيضًا معانٍ متعدّدة، فقد ذكر الرّاغب الأصفهانيّ في كتابه “مفردات ألفاظ القرآن” أنّ: العفّة حصول حالة للنّفس تمتنع بها عن غلبة الشّهوة. وقد وردت في القرآن الكريم بمعنيَين؛ الأوّل هو ضبط النّفس والطّهارة، والثّاني هو القناعة في الأمور الماليّة([3]).
لذا، يمكننا أن نستخلص من معنى الحجاب أنّ العفاف هو نوع من الحجاب الدّاخليّ الّذي يمنع الإنسان من الخطأ. إذ إنّ غضّ البصر، وتنزيه السّمع، وتزكية القلب والجوارح كافّة، تشكّل العفاف الّذي يؤدّي إلى الحجاب الظّاهريّ. إذًا، إنّ العفاف هو الفلسفة والعلّة الوجوديّة للحجاب([4]). وبتعبير ألطف، إنّ الحجاب هو ثمرة العفاف([5]). إنّ الحجاب متعلّق باللّباس، ويتبعه العفاف بوظيفتين مرتبطتين: وظيفة تتعلّق بالبُعد الفرديّ، وأخرى مختصّة بالنّاحية الاجتماعيّة.
من النّاحية الفرديّة يؤدّي الحجاب وظيفة السّتر، وتوفير الأمن الجسديّ. ومن النّاحية الاجتماعيّة يؤدّي الحجاب الدّور الأساسيّ في تشكيل الهُويّة وحفظ الأمن الاجتماعيّ([6]).
إنّ السبب الأساسيّ للحجاب هو الحضور العفيف للمرأة في المجتمع، والّذي يمنع في الوقت ذاته أيّ أذى، ويعزّز مواجهة الحالات النّفسية المرضيّة. إذ يعتبر القرآن الكريم أنّ الحجاب بين المرأة والرجل هو من الحركات المهمّة التي تحفظ سلامة المجتمع: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾([7]).
كما يتّضح لنا من الآيات القرآنيّة المباركة أنّ من أهداف تشريع وجوب الحجاب الإسلاميّ: تزكية النّفس، الطّهارة، العفّة في سبيل تقوية ونشر الأمن الاجتماعيّ ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾([8])، مع ملاحظة أساسيّة يجب أخذها بعين الاعتبار، وهي أنّ العفاف وتزكية النّفس والطّهارة لا ترتبط بالمرأة فقط؛ بل بالرّجل والمرأة؛ أي بكلّ فرد من أفراد المجتمع، كي يتكامل هذا المجتمع بكلّ أعضائه.
فإذا ما نظرنا إلى المجتمعات غير الإسلاميّة والمتحلّلة أخلاقيًّا، يمكننا أن نلاحظ آثار عدم رواج ثقافة العفّة والتّزكية والطّهارة. على سبيل المثال، أظهرت إحدى الدّراسات الّتي تموّلها المحاكم العائليّة في كاليفورنيا، والّتي تناولت عيّنة من 8000 امرأة و8000 رجل، أنّ من بين كلّ 6 نساء في الولايات المتّحدة تعرّضت واحدة إلى 3 منهنّ للاعتداء الجنسيّ. كما أظهرت نتائج إحدى الدّراسات، الّتي أجرتها “الكوليج الوطنيّة للنّساء من ضحايا الاعتداءات الجنسيّة”، أنّ حوالي واحدة وسبعين مليون امرأة تعرّضنَ للتّحرّش، 83 % منهنّ تحت سنّ الـ25 سنة([9]).
لكن ما الّذي حصل في مجتمعاتنا؟ ولماذا تحوّل الحجاب إلى قضيّة، مع ما له من آثار واضحة وجليّة إيجابيّة على الفرد والعائلة والمجتمع، ومع ملاحظتنا ولمسنا يوميًّا الانهيار القيميّ والأخلاقيّ في المجتمعات الغربيّة؟
للإجابة على هذا السّؤال، لا بدّ من العودة إلى مئتيّ سنة تقريبًا، أو إلى ما يُسمّى بعصر التّنوير، كما يطلق على الفترة ما بعد القرن الثّامن عشر، حين ادّعت النّخب العلميّة أنّها -بالارتكاز على التّجربة والعلم الحديث، وبعيدًا عن التّديّن والماورائيّات- قادرة على تنظيم الكون، وحلّ المشكلات الحياتيّة المتزايدة.
