البروفيسور الشّيخ د. محمّد شقير(*)
إنّ البحث في فلسفة الحجاب –بمعناها الواسع- ليس أمرًا معرفيًّا محضًا؛ بل هو أيضًا أمر اجتماعيّ، وتربويّ، وسلوكيّ، ومعنويّ، ودينيّ (بالمعنى الخاص)، ويفتح على جميع الأبعاد ذات الصّلة.
من هنا، وجدنا من الأهميّة بمكان أن نبادر إلى مقاربة هذا الموضوع، مقاربة تتّصل بالبعد المنهجيّ من جهة، وبجملة من الأبعاد الأخرى المذكورة من جهة ثانية؛ على أن نقدّم تمهيدًا مختصرًا في هذا الشّأن.
إنّ قضية مهمّة جدًّا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لدى بحثنا في فلسفة الدّين، أو في فلسفة جملة من القضايا الدّينيّة، وهي أنّ للدّين مبنًى ومعنًى، للدّين ظاهر وحقيقة، للدّين جسد وروح. لذا، فإنّ التّركيز على المبنى والظّاهر والجسد، مع إغفال المعنى والحقيقة والرّوح؛ سيؤدي إلى فهم الدّين وقضاياه فهمًا ناقصًا؛ بل مشوّهًا. كما أنّ إدراك أنّ للدّين روحًا، ولكن محاولة فهم حقيقة الدّين وقضاياه من خلال فعل الإسقاط المعرفيّ والفكريّ، فهو، وإن كان محاولة ترمي إلى جوهر الدّين، سيضلّل الجوهر؛ لأنّ جلّ ما ستقدّمه هو التّعبير عن نفسها من خلال الدّين؛ أي ستكون إسقاطات تعبّر عن رؤيتها الفكريّة الخاصّة، ولن تترك الدّين يعبّر بنفسه عن حقيقته، وجوهره، وفلسفته.
ومن تلك القضايا الّتي تحتاج إلى مقاربة كهذه قضيّة الحجاب (السّتر)؛ حيث تُسدل المرأة لباسًا على جسدها بطريقة تُسهم في ستر مفاتنها، وتعمل على حجب الجانب البدنيّ والماديّ لديها، لصالح إظهار الجانب الإنسانيّ والمعنويّ والقيميّ في شخصيّتها.
وهنا، لا بدّ من القول إنّ موضوع الحجاب هو موضوع قديمٌ جديد؛ أي إنّ مجمل ما يرتبط بالحجاب وإشكاليّاته ليس أمرًا جديدًا، وإنْ كنّا نسمع دائمًا جملة من الإشكاليّات المُستحدثة الّتي تطرح حوله. ولكن، يمكننا القول إنّ التّحدّي الأساسيّ هو في كيفيّة تقديم الفكرة بطريقة تلتزم ذلك المنحى المنهجيّ، وتحمل شيئًا من الجدّيّة، وفي نفس الوقت يمكن أن تهيّئ لجملة من الرّؤى، الّتي تساعد على دفع العديد من الإشكاليّات الّتي تطرح حول الحجاب.
الحجاب ومنهج الفهم
السّؤال الّذي سوف أبدأ منه –السّؤال المفتاح- هو التّالي: كيف نفهم الحجاب؟ وهذا السّؤال -في مداه المنهجيّ الواسع- ليس خاصًّا بالحجاب، وإنّما يرتبط بالدّين، وبالإسلام، وبمجمل القضايا الدّينية والإسلاميّة. فمن الطّبيعي أنّ الفهم الدينيّ هو الّذي يؤسّس لتعاملنا، ولسلوكيّاتنا في هذا الإطار. لذلك، كان من المنهجيّ أنْ يكون السّؤال المطروح: كيف يجب أن نفهم الحجاب، وكيف نعي فلسفته؟
قبل محاولة الإجابة على السّؤال، يجب توضيح وجود فرق بين مفهوم السّتر ومفهوم الحجاب؛ حيث إنّ المفهوم الصّحيح في هذا المقام هو السّتر لا الحجاب، وإنْ كان المصطلح الغالب والمعتمد لدينا هو الحجاب، ولكنّ المفهوم الصحيح الّذي يجب أن يُستخدم هو السّتر، فما الفرق بينهما؟
الحجاب هو ذلك السّتر الّذي يؤدّي إلى فصل كامل بين النّاظر والمنظور إليه، بين الرّائي والمرئيّ، مثلًا، يتكلّم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن الشّمس الّتي تغيب: ﴿حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾([1])، لماذا ذكرت الآية الحجاب؟ لأنّ الفاصل لا يسمح بأيّ رؤية لهذه الشّمس، أيّ رؤية على الإطلاق، ما يعني وجود فصلٍ كاملٍ بين الشّمس ورؤيتها. وعندما يتكلّم القرآن الكريم عن نساء النّبيّ (ص)، يستخدم أيضًا تعبير الحجاب: ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ﴾([2])، أي لخصوصيّة نساء النّبيّ (ص) يجب الفصل الكامل. ولكنّ الفقهاء، عندما تكلّموا عن (الحجاب)، استخدموا تعبير السّتر وليس الحجاب؛ فنجد في متون الكتب عبارات أحكام السّتر، حدود السّتر الواجب، إلى ما هنالك من تعابير في هذا الإطار.
