بحوث - 03/13/2023

إشكاليّات الحضانة في السّياق الفقهيّ والقانونيّ

السّيّد د. علي فضل الله(*)

تسأل القاضية باولا هيبنر: “بعد أكثر من أربعين عامًا من رئاسة محكمة عائلة، إنّ سؤالًا واحدًا لم يتوقّف عن إدهاشي: كيف يمكن لأبوين يحبّان ولدهما أن يسمحا لشخص غريب تمامًا بأن يتّخذ قرارات مهمّة بخصوص ترتيبات حياة ولدهما، وصحّته، وتعليمه، ونشاطاته اللّاصفيّة، ووقت عطلته، ودرجة التّواصل مع كلٍّ من الوالدين؟”([1]).

محقّة هذه القاضية في سؤالها، ويُفترض على الوالدَين، في حالة الانفصال، أن يُعليا مصلحة الولد على مصلحتهما المباشرة، وأن لا يتركا للقاضي تحديد مصير فلذة كبدهما. وإذا كان لا بدّ من قضاء في حالة استحكام التّنازع، فليكن قضاءً موصلًا إلى المصلحة الشّاملة، على أساس العدالة الحقيقيّة. في كثير من الأحيان، تسيطر، في منازعات الحضانة، عقليّة فائز-خاسر (win-lose mentality)، بينما من المفروض أن يحبّ الأهل ولدهما أكثر من كرههما لبعض.

ينظّم الدّين الحنيف هذه القضايا على أساس العدل التّشريعيّ، لكن، في موضوع حسّاس كالحضانة، فإنّ الضّغوط الخارجيّة المانعة من إجراء تقييم موضوعيّ ماثلة في الإعلام المتحيّز، والثّقافة المتغّربة، وبعض الرّأي العامّ غير المحيط بطبيعة فقه الأسرة وقوانينها. يتميّز القضاء الشّرعيّ باشتراطه ملكة العدالة في القاضي، وهي تضعف تأثير هذه الضّغوط عليه، بينما يكابد القضاء الوضعيّ الصّعوبات في سعيه لإثبات دعواه بالتزام معايير العدالة. ورغم التّرويج المستمرّ لاستقلاليّة ونزاهة القضاء الوضعيّ، فقد “تمّ تحديد التّأثير القويّ لثقافات المحاكم المحليّة على ممارسة إصدار الأحكام في دراسات عدّة. أمّا العامل القويّ والسّياقيّ الآخر الّذي يجب أخذه في عين الاعتبار فهو الرّأي العام؛ فإنّ معرفة قوّة الشّعبويّة الجزائيّة ترتبط بقرارات الأحكام (القضائيّة)”([2]). السّؤال المهمّ هو: كيف يكون لدينا منظومة تشريعيّة وأخلاقيّة متينة تحول دون انزلاق القاضي في التحيّز والظّلم والتّأثّر بما هو خارج القضيّة الّتي بين يديه؟

في الفقه الإسلاميّ

يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِه﴾([3]). لهذه الآية معنيان، أوّلهما أنّه “لا يحقّ للزّوج أن يحول بين الوالدة وولدها؛ بمنعها عن حضانته، أو عن رؤيته، أو ما أشبه ذلك، فإنّ ذلك مضارّة وحرج عليها. وثانيهما: نفي مضارّة الزّوجة للزّوج بولده بأن تمنعه عن الرّؤية، ونحو ذلك”([4]). وهذا مصداق للتّوازن في الشّريعة الإسلاميّة القائمة على أساس العدل.

في الفقه، الحضانة هي جعلٌ شرعيّ حقّي وليس حكميًّا، منحها الشّارع للأبوَين في حضانة الأولاد، أو التّنازل عنها بالإرادة المنفردة. وفي السّياق، توجد نقطة جديرة بالملاحظة: تستطيع الأمّ أن تتنازل عن حضانة أولادها، لأنّه حقّ لها، بينما الأب لا يستطيع ذلك، لأنّه ملزم بالحضانة كحكم، باعتبارها جزءًا من ولايته على أولاده. فعلى الأب موجب الولاية على الطّفل، أي رعاية شؤونه المادّيّة والمعنويّة، إلّا الحضانة الّتي أخرجها الإسلام من عنوان الولاية، بإعطاء الأمّ حضانة طفلها، عدا حالة تنازلها عنها([5]).