لكن مع مرور الزّمن، اتّضح أنّ هذه المعادلات، المبنيّة على المادّيّة والمتمحورة حول الإنسان، لم تستطع أن تقدّم حياة ناجحة للإنسان؛ بل أكثر من ذلك ولّدت تفكيرًا تسيطر عليه أصالة القدرة، وأصالة اللّذّة، وأصالة النّفع. ظواهر خلقت أرضيّات لظهور أزمات ومشاكل عديدة؛ كالحروب العالميّة، التّسلّط السّياسيّ، والتّخطيط لمواجهة الشّرائع الشّاملة كالإسلام. كان من نتاج هذا التّوجّه الخاطئ انتشار النّفاق في لباس التّمدّن والحضارة؛ حيث هدف المتواجدون في السّلطة العالميّة إلى القضاء على صحّة النّفوس لدى الأجيال. وكان من مظاهر هذه الحضارة الجديدة أيضًا وضع العلم مقابل الإيمان، العقل مقابل النّقل، العفّة والطهارة مقابل الحرّيّة الكاذبة، والحجاب مقابل الحقّ الجنسيّ للمرأة.
أرخت هذه الأفكار بظلالها على المجتمعات، وبالتّالي على سلوك البشر؛ لأنّ أيّ تغيير بالمحيط الّذي يعيش فيه البشر يؤدّي إلى تغييرات بالأفكار والسّلوكات([10]). فإذا كانت هذه التّغيّرات مقبولة من المجتمع، ومتناسبة مع قيمه وسننه، سيرتقي المجتمع بكلّ أفراده. وعلى العكس من ذلك، إذا كان ثمّة تضادّ وتعارض بين الأفكار الواردة والقيم الموجودة في المجتمعات، ابتليت هذه المجتمعات بالتّعارض والتّناقض وفَقَدَ النّاس هُويّتهم الفكريّة والدّينيّة([11]).
بالطّبع، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ السبب الأساسيّ في اتّباع الأفكار الواردة من الثّقافة الغربيّة في مجتمعاتنا بسهولة كان سببه المشاكل الجوهريّة الّتي عانى النّاس منها نتيجة التّطبيق الخاطئ للدّين. إذ وجدت هذه الأفكار التّربة الخصبة لنموّها؛ حيث عدم العدالة والظّلم والضعف العلميّ والاجتماعيّ وعدم ثقة المرأة بالإسلام وبالحجاب. في هذا النّطاق، وعلى الرّغم من أنّ الأفكار الجديدة قد تولّدت في الغرب وهي وليدة هذا المجتمع، إلّا أنّ الأصوات قد علت في بلادهم لمواجهتها:
يُعبّر العالم الفرنسيّ “ألكسيس كاريل”، المتخصّص في مجال الفيزيولوجيّة، عن وجهة نظره النّاقدة، في كتابه “الإنسان ذلك المجهول”، الصّادر في العام 1935 -والّذي ما زال يطبع ويتمّ التّداول به بكثرة حتّى يومنا هذا-، موضحًا أنّ البناء الكبير للحضارة الجديدة قد علا بشكل مؤسف؛ لأنّه ارتفع بالفعل دون الالتفات إلى طبيعة الإنسان وحاجاته الحقيقيّة”.
ويضيف، مؤكّدًا حول عدم فاعليّة العقل البشريّ إن كان دون دليل وهادٍ: “إنّ العالم الّذي هو وليد خطأ عقلنا وجهلنا بالإنسان لا ينفعنا. إنّ التكيّف في هكذا عالم أمر صعب جدًّا؛ لذلك يجب الثّورة عليه، وتغيير قيمه كي يصبح لائقًا بالإنسان”([12]).
سوزان فالودي، الأستاذة الجامعيّة المتخرّجة من جامعة هارفارد، تقول في كتابها الصّادر في العام 1991 “ردّة الفعل: الحرب غير المعلنة ضدّ المرأة”: “إنّ النّساء حزينات، بسبب هذه الحريّة. إنّ النّساء اللّواتي يسعيَن إلى الحرّيّة المطلقة، هنّ في الحقيقة يُقيّدن أنفسهنّ بالأغلال”. وها هي تقدّم للنّساء في العصر الحديث سبلًا لحلّ هذه المعضلة قائلة: “إنّ هدف توجّه الكثير من البشر إلى التّديّن والدِّين هو الحصول على حياة جديدة تخلّصهم من قسوة ثقافتهم”([13]).