إذًا، ثمّة فرق بين السّتر والحجاب. الحجاب هو ستر كامل؛ بحيث يختفي المستور تمامًا خلف حجابه، بينما السّتر هو نوع من السّتر، لا يؤدّي إلى ذلك الفصل الكامل. ولا شكّ في أنّ لانتقاء التّعبير دلالته في هذا المقام؛ فلو كان هدف الدّين أن تجلس المرأة في المنزل، بحيث يكون الفصل كاملًا بينها وبين الرّجال والمجتمع، لاستُخدم تعبير الحجاب وليس السّتر. مع الإلفات إلى أنّ أحكام السّتر ليست خاصّة بالمرأة، وإنّما تشمل الرّجل أيضًا.
وإذا كان المراد أنْ تلتزم المرأة أو الفتاة بالحدود الشرعيّة للسّتر دون أن تنعزل عن المجتمع، ودون أن تحتجب عنه، عندها يُستخدم تعبير السّتر. ولكن، بناءً على المتعارف، سنستعمل تعبير الحجاب، وإن كنّا نقصد به السّتر.
فرضيّات المنهج
إنّ فرضيّتان ترتبطان بالإجابة عن السّؤال الّذي طُرح: “كيف نفهم الحجاب، وكيف نعي فلسفته؟”. الأولى: هي الجانب الفقهيّ؛ بمعنى التّوجّه إلى رأي الفقه مجرّدًا عن أيّ اعتبار أو قيمة أخرى، لنحدّد ما يقوله حول حدود الحجاب: على مَنْ يجب الستر؟ عمَّنْ يجب أنْ تستر المرأة ما يجب ستره؟ ما الّذي يجب أنْ تستره؟ وغيرها من الحدود الفقهيّة. وذلك من أجل أن تلتزم المرأة بالحدود الشرعيّة الّتي ترتبط بالسّتر، المنصوصة في فتاوى الفقهاء، والواردة في كتب الفقه، بشكلٍ أو بآخر. وهذا ديدن النّاس في التوجّه إلى هذا الجانب بشكلٍ أساسيّ، عندما يسألون، عادةً، عن الحجاب.
أمّا الفرضيّة الثّانية، فهي أنْ نذهب إلى الجانب الفقهيّ ونسأل عمّا يجب أن يُستر، وعن حدود السّتر، وعمّن يجب أن يُستر عنه، ولكن مع إضافة المفاهيم والقيم والأهداف ذات الصّلة بقضية الحجاب. أي إنّ الحجاب، في الفرض المذكور، لا يعود مجرّد معطىً فقهيًّا، وإنّما يصبح عبارة عن رؤية، أو بتعبيرٍ آخر يصبح عبارة عن منظومة من الحدود والقيم والمفاهيم. منظومة يتداخل فيها الشّأن الفقهيّ مع نظيره القيميّ، والأخلاقي، والتّربويّ، والاجتماعيّ، والمعنويّ، والرّوحيّ، والعرفانيّ أيضًا. ويصبح الحجاب، بناءً على هذه الفرضيّة، منظومة متكاملة؛ لها أبعاد متعدّدة، وجوانب مختلفة، بحيث لا يمكن الفصل بين أبعادها. وإلّا، إذا مارسنا الفصل بين هذه الأبعاد، فستترتّب على الأمر العديد من النّتائج السّلبيّة، على مستوى الفهم والوعي، وعلى مستوى الفعل والممارسة أيضًا.
إنّ الفرضيّة الأولى قد تكون أكثر وضوحًا، لأنّها المعتمدة لدى الكثير من النّاس، وقد كانت أيضًا معتمدة تاريخيًّا لدى العديد من المجتمعات، بشكل أو بآخر. فقد كانت المعطيات الفقهيّة، أو الفتاوى الفقهيّة، تُطرح وتتبنّى بغضّ النّظر عن أيّ اعتبار آخر؛ على المستوى القيميّ، والمفاهيميّ، والأخلاقيّ، والتّربويّ، وبقيّة الاعتبارات الّتي قد لا تأخذ حقّها من الفهم والفعل والممارسة.
أمّا بناءً على الفرضيّة الثّانية، فإننّا نذهب إلى الجانب الفقهيّ، ولكن في جعبتنا مجموعة من الأسئلة الّتي يجب أن تُطرح في هذا الإطار، من قبيل: ما الّذي يعنيه الحجاب؟ ما هي دلالاته؟ لماذا فُرض؟ هل من غايات وأهداف يجب أن نسعى إليها من خلال هذا المُعطى الفقهيّ، أي من خلال الحجاب؟ هل للحجاب أبعاد تربويّة؟ هل له أبعاد اجتماعيّة ؟ هل له أبعاد معنويّة أو عرفانيّة؟ ولربّما نصل عندها إلى مجموعة من الإجابات، قد تشكّل في مجموعها هذه الرّؤية وهذه المنظومة.