بحسب الظّاهر، لم ترد كلمة “حضانة” في القرآن والرّوايات؛ بل وردت مصطلحات “الأحقيّة” و”بينهما بالسّويّة”([6]). فيكون استعمال مصطلح “الحضانة”، وهي من حضن الطّير لغةً([7])، استعمالًا مستحدثًا في الدّلالة من النّاحية الاصطلاحيّة. لكن، باختصار، إنّ الحضانة هي “التّغسيل، والتّنظيف، والمؤانسة، والملاعبة” للطّفل، ولا تشمل الولاية عليه، وإن كانت الأولى في الأساس جزءًا من الولاية، وأُخرجت منها بالنّص. 

الحضانة هي جزء من حقوق الطّفل في الإسلام، وهي تشمل قضايا مثل: النّسب، الرّضاعة، الاسم، النّفقة، التّربية وغيرها. وقد أولى الدّين الحنيف اهتمامًا واضحًا في ضبط هذه المساحة الدّقيقة في حياة الإنسان؛ ذلك لو أنّها تُركت لتقدير الأهواء المتنوّعة، لانهارت الأسر. ويبدو أنّ الإسلام راعى طبيعة العلاقة الخاصّة بين الأمّ وأطفالها، ويتّضح ذلك في تقديم حقّ الأمّ في الحضانة في مراحل العمر الأولى من حياة الطّفل. ويوجد تعدّد في الآراء الفقهيّة بالنّسبة إلى مطلب الحضانة، ليس المجال متاحًا لعرضها ومناقشتها في بحثنا. لكن، يمكن القول أنّ الإسلام غيّر بشكل جذريّ نظرة المجتمعات السّابقة إلى دور الأمّ ومكانتها. ويحضر هنا قول الحاكم العبّاسيّ، المأمون، عندما اختصر الرّؤية الّتي عارضها الإسلام:

وإنّما أمّهات النّاس أوعية

 مستودعات وللآباء أبناء

هذه ليست مقولة الإسلام، وهذا، وغيره، يردّ شبهة يطرحها البعض بأنّ شريعة النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استقت مبادئها وأحكامها من تقاليد شعوب شبه الجزيرة. على العكس تمامًا، وفي قضية كالحضانة، فإنّ للإسلام قواعده المستقلة، سابقًا وحديثًا، والّتي ينبغي أن تأخذ أيّ مناقشة مطروحة في الاعتبار وسطيّة الإسلام، وتبعيّة أحكامه للمصالح والمفاسد.

تصحيح شبهات شائعة

كثيرة هي الشّبهات الّتي يقع فيها غير المتخصّصين في موضوع الحضانة:

1- الاعتقاد بأنّ قوانين الحضانة موحّدة في العالم، أو أقلّه في الغرب، باعتبار الأخير وجهة أغلب الحالمين بحياة “مثاليّة” مروّج لها في الإعلام والثّقافة. في الواقع، إنّ قوانين الأسرة كثيرة، وحتّى في الغرب، فإنّها تفوق المئة، هذا عدا عن التّغييرات والتّعديلات الّتي تطالها كلّ فترة. لذلك، من المفيد التّذكير بأنّ المطروح لدى “الغرب المتخيَّل” ليس واحدًا.