ثمّ تلفت النّظر إلى أنّ احترام الأماكن المقدّسة هو أمر مشترك بين كلّ الأديان، ومن الأمور المشتركة أيضًا هو السّتر في هذه الأماكن. عندها تشير إلى الملابس العفيفة في الثّقافة الإسلاميّة، وتتحدّث عن إيمانها بأنّ حركة ثوريّة تتشكّل شيئًا فشيئًا للعودة إلى الملابس العفيفة في أمريكا.
ثمّة نتيجة توصّل إليها بعض العلماء، وما زالت مجتمعاتنا بأغلبها ترفض ما قدّمه الإسلام منذ قرون من توصيات بإمكانها -لو طُبّقت- أن تحمي المجتمعات، وتقيها من الانحطاط والتحلّل الأخلاقيّ. إنّ “علاقة اللّباس بالعفّة” مفهوم أكّده الإسلام منذ قرون وقرون. فالإسلام حين طرح لباس المرأة، أعطاها جواز حضورها في المجتمع، ومن خلال تعاليمه الحكيمة فتح الباب أمام طريقة هذا الحضور، فهو من جهة سهّل لهذه القدرة العظيمة -المرأة- الحضور في المجتمع، ومن جهة ثانية حمى المجتمع من الفساد والانحرافات الّتي يمكن أن تنشأ من الاختلاط بين الرّجل والمرأة.
في المتون الإسلاميّة ذُكر الكثير حول الحجاب وعدم الحجاب. على سبيل المثال، جاء في الآية 60 من سورة النّور ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾. لم تذكر الآية نوع الخير الّذي تحصل عليه النّساء من العفّة، إذًا هو يشمل الخير المادّيّ والمعنويّ. أمّا في الآية 53 من سورة الأحزاب، فقد تمَّ حصر النّفع، حيث ذكر: ﴿ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾([14]) و﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾([15])، ما يعلن بشكل واضح وصريح أنّ الحجاب هو فعلًا شعار ترفعه المرأة المسلمة، فيميّزها؛ فيعرف الجميع أنّ من تلبس الحجاب هي مسلمة، فلا تتعرّض للأذى أو الإيذاء من أيّ نوع.
هاتان الآيتان تدلّان على الأثر المهمّ للحجاب، وهو الطّهارة القلبيّة للمرأة، الّتي هي مقدّمة لسلامة القلب، وعدم الّتعرّض للأذى، والشّعور بالأمان. وهذا ما يُسمّى في علم النّفس بالصّحّة النّفسيّة.
ماهيّة دور الحجاب في الصّحّة النّفسية للمرأة والمجتمع
ممّا لا شكّ فيه أنّ الصّحّة النّفسيّة من النّعم الإلهيّة الّتي لا ترقى إلى مستواها أيّ نعمة. هذه النّعمة، الّتي تحدّث عنها وعن أهمّيّتها أولياء الله، إنّما هي بسبب أنّ كلّ أداء نفسيّ اجتماعيّ جسديّ في الدّنيا والآخرة مرتكز عليها. وبما أنّ المرأة تتولّى أدوارًا جوهريّة لا يُستغنى عنها، فقد أولاها الإسلام أهمّيّة خاصّة؛ حيث يمكننا، من تعاليم الإسلام وتوصياته، أن نستخلص أنّ النساء يجب أن يمتلكنَ درجة عالية من الرّضى الأُسريّ والحياتيّ كي يتمكّنَّ من أداء مسؤوليّاتهنّ على أحسن وجه. لذلك، كان الحجاب وسيلة للحفاظ على المرأة من الاضطرابات والمشكلات.
ومن أهمّ آثار الحجاب من النّاحية النّفسيّة:
1- تجاوز الفرديّة
لأنّ الحجاب لا يرتبط بالفرد فقط؛ بل يتخطّاه ليشمل المجتمع. يظهر الرّافضون للحجاب سخطًا على فكرة تحمّلهم مسؤوليّة المجتمع والحفاظ على عفّته والحالة الإنسانيّة بين البشر، فنجدهم يركّزون على مسؤوليّتهم الفرديّة.