التكامل بين أبعاد الحجاب
من خلال بقيّة الشّرح، يُفترض أنْ تتوضّح الفرضيّة الثّانية أكثر فأكثر. لكن على مستوى العلاقة بين هاتين الفرضيّتين، أودّ الإشارة إلى عدم وجود انفصام كامل بينهما، لأنّ الفرضيّة الثّانية الّتي نتكلّم عنها تشتمل، فيما تشتمل عليه، على البعد الفقهيّ؛ فالبُعد الفقهيّ ليس معدومًا فيها. ولكن إنْ أردنا الحديث في الفرضيّة الثّانية عن مستوى العلاقة بين البُعد الفقهيّ وبقيّة الأبعاد، فهي بمثابة علاقة البعد القانوني بالبعد القيميّ والفكريّ؛ فإذا كان البعد الفقهيّ هو الّذي يبيّن الحدود، فإنّ البُعد الرّؤيويّ هو الّذي يبيّن المعنى؛ أي هو الّذي يبيّن معنى الحجاب ويحدّد وظيفته. وعليه، إذا كان البعد الفقهيّ هو الّذي يبيّن الضّوابط، فإنّ البعد الرّؤيويّ والقيميّ هو الّذي يبيّن الأهداف والغايات، وبالتّالي النّتائج الّتي يجب أن نتوصّل إليها.
لذلك، يوجد نوعٌ من التّكامل بين هذين البعدين في الفرضيّة الثّانية. وهذا يعني أنه لا نستطيع الذّهاب إلى البعد الأوّل ونهمل الثّاني، وكذلك لا نستطيع الذّهاب إلى البعد الثّاني ونهمل الأوّل، وإنّما يحب أن نهتمّ بهذين البعدين معًا.
إلى أين تأخذنا هذه الرّؤية؟ وإلى أين توصل؟
سفور الروح: حجاب البدن
في مقام الجواب على هذا السّؤال يمكن أنْ نقول ما يلي: بناءً على هذه الرّؤية، يمكن لنا الدّخول إلى فلسفة الحجاب، والّتي تشتمل على مختلف الأبعاد المذكورة؛ حيث نستطيع القول إنّ ستر البدن هو نوع سفورٍ للرّوح وللبعد المعنويّ. والمعنى من ذلك وجودُ نوعٍ من الجدل الدّائم بين السّتر والسفّور، فإذا تواجد السّتر في بُعدٍ ما، قابله سفورٌ في البعد الآخر؛ إذ عندما يكون البدن مستورًا برمزيّته ودلالته، فهذا يتطلّب سفور الرّوح، وكذلك فإنّ سفور الرّوح بجمالها ومحاسنها يستلزم ستر البدن.
إنّ فلسفة الحجاب تعني -فيما تعنيه- موقفًا من الشّهوة وطغيانها، ومن غلبة البُعد الحيوانيّ لدى الإنسان، حيث إنّ الحجاب هو حجاب للشّهوة؛ فالحجاب في فلسفته هو منعٌ لغلبة البعد الحيوانيّ على البعد الإنسانيّ والعقليّ في شخصيّة الإنسان. إنّ الحجاب في جوهره موقف يغوص إلى أعماق النّفس الإنسانيّة لإعلاء شأن العقل على هوى النّفس، بحيث يتطلّب الحجاب سفورًا للعقل وإظهارًا له.
إنّ رمزيّة الحجاب تتجاوز الجانب الشّكليّ لتصل في تعبيرها إلى واقع النّفس الإنسانيّة، وطبيعة الصّراع الدّائر فيها بين الشّهوة والعقل، أو بين البعد الحيوانيّ والبعد المعنويّ، أو بين الجانب المتسافل والجانب المتعالي؛ بحيث ينبغي أن يصبح الحجاب نصيرًا للعقل وللبُعد المعنويّ، وللجانب المتعالي على الشّهوة، وعلى البُعد الحيواني، وعلى الجانب المتسافل في شخصيّة الإنسان.