2- الاعتقاد بأنّ الرّجل الأبيض يعطي الأمّ حقوقًا ليست متوفّرة في شرائع أخرى، وهذه فكرة نتجت عن أزمة فكر في مكان آخر، وهي شعار المساواة الّذي تمّ رفعه بقوّة قبل قرنين في أوروبا، واستجابت له شعوب عانت من قابليّة بعض نخبها للهزيمة والدّونية في فترات الانحطاط. وبغضّ النّظر عن التّوصيف الأخير لسبب هذا الاعتقاد، فإنّ المندفعين لاستيراد نماذج قوانين حضانة، وغيرها، على حساب الشّريعة الأصيلة، لا يطرحون نقاشًا علميًّا عقلانيًّا ممنهجًا في مفاضلتهم لقانون على آخر. إنّ ما يهيمن على جدالاتهم، في هذه المواضيع، هو التّفكير الرّغبويّ، والاندفاع لتقليد الغرب ووكلائهم، والنّفور من الوضع القائم، وتبنّي كلّ صيحة على المؤسّسات الدّينيّة دون تدقيق. في موضوع الحضانة، مثلًا، وللعلم، يُصدر قضاءٌ وضعيٌّ قراراته “دون أن يسمع شهادتك أبدًا”، إلّا في حالات محدودة جدًّا. ومن المحتمل أن لا “يسمع القاضي لأولادك مباشرة أبدًا”([8])! فهل هذا مقبول؟

3- تصديق كلّ حملة إعلاميّة تقوم بها جهة ما، معادية، أم جاهلة بالوقائع، للتّهجّم وتشويه وإثارة قضايا فرديّة قد تصحّ، أو يصحّ بعض جوانبها، أو لا تصحّ ولا يصحّ. لا يدرك بعضهم أنّ الإعلام، في راهنه، ليس إلّا انعكاسًا لمموّليه، وقناعاتهم الشّخصيّة، وارتباطاتهم بمراكز القوى الدّاخليّة والخارجيّة. في الواقع، لا يملك كثيرٌ من الإعلام السّلطةَ الأخلاقيّة لمحاكمة فساد الآخرين ما دام الفساد ينخر أغلب مفاصله، في بلداننا، وفي العالم. فبعيدًا عن الإشادة الذّاتيّة الّتي يسبغها الإعلام على نفسه ورسالاته، فإنّ الواقع يعرفه المتخصّصون، وأصحاب الباع في هذا المجال، وهو واقع سيّء في مجمله. هذا ليس تهجّمًا على مهنة الإعلام، إنّما هو إصبع إدانة لحقيقة غير خافية، على أمل انعتاق الإعلام من المؤثّرات الّتي تشوّه نتاجه، وتعيده إلى مواجهة متاعب قول الحقيقة، كما هي.

4- عدم الاستماع للرّأي الآخر في الخصومات، وهذه مشكلة شائعة. فمن المعروف في العمل القضائيّ ضرورة الاستماع لإفادات كلّ الأطراف قبل تكوين انطباع عن صدق الاتّهام، وقد يأخذ المسار القضائيّ وقتًا، خصوصًا الوضعيّ منه، قبل تبيان الحقيقة المختبئة خلف ادّعاءات المتنازعين، وأدلّتهم، وقرائنهم، وأداء محاميهم. لذلك، تكون العدالة شرطًا لا مناص منه في القاضي، وإلّا وقع الظّلم. هذا في القضاء، أمّا في النّقاش العامّ حول موضوعٍ كالحضانة، فإنّ مسارعة البعض إلى الحكم على أيّ قضية دليل على خفّته وانفعاليّته، والأجدى به أن يتمهّل قبل التّحيّز لجانب، وهذه نصيحة يجب تكرارها على مسامع المتداولين للقضايا الاجتماعيّة الإشكاليّة. مع ذلك، فإنّ ميل النّفس إلى تبنّي الدّفاع عن مظلمة معيّنة مبرّر نوعًا ما، خصوصًا إذا كان في القضية ما يؤكّد أنّ مقدارًا من الظّلم والتّعسّف قد وقع.