2- الشّعور بالأمن
لو لم يشعر البشر في حياتهم اليوميّة -في مكان العمل والدّراسة وفي المنزل- بالأمن، لسيطر عليهم الاضطراب والقلق. والنّساء على الخصوص، بسبب ميزاتهنّ الشّخصيّة ووضعهنّ الاجتماعيّ، قد يتعرّضنَ للأذى أكثر، وهنّ بحاجة إلى الشّعور بالأمن أكثر من الرّجال، الّذين قد يُبتلى بعضهم بما ذكره القرآن الكريم ﴿فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾([16]).
3- إدارة غريزة حبّ الظهور والتبرّج
يلعب الحجاب دورًا أساسيًّا في إدارة وتنظيم غريزة حبّ الظّهور وحبّ التبرّج لدى النّساء، وهو عامل مهمّ في تخفيف التّوتّر والهموم الذّهنيّة لدى المرأة؛ لأنّ حرّيّتها في التبرّج خارج المنزل تؤدّي إلى الإفراط في التّجمّل، وإلى التّوجّه نحو الجمال الظّاهريّ. هذا الاهتمام المفرط قد يؤدّي إلى ظهور اختلالات نفسيّة وعدم استقرار عند المرأة. وهذه الاختلالات ترتبط بنقطتين؛ الأولى هي المحاولة المستمرّة لإرضاء الرّجال من حولها، فهي تحسّن تبرّجها للفت أنظارهم. والنّقطة الثّانية هي خوفها من ظهور منافسة لها في جذب انتباه الرّجال. وهذا الأمر، إن استمرّ، يحوّل المرأة إلى موجود قلق متوتّر. في المقابل، يقدم الإسلام قاعدة بسيطة تجعل المرأة أكثر هدوءًا وثباتًا، من خلال حديث للإمام عليّ (A): “زكاة الجمال العفاف”([17]). إنّ العفّة والحجاب هما سبب زيادة الجمال، حيث جاء في رواية: “صيانة المرأة أنعم لحالها ولجمالها”([18]).
4- التمسّك بالأخلاق
من الحاجات الأساسيّة الّتي تحتاجها البشريّة للوصول إلى الصّحّة النّفسيّة هي الأخلاق، والتّمسّك بها. فالإنسان لن يصل إلى الشّعور بالأمان، وبالتّالي إلى الصّحّة النّفسيّة، إلّا إذا كان تحت مظلّة الأخلاق والإيمان. إنّ الشّرط الأساسيّ للتمسّك بالأخلاق هو تجنّب الشّهوات الحيوانيّة، إذ تعتبر هذه الشّهوات والعلاقات المفتوحة والحرّة بين الرّجال والنّساء من أكثر المفاسد الّتي قد يقع فيها البشر. بالتّالي، إذا أردنا حفظ المجتمعات من خلال الحفاظ على الأخلاق والأمن والسّلام الاجتماعيّ، لا يمكننا أن نتجاهل قضيّة الحجاب والملابس السّاترة، والّتي تؤثّر على الصّحّة النّفسيّة للنّساء، وعلى الصّحّة النّفسيّة للمجتمع. وكما يقال: إنّ مسؤوليّة النّساء تهذيب أخلاق الرّجال.
5- الحفاظ على تماسك الأسرة
من فوائد الحجاب التي تؤثّر أيضًا على الصّحّة النّفسية للمرأة، دوره في حفظ الزّواج والعائلة؛ حيث يساعد الحجاب -في حال كان عامًّا لدى النّساء كافّة-؛ فيغضّ نظر المتزوّجين عن غير المحارم، ويحثّهم نحو السّعي إلى الالتفات إلى زوجاتهم دون السّعي وراء المتبرّجات خارج المنزل. إذ إنّ هذا السّعي يؤثّر على شعور المرأة بالتوتّر، نتيجة الإهمال العاطفيّ، ونتيجة تشتّت الرّجل خارج المنزل. والتّوتّر والاضطراب اللّذين تعيشهما المرأة سيؤدّيان إلى تضعيف أواصر الأسرة، والعلاقات اللّطيفة داخلها، فتنتقل هذه المشاكل من الأُسر إلى المجتمع كلّه. بينما إذا كان السّعي لحفظ الأسرة من جانب المرأة والرّجل، فإنّ الأمان والسّعادة والشّعور بالثّقة المتبادلة ستكون ركائز لبناء الأسرة، وحفظها، وتكاملها، لتصير سكنًا للرّجل والمرأة والأطفال. يؤكّد الشّهيد مطهّري أنّ فلسفة السّتر، ومنع حصول الزّوج على اللّذّة الجنسيّة من خلال علاقات مع نساء خارج إطار الزّواج، هما من النّاحية النّفسيّة من عوامل سعادته. بينما في النّظم الحرّة تتحوّل الزّوجة الشّرعيّة إلى منافس، وإلى “حارس لسجن الزّواج”([19])!