وهذا ما يأخذنا إلى الكلام حول أخلاقيّات الحجاب ومضمونها، وإلى تربويّات الحجاب ومعانيها؛ إذ إنّ للحجاب جوانب تربويّة عديدة. كما يحثّنا أيضًا للبحث -وبدون مبالغة– في عرفانيّات الحجاب؛ والمقصود بعرفانيّات الحجاب ذلك البعد السّلوكي للوصول إلى الله سبحانه وتعالى من خلال الحجاب؛ أي كيف يصل الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى من خلال السّتر؟ بمعنى أن يستر الإنسان بدنه ليطهّر قلبه لله تعالى، وأن يضع الحجاب على جسده لينزع الحجاب عن قلبه، وأن يكون الحجاب دافعًا لمغادرة الانغماس في البدن والاحتباس في دنياه. فالإنسان يغرق في الدّنيا، وتأسره المادّة؛ وهنا يأتي دور السّتر هذا، ليحمل، في فلسفته وفي غايته، رسالة مفادها أنّ الجسد الماديّ، بمفاتنه، لا يصحّ أن يحتكر كلّ الهمّ وكلّ الاهتمام، وأنّه ليس من الصّحيح أن يحبس الإنسان فكره ونظره في هذا الجسد ومحاسنه؛ بل يجب أن يصرف نظره إلى بُعدٍ آخر في شخصيّته، وهو البُعد المعنويّ، والجمال الروحيّ، الّذي يتّصف بكونه جمالًا من صنع الإنسان، ومرتبطًا بوعيه وإيمانه وإرادته، وبكونه الجمال الباقي، الّذي لا يفنى بفناء الجسد، ولا يفقد رونقه مع طول العمر، ولا يشيخ مع مرور السّنين؛ بل على العكس من ذلك، قد يزداد رونقًا وتألّقًا وسطوعًا، كلّما تقدّم المرء في العمر، إذا ما استفاد الإنسان من سنيّ عمره بالعناية بجماله الروحيّ، وحسنه المعنويّ. وبهذا، يصبح الحجاب حافزًا للعناية أكثر بعالم المعنى وقيمه، ودافعًا للاهتمام أكثر بعالم الرّوح والنّفس.
إنّ رمزيّة الحجاب -في هذا السّياق– أنّه يوجّه رسالةً، وتنبيهًا؛ مفادُه وجود بعد آخر للإنسان، هو البُعد الحقيقيّ، المعنويّ والروحيّ، وهو البُعد الأصيل الذي يُعبّر عن حقيقة شخصيّته، في حين أنّ الجسد هو مجرّد أداة. ومفاده أيضًا ضرورة الاهتمام بهذا البُعد الآخر، وضرورة وجود نوعٍ من التّوازن في الاهتمام بين هذين البُعدين؛ فلا يُعنى بالمادّيّ مهملًا المعنويّ، ولا يعنى بالمعنويّ تاركًا المادّيّ، وإنّما يعنى بالبُعدين معًا، وبشكلٍ متوازنٍ. وأيضًا، التّأكيد على ضرورة العناية بهذين البُعدين بشكل متكامل؛ أي أن تكون عنايته بالبُعد المادّي سبيلًا وطريقًا للعناية بالبُعد المعنويّ، وعنايته بالجسد وسيلةً ليكون سبيلًا إلى سلامة الرّوح؛ فعندما يعنى بجمال البدن تكون غايته الوصول إلى جمال القلب والنّفس، الّذي ينبغي أن يكون هو الميزان والمعيار والهدف الأساسيّ في هذا المقام، إذ من الخطأ أن يكون جمال الجسد على حساب جمال النّفس.
إنّ ما ينبغي الإلفات إليه في فلسفة الحجاب، في بعدها العرفانيّ، هو مطلوبيّة أن يكون ستر الجمال الظاهريّ -تقرُّبًا إلى الله تعالى- سبيلًا إلى صناعة الجمال الباطنيّ: جمال القلب وجمال النّفس، حيث يرتكز هذا البيان على فلسفة خاصّة للعلاقة بين عالم الشّهادة وعالم الغيب، و -في حالة الحجاب- بين عالم النّفس وعالم البدن؛ أي عالم الروح وعالم الجسد. ويمكن القول إنّ جدليّةً ما قائمة في العلاقة بين هذين العالمين -تحتاج إلى بحث خاصّ ليس هنا محلّه –، وإنّ تناسبًا قائمًا بين الفعل في عالم المادّة وبين النّتيجة في عالم المعنى، وبين الفعل على المستوى البدنيّ ونتيجته على مستوى النّفس والرّوح؛ بمعنى أنّ طاعة الله بجمال البدن تؤديّ إلى صناعة جمال النّفس؛ أي إنّ ستر البدن وعدم تحويل جماله إلى مرتعٍ للشّيطان يؤدّي إلى جمال الرّوح، ويفضي إلى أن يصبح القلب ناصعًا، ومنيرًا، وجميلًا. في حين إنّ من يعنى بجمال البدن على حساب الرّوح ومنفصلًا عنها، ويجعل من مفاتن البدن أداة للشّيطان ولمعصية الله تعالى؛ فإنّه يعمل على تشويه نفسه، وصبغها بالقبح، ويجعل قلبه قبيحًا ومظلمًا.
إنّ مَن أراد جمال روحه -أي الجمال الباقي- عليه أن يجعل من جماله البدنيّ سبيلًا إلى طاعة الله تعالى؛ الله منبع الجمال الحقيقيّ وخالقه. بينما من يجعل من جماله البدنيّ سببًا لمعصية الله تعالى، فإنّه يجعل نفسه قبيحة، ويخسر جماله الروحيّ، ويفقد جماله المعنويّ.