لكنّ إقامة العدل تقتضي عدم الاستعجال في الحكم على الأمور، وإلغاء التّحيّزات المسبقة، حتّى لو بدا لنا أنّ طرفًا يجور على الطّرف الآخر. في الواقع، وبالنّسبة إلى الأهل المتنازعين على حضانة أولادهم، “يفتقد الوالدان التّدريب على كيفيّة تقديم قضاياهما بشكل مناسب، وحتّى لو كانا يمتلكان هذه المعرفة، فإنّ الضّغط والمشاعر الّتي تنتابهما عند مواجهة شريكهما السّابق في المحكمة، بخصوص النّزاع على الأولاد، تجعل من الصّعب على أيّ والدَين القيام به بطريقة عقلانيّة، وفيها تركيز”([9]).

5- الاعتقاد بأنّ المحاكم الشرعيّة كلّها فاسدة، وهذا تعميم غير صحيح. نعم، الإصلاح القضائيّ مطلوب وضروريّ، وأيّ اتّهام بالفساد يجب أن يُتابع ويُحقّق فيه، وأن تصدر بحقّ الجناة أحكامٌ بالعقوبات. لكنّ ما يحصل هو النّقيض؛ بحيث يمكن القول أنّ رأيًا عامًّا نشأ، وهو مقتنع أنّ المحاكم الشّرعيّة فاسدة بالكامل، وهذا كلام مجافٍ للحقيقة. قد تظهر نقاط اختلال لدى قضاة، أو مساعدين قضائيّين، أو إداريّين في هذه المحاكم، ويكون سببها التّدخّلات السّياسيّة في التّوظيف واستشراء ثقافة عدم مكافحة الفساد، وغير ذلك، لكن لا يجوز اتّهام الجميع. في الحقيقة، ولمن يعرف، فإنّ تاريخ المحاكم الجعفريّة في لبنان مشرق، وكان فيه قضاة مشهود لهم بالنّزاهة التّامّة، وبعضهم دفع ثمنًا باهظًا بسبب عدم استجابته للضّغوط، وبعضهم كان من العلماء الكبار، وبعضهم كان شديد الاحتياط في أحكامه، وغيرها من أمور تُروى ليس مقامها هذا البحث. وحتّى اليوم، في المحكمة الجعفريّة قضاة نزيهون؛ يكافحون كي لا يقعوا في أيّ شبهة شرعيّة في القضايا المطروحة أمامهم.

وهنا لا بدّ من إشارة مهمّة، في هذه العجالة، وهي أنّ جسم المحاكم الجعفريّة، مثلًا، صغير جدًّا، ودون الملاك؛ بل هو من أصغر أجهزة المحاكم في لبنان. بينما نجد أنّ حجم القضاء المدنيّ والجزائيّ، ومعه الإداريّ والدّستوريّ، أكبر بعشرات الأضعاف، وفيه ما فيه، لكنّه أقلّ تعرضًّا للهجمات، ولا يتمّ تحقيره في غالب الحالات. بل المؤسف أكثر، وفي بلد كلبنان؛ حيث قضايا الأحوال الشّخصيّة موزّعة على الطّوائف، وفيها ما فيها، يُلاحظ أنّ التّطاول الإعلاميّ والدّعائيّ يتركّز على المحاكم الجعفريّة. هذا يدلّ على توجيه واستثمار مقصود في زمن سياسيّ يكثر فيه استهداف فئة بعينها. إذًا، ما يجب التنبّه له هو عدم الوقوع في فخّ التّصفيق لكلّ ما يُقال، وإذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا.