6- الحفاظ على الخصوصيّة الشّخصيّة
تعتبر الخصوصيّة الشّخصيّة من أهمّ مصاديق حقوق الإنسان، وهي من المباني الأساسيّة الّتي يعترف بها الدّين، والقوانين الوضعيّة أيضًا. ومن المباني المعرفيّة للتّوجّه نحو العفاف والحجاب حاجة الإنسان إلى الخصوصيّة الشّخصيّة، وإن كان هذا الأمر مكانيًّا أو نفسيًّا أو معلوماتيًّا من المباني المعرفيّة الأخرى مسألة فطريّة؛ إذ لا يرضى الإنسان بأن يتعرّض للاعتداء أو التّفتيش أو التّعذيب الجسديّ أو المعاينات الطبّيّة الإجباريّة. لذا، يُعدّ موضوع الحجاب والعفاف من الأمور المتعلّقة بالخصوصيّة الشخصيّة، الّتي يسعى كلّ فرد في المجتمع للحفاظ عليها.
7- تعديل النّظرة إلى العلاقات بين البشر
يسعى الحجاب في المجتمعات المتديّنة إلى تحويل العلاقات بين الرّجل والمرأة، في العمل والشارع والأماكن العامّة، من علاقات بين أنثى وذكر إلى علاقات بين إنسانَين؛ حيث يعدّل الحجاب المشاعر الغريزيّة للاثنين في علاقتهما مع بعضهما البعض.
لكن ماذا عن الأبحاث والدّراسات الميدانيّة المتعلّقة بالحجاب؟ هل بالفعل توصّلت إلى الرّبط بين الحجاب والعفّة، وبالتّالي الصّحّة النّفسيّة؟
في دراسة تحت عنوان “البحث عن النّموذج الأساسيّ لعلاقة الحجاب والعفاف”، للباحثَين موسى طيّبي نيا وحبيب أحمدي، والّتي نشرت في المجلّة العلميّة البحثيّة “المرأة والمجتمع” في العام 2013، هدف البحث الميدانيّ إلى دراسة أبعاد الحجاب: الوعي، الإيمان والالتزام العمليّ، ومحاولة تقديم شكل ونموذج له بين الطّالبات في المرحلة الثّانوية في مدينة همدان. وأظهرت الدّراسة أنّ العلاقة بين العفاف والحجاب متقابلة، وذات دلالة إحصائيّة، لكنّ تأثير العفاف على الحجاب الظاهريّ هو أقوى من تأثير الحجاب على العفاف. وكلّما كان الحجاب الظاهريّ أفضل، كان له تأثير على العفاف؛ لأنّ العفاف لا يمكن تصوّره دون الحجاب المناسب.
أمّا الدّراسة الّتي قامت بها الباحثة ليلا أفسري، والّتي كانت تحت عنوان “العوامل المؤثّرة على مستوى العفاف والحجاب”، على عيّنة من 200 طالبة في جامعة آزاد في مدينة أبهر في الجمهوريّة الإسلاميّة، فقد توصّلت إلى عدد من النّتائج العمليّة من قبيل:
ـ إنّ تقوية التّوجّهات الدّينيّة وتعميقها، وترسيخ فكرة التّمسّك بالأحكام الإلهيّة، أمور تؤدّي إلى الالتزام بالحجاب أكثر.
ـ إنّ التزام الموظّفات والمدرّسات في الجامعة بالحجاب، ورعاية الحلال والحرام في التّبرّج، يؤثّران على ارتقاء مستوى العفاف والحجاب لدى الطّالبات.