إنّ من أراد جمال روحه عليه أن يجعل جمال بدنه لله تعالى، وفي طاعة الله تعالى، وأن يطيع الله فيما وهبه من جمال ظاهريّ؛ ليكون ذلك سببًا في صناعة جماله الباطنيّ. أمّا من يعصي الله تعالى في جماله الظاهريّ، فإنّه بذلك يزرع القبح في نفسه، ويشوّه روحه، ويورث قلبه ظلمة، وظلامًا، وقبحًا يبقى معه إلى يوم القيامة.
هذا هو التّناسب بين الفعل والنّتيجة، ما بين عالم البدن والجسد، وعالم النّفس والرّوح. وهنا، ألا يكون حريًّا بالعاقل أن يربح الجمالين معًا: جمال الرّوح وجمال البدن، بأن يجعل من جمال البدن طريقًا إلى جمال الرّوح، وسببًا إلى حُسنها؛ وألّا يخسر الجمالين معًا، عندما يجعل من جمال بدنه سبيلًا إلى جهنّم، ووسيلةً إلى المعاصي، وأداة بيد الشّيطان؛ فيخسر جماله الرّوحي، ثمّ ما يلبث -بعد قليل- أن يفقد جماله الظاهريّ، عندما يشيخ ويهرم، ويُردّ إلى أرذل العمر، ثمّ يُدفن بعدها في التّراب، فيتلاشى بدنه، بعد أن شاخت محاسنه، وهرمت مفاتنه، وتسلّل إليه العجز والهرم، وآثار العمر والسّنين؟
إنّ ما تقدّم يفضي، في بعدَيه المعنويّ والتّربويّ، إلى نتيجة غاية في الأهمّيّة؛ وهي أنّ على الإنسان أن يتصرّف بجمال بدنه في طاعة الله تعالى، وألّا يجعل من جسده ومفاتنه مهوى لأنظار الخلائق وأصحاب الهوى والشّهوة؛ بل أن يجعل من قلبه مشكاة نور يجتذب ملائكة الله لترى أَلَقَه، وتحوم حول جماله. وهذا ما يستلزم أنْ يجاهد الإنسان نفسه، ويخالف هواه، حيث أنّ أشدّ الأعمال أحمزها، وكلّما واجه الإنسان هواه أكثر، كلّما كان هذا أدعى للسّلوك إلى الله سبحانه وتعالى أكثر.
عندما يظهر ميلٌ إلى الظّهور والبروز والتّبرّج؛ فإنّ اتّباع هذا الميل والهوى يُبعد عن الله تعالى. أمّا إذا عملت المرأة على ستر ما أوجب الله تعالى أن تستره حبًّا بالله تعالى، وطاعة له، فإنّ هذا العمل، وإنّ هذه المخالفة للهوى -هوى النّفس-، تصبح من أهمّ العوامل الّتي تؤدّي إلى السّلوك إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّ أهمّ ما يؤدّي إلى القرب من الله سبحانه وتعالى والسّلوك إليه هو أنْ تطيع الله تعالى، وتخالف هواك، وأن تسير إلى الجميل وخالق الجمال بستر الجمال الأدنى -الجمال المادّيّ-، وإظهار الجمال الحقيقيّ؛ أي جمال الرّوح والنّفس. فإنّ السّير إلى الله تعالى لا يحصل إلّا بخطى الجمال الحقيقيّ (جمال الرّوح)، والقرب من خالق الجمال لا يتحقّق إلّا بأن نعيد الجمال (جمال البدن) إلى واهبه، إلى الله تعالى، طاعةً وعبادةً وسترًا.
وفي هذا الموضوع يمكن أنْ نشير إلى الحديث القدسيّ: “يؤثر هواي على هواه”([3]). ففي هذا السّياق، يصبح العمل منتجًا أكثر، لأنّ العبد يخالف هواه أكثر، ويجاهد رغباته أكثر. أمّا إذا كان يقوم بعمل هو يرغب به، فيكون له حتمًا نتيجة وأثر، ولكن ليس كالعمل الّذي يقوم به مخالفًا فيه هواه ورغباته. فكلّما كانت مخالفة الهوى أكثر، كلّما كان هذا العمل أدعى إلى السّلوك إلى الله سبحانه وتعالى أكثر. ولذلك، يمكن الحديث عن بُعدٍ عرفانيّ، وعن سلوك إلى الله سبحانه وتعالى من خلال ستر الجمال، وفعل الحجاب.
بعد أن توسّعنا قليلًا في فلسفة الحجاب، وبعض أبعادها العرفانيّة والتّربويّة، كإشارة إلى وجود هذه الأبعاد الأخرى أوّلًا، وأهمّيّتها ومطلوبيّة الاستفادة منها ثانيًا، وضرورة الوصل بينها وبين البُعد الفقهيّ بشكل متوازنٍ وهادفٍ ثالثًا، فإنّنا نجد من الأهمّيّة أن نطرح هذا السّؤال:
أين تكمن أهمّيّة هذا الوصل؟ والجواب أنّها تكمن في أنّ ممارسة الحجاب تصبح ممارسة صحيحة وواعية، لها بالطّبع وظيفة شرعيّة، ولكن لها أبعادٌ أخرى أيضًا، وهي عبارة عن مجموعة القيم الّتي توجّه ممارسة الحجاب، وتجعل الالتزام به التزامًا صحيحًا، وواعيًا، ومشبعًا بالقيم، والمعاني، والدّلالات.