6- التّعميم من الفرديّ إلى العامّ، وهذه مشكلة عامّة لها صلة بطبيعة استجابة النّاس لمشكلات الحياة. في الغالب، تحدث الأمور على هذا الشّكل: يسمع شخص ما أنّ قريبًا له، أو صديقًا، واجه أزمة طلاق أو حضانة أو خيانة أو سرقة مثلًا، ثمّ بعد فترة يسمع قصّة مشابهة من أحد معارفه أو جيرانه، ثمّ يقرأ أو يسمع قصّة ثالثة تتقاطع، أو يجعلها تتقاطع، مع ما مرّ به سابقًا. عندها، يتحوّل هذا الاستقراء النّاقص جدًّا إلى قاعدة كليّة، تتكرّر على لسان هذا الشّخص، بأنّ الطّلاق انتشر بالشّكل الفلانيّ، وأنّ قضايا الحضانة يكثر فيها الظّلم، أو أنّ الخيانة تحصل مع الجميع، أو أنّ السّرقة زادت معدلاتها. لا يحتاج الأمر إلى كثير من الجهد ليتبيّن أنّ هذه التّعميمات ليست علميّة، ولا تمتّ إلى الواقع بصلة. ميزة العلم، في بعض معانيه، أنّه ممنهج وموضوعيّ، ولا يمكن تعميم نتائجه إلا ضمن آليّات محدّدة، وليس نتاج مشاهداتٍ شخصيّة محدودة.

المؤسف أنّ بعض النّخب يستسهل الانخراط في تعميمات سطحيّة كهذه، ربّما لاستخفافه الضّمنيّ بالدّين وأهله، وكونه، في داخله، شديدٌ على المؤمنين ورحيمٌ على “الكافرين”. نحن لا ننفي أهمّيّة بعض التّجارب الخاصّة، إذا ما افترضنا أنها تُنقل بأمانة، مع الحرص على إقامة نظام عدل قضائيّ لا تشوبه شائبة.

7- الأخطاء المُسلّط عليها الضّوء، والأخطاء غير المسلّط عليها الضّوء: في الإعلام والأكاديميا، حيث أغلب النّاس ضحايا توجيهاتهما للأخبار والإشكاليّات، يوجد أخطاء وفرص وتحديات ومخاطر يؤخذ القرار بالتّركيز عليها، دون غيرها. دائمًا يعتمد أسلوب تهميش أو إبراز لقضايا على حساب أخرى. في موضوع الحضانة وغيرها، يبرز استثمار غير عادي للتّهجّم والهجوم على فكر معيّن، وتمظهرات ذلك كثيرة في السّنوات الأخيرة، لأسباب سياسيّة وثقافيّة بشكل أساسيّ.

على المهتمّين والمتابعين الحذر من الوقوع في براثن هذه الحملات الإعلاميّة والثّقافيّة، دون أن يعني ذلك إهمال أيّ خطأ أو جرم عند حصوله فعلًا. وكمثال على ذلك، تم مرّة التّواصل مع إحدى المديرات في تلفزيون محليّ، وسؤالها عن التّركيز، حصرًا، على المحاكم الجعفريّة، رغم وجود تجاوزات كبيرة في المحاكم الأخرى، فكان جوابها للشّخص السّائل أنّهم يقصدون هذا التّركيز بالتّحديد!

قواعد تأسيسيّة لفهم مسألة الحضانة

لمقاربة قضيّة الحضانة، وقضايا موازية يتمّ تناول بعضها في أكثر من مجال، كمجال الاستشارات الأسريّة التّخصصيّة، لا بدّ من التّأسيس لعدد من القواعد المفيدة في الفهم:

1- الأبوّة مقدّرة كالأمومة

من أكثر الأمور الّتي تمّ الاستثمار فيها هو تركيز الضّوء والسّرديّات على محوريّة المرأة في التّربية، كجزء من موجات النّسويّة الّتي اجتاحت العالم بقرار وتدافع غربيّ. فتحتَ عنوان حقوق المرأة، وتقديم المرأة كطرف “أضعف” في العلاقة من الرّجل، وشيوع ثقافة تمكينها (فقط في مواجهة الزّوج والأب والأخ)، تمّ عبور خطّ الوسط الطّبيعي والمتوازن في تقسيم الأدوار الوظيفيّة للأب والأمّ. طبعاً، لا حاجة للتّأكيد على أهمّيّة دور الأمّ، وأولويّتها في البرّ، لكن ليس على حساب كلّ شيء آخر. فقد أقسم ربّ العالمين بالأبوّة([10])، أيضًا، والعدل التّشريعيّ عند الله عزّ وجلّ أصلٌ في عقيدتنا.