ـ إنّ السّعي لملء وقت فراغ الطّالبات بالأنشطة الفعّالة يرفع من مستوى قبولهنّ للحجاب والعفاف.
ـ إنّ تسريع وتسهيل مسألة الزّواج لدى الطالبات يؤثّران على ارتقاء مستوى الحجاب والعفاف لديهنّ.
والدّراسة الثّالثة كانت تحت عنوان “علاقة الحجاب بالصّحّة النّفسيّة للعائلة والمجتمع”، للباحثتين شيرين كرامي ومهناز عزيزي، حيث أشارت نتائجها إلى العلاقة الإيجابيّة بين الحجاب والصّحّة النّفسية لدى المرأة، والّتي تنعكس على أسرتها، وبالتّالي على المجتمع. وقد كان البحث ميدانيًّا تحليليًّا.
أمّا الدّراسة الأخيرة، والّتي تحمل عنوان:” المباني النّفسية للحجاب والعفاف بالرّجوع إلى المتون الإسلاميّة”، للباحث محمّد رضا سالاري فر، فقد هدفت إلى تصنيف المباني النّفسية لضرورة الالتزام بالحجاب. حيث اعتبر الباحث أنّ العفاف هو التّقوى في السّلوك الجنسيّ والعاطفيّ خارج الحدود الشرعيّة، وأنّ الحجاب هو من التّجليّات الظّاهرية للعفاف. وقد توصّلت الدّراسة إلى النّتيجة الأساسيّة الآتية: أنّ الحياء، وحفظ الخصوصيّة، وغضّ النّظر الجسميّ والجنسيّ تجاه المرأة، بالإضافة إلى تصحيح الحاجة الجنسيّة في العلاقات الإنسانيّة، والحاجة إلى الصّحّة النّفسية والجسديّة، هي من الأمور الّتي توجب التّحلّي بالعفاف والالتزام بالحجاب المناسب، عند الرّجل والمرأة معًا.
وفي الختام، يمثّل كلّا من العفاف والحجاب عنوانًا بارزًا يُميّز الحضارة الإسلاميّة بشكل واضح. ولذا، فإنّ انتفاض الغربيّين ضدّ الحجاب، واعتباره رمزًا دينيًّا واضحًا، لا يأتيان من فراغ؛ لأنّهم يفطنون لحقيقة قد تغيب عن ذهن بعض المسلمين، وهي أنّ الحجاب فعلًا يُمثّل رمزًا من رموز الثّقافة الإسلاميّة؛ لأنّه ليس مجرّد ملبس، ولكنّه بناء نفسيّ متكامل يبثّه الإسلام في نفوس أتباعه. وبما أنّ الحجاب والعفاف بهذه الأهمّيّة في حياة المسلمين، لا بدّ من إيلاء هذا الموضوع الاهتمام الكافي، سواء من النّاحية التّنظيريّة لتقديم نظريّة واضحة مقنعة تثلج قلب المؤمنين بالحجاب وتعطيهم الثّقة بدينهم الحنيف، أو من النّاحية العمليّة؛ حيث علينا أن نستثمر كلّ الأدوات المتاحة: الفنّيّة، الأدبيّة، الثّقافيّة، لإبراز الحجاب، والتّرويج له بشكل يتماشى مع حاجات الشّباب والمجتمعات في يومنا هذا.
لائحة المصادر والمراجع
المصادر والمراجع العربيّة
- القرآن الكريم.
- أحمدي، حبيب؛ طّيبي نيا، موسى، البحث عن النّموذج الأساسيّ لعلاقة الحجاب والعفاف، المجلّة العلميّة البحثيّة المرأة والمجتمع، السّنة الرّابعة، العدد الرّابع، 2013م.
- أفسري، ليلا، بررسي عوامل مؤثر بر ارتقاء سطح حجاب وعفاف؛ مجلّة علوم رفتاري (أبهر)، العدد(13)، 1391هـ.
- الرّاغب الأصفهانيّ، أبو القاسـم، مفـردات ألفـاظ القرآن، تحقیـق صـفوان عـدنان داودي، ط1، بيروت، دار القلم، 1412هـ.