والأمر الثّاني الّذي نتوصّل إليه، بناءً على هذا الوصل بين هذين البعدين، هو أنّ ممارسة الحجاب في هذه الحالة تصبح ممارسة هادفة؛ حيث لا يعمل أحدٌ دون هدف، ولا يلتزم دون غاية. فالمكلّف يلتزم بالحدود والضّوابط، ولكنّه يريد أن يصل من خلال هذه الضّوابط والحدود إلى أهداف وغايات محدّدة.
لباس التّقوى في القرآن الكريم
هل من شاهد من القرآن الكريم على ما نقول؟ والجواب أنّه عندما يتحدّث القرآن الكريم عن بني آدم يقول: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ﴾([4])، والسّؤال الّذي يطرح نفسه: عمّ يتكلّم القرآن الكريم؟ والجواب: عن لباس التّقوى؛ أي إنّه يستعير مفردة اللّباس للتّقوى، ويربط التّقوى باللّباس. وهو يريد من خلال هذا الرّبط الإشارةَ إلى وجود بُعدٍ آخر للحجاب.
ماذا يعني ذلك؟ إنّ هذا الرّبط يعني وجود لباسَين: اللبّاس الأوّل هو لباس البدن، أمّا الثّاني فهو لباس التّقوى. فكما يستر اللّباسُ البدنَ ومفاتنه الّتي تزيّنه؛ فإنّ لباس التّقوى وظيفته أن يستر عورات النّفس وسوءات النّفس. إذ إنّ ما تقدّم يتطلّب وجود سترٍ للغرائز، لأنّ هذا اللّباس الظّاهري يجب أن يكون له بعدٌ آخر، وهو لباس التّقوى، والّذي يتطلّب ستر الغرائز. وهذا يعني أنّ الحجاب، في روحه، دعوةٌ إلى التّقوى. يقول الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾([5]).
إذًا، يوجد لباس للسّوأة ولباس للتّقوى. فاللّباس لباسان، لباسٌ لما يسوء الإنسان كشفه، ولباسٌ لما في باطنه يشقيه أن يفقده؛ الأوّل هو لباس البدن، والثّاني لباس التّقوى. وإنّ علاقة ما قائمة بين هذين النّوعين من اللّباس؛ حيث إنّ الأوّل ينبغي أن يكون تعبيرًا عن الثّاني، ومحفّزًا له، ومساعدًا عليه، بينما الثّاني لا بدّ أن يقود إلى الأوّل، من باب أنّ من يمتلك التّقوى لا بدّ من أن يمتثل لأحكام الله تعالى، سواءٌ في قضيّة الحجاب، أو غيرها من القضايا الحياتيّة والإنسانيّة.
وعندما يتحقّق ستر الغرائز، فهذا يعني تجلّي سفور العقل؛ بمعنى ظهور العقل. أي إنّ العقل يأخذ مداه في تلك الشّخصيّة الّتي تعنَى بهذا الجانب، وهو ما قد يفتح بابًا للحديث عن أثرٍ تربويّ عقلانيّ للحجاب في فلسفته، وفي دلالاته؛ إذ إنّ فلسفة الحجاب تعين على تعزيز التّربية العقلانيّة في شخصيّة الإنسان، وإشباعها، وهو ما يحتاج إلى بحث مستأنف ليس هذا محلّه. كذلك، عندما تُحجبُ المفاتن الظّاهريّة، فإنّ ذلك يستوجب إظهار الكمالات المعنويّة والأخلاقيّة. وهذا يدلّ على ضرورة وجود نوعٍ من التّوازن بين البدن والرّوح، والّذي يسعى في هدفيّته إلى جعل البدن ومفاتنه تحت قيادة العقل، وسلطان الرّوح.
وهذا ما يأخذنا إلى مختلف تلك الأبعاد الّتي أشرنا إليها؛ أي إلى البُعدَين المعنويّ والفلسفيّ للحجاب، وإلى بعده التّربويّ، وكذلك الاجتماعيّ، وصولًا إلى جهاد النّفس، أي الجهاد الأكبر. والجهاد الأكبر موطنه النّفس؛ حيث المراتب العالية المتمثّلة بالرّوح، والمراتب المتدنّية والّتي تُترجم بالغرائز والشّهوات. وعادةً عندما يكون الحديث عن الصّراع في النّفس، فهو حديث عن الصّراع بين المراتب الرّوحيّة والعقليّة من جهة، وبين الميول الغرائزيّة والشّهوانيّة الموجودة فيها من جهة أخرى.