لذلك، فإنّ للأمومة موقعها الّذي ينبغي احترامه، وللأبوّة موقعها الّذي يجب التّوقّف عنده، دون التّحيّز العبثيّ لطرف على حساب آخر. بالنّسبة إلى البعض، قد يبدو هذا الكلام وكأنّه تحيزٌ للرّجل، لكنّ القارئ المتفحّص سيعرف أنّ الهدف في كلامنا هو العدل؛ أي العدل[11] بين الأبوّة والأمومة، لما فيه مصلحة الأبناء. أمّا في التّقاضي، فإنّ الألم يطال الأب والأمّ غالبًا، حيث “يخرج معظم الشّركاء السّابقين من المحكمة متأذّين عاطفيًّا، وغير سعداء جدًّا ببعض، وفي الغالب غير سعداء جدًّا بالقاضي”([12]).

2- محوريّة مصلحة الطّفل قبل أيّ أحد

الأساس الأوّل هو البحث عن مصلحة الطّفل، وليس التّحيّز الأعمى لأحد الأبوَين. فالطّفل هو المعنيّ الأوّل في قضيّة الحضانة، وأثرُ الأحكام فيها تطاله بشكل مباشر، وتؤثّر بعمق على تنشئته، وبناء شخصيّته، وجودة الإشباع العاطفيّ والسّلوكيّ في تربيته. وكما وصفت القاضية هيبنر: “لم أرَ “فائزًا” في محكمة العائلة. الكلّ يخسر، وخصوصًا الأولاد”([13]). من هنا، إذا وضعنا مصلحة الطّفل، ذكرًا كان أو أنثى، في الاعتبار الأول، فسيختلف تقييم الأحكام الصّادرة في خصوص الحضانة، إن كانت شرعيّة أو وضعيّة.

3- حدود صلاحيّة القاضي للتّدخل

للقاضي، في كلّ القوانين والشّرائع، صلاحيّة تقديريّة في ما يطلقه من أحكام على أساس الحياد. لكن، هذه الصّلاحية ينبغي أن تتقيّد بضوابط واضحة تحول دون تجاوزه للحقّ والمصلحة. في الفقه الجزائيّ الإسلاميّ، وفي باب التّعزيرات مثلًا، فإنّ للقاضي مساحة تقدير موجودة. وكذلك الأمر في القضاء الوضعيّ، كالنّموذج النابليونيّ ونموذج القانون العامّ البريطاني مثلًا، اللّذين يتركان للقاضي مروحة أوسع من خيارات فهم القوانين، ما دامت القوانين مختصرة أو مستندة إلى السّوابق والأعراف. لكن، في قضايا الأسرة، تصبح النّزاهة أصعب، والسّبب حميميّة العلاقات الأسريّة وخصوصيّاتها. فهل القاضي، المُفترض فيه الحياد نسبًا وسببًا، أكثر علمًا من الأب والأمّ بطبيعة مشاكلهما وتشعّباتها؟ في القضاء الشّرعي، يوجد شرط العدالة، وهو شرط غير متيسّر التّحقق بمعناه الخاصّ. أمّا في القضاء الوضعيّ، فتزداد المشكلة عمقًا، مع عدم توفّر شرط العدالة الدّينيّ؛ حيث الرّقابة الذّاتيّة في أعلى درجاتها لارتباطها بالحساب والآخرة. أضف إلى ذلك، فإنّ توسّع إدخال النّساء إلى القضاء يثير القلق في ما يتعلّق بضعف حياديّتهنّ حين يتعلّق الأمر، مثلًا، بقضايا الأسرة أو توفّر مواصفات خاصّة في المتّهم، كما تشير بعض الإحصاءات. ويزداد الأمر خطورة عندما تكون بعض القوانين الوضعيّة متطرّفة في مسألة الحضانة، حيث “القاضي لديه سلطة حصريّة في الحكم في ما يراه أفضل مصلحة للولد”([14])، بغض النّظر عن رغبات الأهل ومشاريعهم، وبغض النّظر عن مقاربات أخرى للقضية.