- سالاري فرّ، محمّد رضا، المباني النّفسيّة للحجاب والعفاف بالعودة إلى المتون الإسلاميّة، مجلّة مطالعات اسلام وروانشناسي: دراسات الإسلام وعلم النّفس، 1396هـ.ش./2017م.
- كاريل، أليكسيس، الإنسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، لا.ط، بيروت، مكتبة المعارف، 1935م.
- كرامي، شيرين؛ عزيزي، مهناز، علاقة الحجاب بالصّحّة النّفسيّة للعائلة والمجتمع، ورقة بحثيّة قُدّمت في المؤتمر الثّاني لدور المرأة في الصّحّة النّفسيّة للمجتمع والعائلة، طهران، 2017م.
- مطهّري مرتضى، مسألة الحجاب، ترجمة جعفر صادق خليلي، ط2، قم، آينده درخشان، 2009م.
- النّوري، حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ط1، قمّ، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التّراث، 1407هـ.
- نهج البلاغة، تنظيم الفهارس د. صبحي الصّالح، ط3، قم، منشورات دار الهجرة، 1408هـ/ 1983م.
المصادر والمراجع الأجنبيّة
- Behzad Poor, Simin Dokht, The Role of Hijab in Development, Tehran, Zaim, 2004. [Persian].
- Dastgerdi Saffar, Mehdi, Bad Hijab on Sociological Approach, Journal of Women’s Book, No. 22, 2005, pp. 38 [Persian].
- Faludi, Susan, Backlash: The Undeclared War Against American Women, first edition, New York City, Crown Publishing Group, 1991.
- Myrarfyn, Zohreh Sadat, Female Chastity in the Scriptures, Bayanat, No. 51, 2007. [Persian].
- Sadeghi, Shide, The Hijab and its Relation to Social Evolution, Shia Women Quarterly, 14Year, No. 11, 2008, pp. 27-201. [Persian].
- Soltani Renan, Mehdi, Hijab and Social Security, Muslim schools, Year 44, No. 7, 2005, pp. 22 [Persian].
- Taghavi, Soheil, Hijab from the Perspective of the Qur’an, Iran newspaper, Persian date Bahman, 2007.
- Tayebi, Nahid, Hijab and Chastity, Message of Woman, No. 70, 1998, pp. 55 [Persian].
(*) – أستاذة جامعيّة.
– كاتبة وباحثة في مجال التربيّة الدّينيّة. صدر لها: كتاب “ألف باء الحياة في تنمية الحسّ الدّينيّ للأطفال”، “حدّثني عن الله” في نقل مفهوم اللّه للأطفال من خلال القصّة، “أحلى قصة هي الّتي نكتبها لأطفالنا” في تنمية مهارة الكتابة لدى الأهل.
([2]) Mehdi Saffar Dastgerdi, Bad Hijab on Sociological Approach, p. 38.
([3]) أبو القاسم الرّاغب الأصفهانيّ، مفردات ألفاظ القرآن، ص 118.
([4]) Zohreh Sadat Myrarfyn, Female Chastity in the Scriptures, Bayanat, no. 51.
([5]) Nahid Tayebi, Hijab and Chastity, p. 55.
([6]) Mehdi Soltani Renan, Hijab and Social Security, p. 62.
([7]) سورة المؤمنون، الآيتان 5-6.
([9]) Soheil Taghavi, Hijab from the Perspective of the Qur’an.
([10]) Behzad Poor, Simin Dokht, The Role of Hijab in Development.
([11]) Sadeghi, Shide, The Hijab and its Relation to Social Evolution, pp. 27-201.
([12]) كاريل، ألكسيس، الإنسان ذلك المجهول، ص 27.
([13]) Susan Faludi, Backlash: The Undeclared War Against American Women, pp. 65-66
([14]) سورة الأحزاب، الآية 53.
([15]) سورة الأحزاب، الآية 59.
([16]) سورة الأحزاب، الآية 32.
([17]) حسين النّوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج7، ص 46.
([18]) حسين النّوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج14، ص 255.
([19]) مرتضى مطهري، مسألة الحجاب، ص 77.
استهداف الأبويّة ونهاية النّظام الأُسريّ
إذا كانت كتابة التّاريخ -من وجهة نظر نسويّة- و"جندرة اللّغة" بمثابة محاولات جديدة للتّمرّد…