هنا تأتي أهمّيّة التّقوى، وهي أن تدخل إلى هذا الصّراع من أجل أنْ تغطّي على تلك الشّهوات والغرائز؛ فتلجمها، وتضبطها، وتهذّبها، بطريقة تصبح فيها الغرائز تحت سلطان العقل، وفي ظلال الرّوح، وتحت تأثير البعد المعنوي السّامي؛ فيصبح العقل قائد الإنسان، والغالب في نفسه هو البُعد السّامي، وليس الهوى والشّهوة.
إنّ القرآن الكريم يريد أنْ يقول إنّ اللّباس له وجهان: وجه بدنيّ، ووجه معنويّ. وهذا الوجه المعنويّ لا يقلّ أهمّيّة عن الوجه البدنيّ الظّاهر. وبالتّالي، ليس من الصحيح الاقتصار على اللّباس البدنيّ الظّاهر، والامتناع عن اللّباس الباطنيّ أو المعنويّ، أو عدم الاهتمام به بالمستوى الكافي والمطلوب؛ بل يجب الاهتمام به أكثر لأنّ “ذلك خير”.
إنّ حاجة الإنسان إلى التّقوى (تقوى الله تعالى) لا تقلّ عن حاجته إلى الطّعام؛ حيث أنّ بالتّقوى يسلم الإنسان من أخيه الإنسان، وبها يكفّ أذيّته عنه، ويأمن شرّه. والحجاب، بما هو لباسٌ للبدن، دعوة إلى لباس الباطن الّذي هو التّقوى؛ تلك المفردة الّتي تستر مساوئ الأخلاق وذميم الملكات، وتعمل على إبدالها بمحاسن الأخلاق، وجميل الصّفات، وممدوح الملكات. فهذا هو الحجاب في حقيقته، وجوهره، وفلسفته، ودعوته.
وإذا أردنا أن نبني على هذه المقاربة -على المستوى القيمي الحضاريّ-، فينبغي القول: إنّه إذا كانت الحضارة تحتاج الى ترشيد العقل وسلامة النّفس من الموبقات والرّذائل، فإنّ في الحجاب دعوة إلى تحرير العقل من أسر الشّهوة، وإلى تحفيز النّفس على الطّهارة، وإعمارها بالتّقوى.
إنّ الحجاب يدعو إلى تحويل ميدان المجتمع إلى ساحة تغلب فيها العفّة والطهارة على الابتذال والتّنافس في إظهار المفاتن. ولا يخفى أنّ توفير البيئة الاجتماعيّة المناسبة سوف يسهم في التّأكيد أكثر على قيم العمل الصالح، والإنتاج المتوازن في جميع الميادين. وعليه، ما هي خطورة الفصل بين هذين البُعدين؟ يمكن القول إنّ هذا الفصل بينهما يؤدّي، فيما يؤدّي إليه، إلى ممارسة فارغة من مضمونها، وغير موصلة إلى أهدافها. فقد يقول البعض إنّ الحجاب هو مجموعة حدود شرعيّة فقط، فهل سوف يصل -بناءً على هذا الفصل- إلى أهدافه وغاياته على المستوى التّربوي، والمعنويّ، والأخلاقيّ، والدّينيّ؟ بالطّبع لن يصل إلى هذه النّتائج، لأنّه لا يمتلك هذه الرّؤية أساسًا، أو هو غير مؤمن بها؛ بل لن تكون ممارسته للحجاب ممارسة صحيحة وهادفة.
فلسفة الحجاب: في الدّلالة والمؤدّيات
أيضًا، لا بدّ من الإشارة –ولا نريد أنْ نتوسّع أكثر؛ بل سوف نقتصر على جملة من العناوين فقط –، إلى إنّ هذه الرّؤية الّتي نتناولها، وهذه الفلسفة الّتي أشرنا إليها تؤدي إلى:
أوّلًا، رفع مكانة المرأة، وتعزيز احترامها.
ثانيًا، إعلاء البعد الإنسانيّ في شخصيّة المرأة، وإظهارها كإنسان بالدّرجة الأولى.
ثالثًا، حفظ المرأة والمحافظة عليها، لأنّها لا تكون في هذه الحالة سلعة مادّيّة يُتاجر بها؛ إذ إنّ الأخذ بتلك القيم والمفاهيم سيدفعها إلى العناية بالجانب المعنويّ والجانب الإنسانيّ في شخصيتها بالدّرجة الأولى، ما يؤدّي إلى جعلها –فضلًا عن الجانب الإنسانيّ والمعنويّ- مربّية ناجحة، وزوجة صالحة.
كما لا بدّ من الإشارة إلى هذا الأثر التّربويّ، وهو أنّه عندما نقول بوجود رؤية للحجاب، وبوجود بعدٍ معنويّ آخر للحجاب يتجاوز الالتزام الظّاهريّ به؛ فإنّ هذا الفهم يمارس نوعًا من التّوجيه النّفسيّ، يدفع المرأة إلى الالتزام بهذا الحجاب المعنويّ “لباس التّقوى”، لأنّها بهذه الحلّة تملك القدرة على تحقيق معنى الحجاب، حيث يقوم الحجاب بوظيفته، ويوصل السّتر إلى نتائجه. فهي دائمًا عندما تلتزم بالحجاب والسّتر تكون مأخوذة ومشدودة إلى تلك النّتائج، وإلى تلك الغايات، على المستوى التّربويّ، والأخلاقيّ، والمعنويّ، والإنسانيّ.
خلاصة القول، إنّ للحجاب فلسفة وأبعادًا متعدّدة. ونحن عندما نلتفت إلى هذه الأبعاد المتعدّدة للحجاب، نستطيع فهم الحجاب، ومنظومته، ورؤيته، في إطار حياتنا الاجتماعيّة على أكثر من مستوى تربويّ، واجتماعيّ، ونفسيّ، ودينيّ، وسوى ذلك. وهو ما يؤسس للتّعامل الصّحيح مع الحجاب، ويساعد بشكلٍ فاعل على الوصول إلى نتائجه وبلوغ أهدافه.
وعليه، لا يضرّ في الحجاب وحقيقته أنّ البعض لا يفهمه على حقيقته، ولم يستهدِ إلى فلسفته، ولم يضع يراعته على معناه الحقيقيّ. إذ إنّ الحرمان الحقيقيّ يكمن في أنّ الكثيرين قد حُرموا من فهم حقيقة الحجاب، فتصوّروه جسدًا بلا روح، وقالبًا بلا معنى، وشكلًا بلا مضمون. إنّ الحرمان الحقيقيّ هو أن لا يؤخذ بالأسباب الّتي تسهم في منع سفور الشّهوة وحجاب العقل؛ حيث إنّ فلسفة الحجاب تعمل على منع سفور الشّهوة لصالح حجابها، وليس كبتها، وتعمل على إزالة حجاب العقل لصالح ظهوره وسفوره.
أمّا الأسئلة الّتي قد تطرح من قِبَل الباحثين الهادفين، في سياق نقاش وظيفة الحجاب وبعض تجلّياته الاجتماعيّة، فالإنصاف منّا يقتضي أن نقول إنّها أسئلة في غاية الأهمّيّة، حيث إنّ الإسلام لا يدعو النّساء إلى الحجاب فقط؛ بل يدعوهنّ إلى الحجاب الّذي يستر الرّذائل، وينمّي الفضائل، إلى الحجاب الّذي يستر الخبث والشّقاوة لصالح العفّة والطهارة، إلى الحجاب الّذي يستر في الإنسان بعده الحيوانيّ والشهوانيّ لصالح بعده الإنسانيّ والواعي.
وبالتّالي، ما ذنب الدّين إذا كان البعض يتّخذه مطيّة لأغراض دنيويّة خاصّة. وما جرمه إذا كان البعض يمارسه بشكل خاطئ، أو إذا تلّقاه على أساس أنّه مجرد تقليد اجتماعيّ موروث؟ فهل نتّخذ هذه العيّنات ذريعة من أجل تقديم صورة غير صحيحة عن الدّين؟
إنّ هذا الفهم هو فهم غير صحيح للدّين وللحجاب. وحقيقة الحجاب -كما يجب أن تكون عليه- لا تُؤخذ من الّذين لا يملكون فهمًا علميًّا ومنهجيًّا وعميقًا للدّين وللحجاب؛ بل تُؤخذ من الّذين يلتزمون الدّين وقضاياه عن وعيٍ وعلمٍ ومعرفة، لا عن وراثة وتقليد. إنّ الحجاب مسألة دينيّة، والمسائل الدّينيّة لا تُبنى رؤيتها ولا يكوّن فهمها من خلال استطلاع جزئيّ للآراء؛ بل من خلال الرّجوع الى أهل المعرفة، والخبرة بالدّين، وفلسفته وأحكامه وقضاياه.
(*) – أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة.
– عميد سابق لكليّة الدراسات الإسلاميّة في الجامعة الإسلاميّة في لبنان.
([3]) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يقول الله عزّ وجلّ: وعزّتي، وجلالي، وعظمتي، وكبريائي، ونوري، وعلوّي، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي إلّا شتّت عليه أمره، ولبست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم أؤته منها إلّا ما قدّرت له. وعزّتي، وجلالي، وعظمتي، ونوري، وعلوّي، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا استحفظته ملائكتي، وكفّلت السّماوات والأرضين رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر، وأتته الدّنيا وهي راغمة.
راجع: محمّد بن يعقوب الكلينيّ، الأصول من الكافي، صحّحه وعلق عليه علي أكبر الغفّاريّ، لا طبعة، تهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1365هـ. ش.، ج 2، ص 335.
استهداف الأبويّة ونهاية النّظام الأُسريّ
إذا كانت كتابة التّاريخ -من وجهة نظر نسويّة- و"جندرة اللّغة" بمثابة محاولات جديدة للتّمرّد…