4- الولاية الجبريّة للأب

في الإسلام، الولاية الجبريّة على الأبناء هي للأب، وتستمرّ حتّى البلوغ للجنسَين، وفي هذا فارق عن قوانين أخرى يُراد استيرادها. ليست القضية تجاوزًا للعدالة أو تفضيلًا للأب بالضّرورة، فالأحكام تابعة لعناوينها، وليست المساواة ضمنها، إلّا في التّكريم الإلهيّ للإنسان، ذكرًا أو أثنى، ونتائج ذلك على جوهر كلّ إنسان، بغض النّظر عن جنسه. الحديث عن المساواة الجندريّة البسيطة والمطلقة بين الجنسَين لا ينسجم والواقع؛ بل إنّ الفهم الحقيقيّ والعميق لطبيعة الإنسان يستلزم إدراك المعنى الشامل والعميق للعدالة. العدل هو مفهوم أعمق وأكثر تشعّبًا من قاعدة المساواة الاختزاليّة، وليس في الأمر تحيّزًا لأيّ من الجنسين. العدالة مطلوبة في كلّ مجالات الحياة، وهي أساس الملك، وبها تقوم السّماوات والأرض([15]). العقدة تكمن في تعدّد معايير العدالة، كما يصف أمارتيا سين([16])، واختلاف الثّقافات والمدارس في تحديد معناها، وخصوصًا في البحث الواسع في العدل التّشريعيّ. في الإسلام، نجد أجوبة محدّدة مسبقًا أنعم الله تعالى بها على بني البشر لتوفير الوقت في البحث في ما لا يعلمون. بهذا العدل نتعبّد، وبه يحصل التّوفيق في الدّنيا والنّجاة في الآخرة بحسب اعتقاد المؤمنين، حتّى لو شعر الإنسان في نفسه بحرجٍ من حكم ما. وبحث العدل واسع.

5- أولويّة التّفاهم على التّنازع

عندما تُظهر الأدلّة والقرائن حقيقة قضائيّة ما، على القاضي أن يحكم، لكن هذا فقط عند استحكام النّزاع والخصومة؛ حيث لا حقّ عامّ يُستوفى. أمّا في الأساس، دائمًا ما تكون الدّعوة إلى التّفاهم بين الطّليقين أولى لما فيه مصلحة الأبناء، وينبغي أن يسعى المعنيّون إلى التّوافق على شكل الحضانة، دون الوصول إلى التّنازع. من هنا، من المهمّ التنبّه إلى أنّ أحكام الحضانة تكون في حال استحالة التّفاهم، أما إذا تفاهما، فلا حاجة لأيّ حكم.

6- قاعدة إبراء الذّمّة الشّرعيّة

مبدأ إبراء الذّمّة أمام الله تعالى مفقود في القضاء والتّسويات الوضعيّة، وحاضر بقوّة في القضاء الشّرعيّ، والتّقليد، والأعمال عند المؤمنين. هذا فارق مهمّ، ففي الحالة الأولى، يكون الحرص منحصرًا، في أفضل الحالات، على عدم مخالفة النّصوص والأعراف، أمّا في الحالة الثّانية، فيكون الحرص كبيرًا بمقدار حضور التّقوى والعدالة في النّفوس، عدا عن مطابقة النّصوص. وقد عرف تاريخ قضاء المحاكم الجعفريّة مَن كان مشهودًا لهم في تحرّي الدّقّة، والاحتياط، واستشارة العلماء قبل الحكم على أيّ قضيّة. ولا ننفي تحقّق النّزاهة عند قضاة غير شرعييّن، إنّما تكون أوّلًا، نتيجة نزاهة ذاتيّة، وليس فقط نتيجة نظام مؤسّساتيّ. قد يقول قائل بأنّ بين تجارب القضاة الشّرعيّين، من مختلف فئات المسلمين، مَن كانوا كشُريح أو كمعمّمي البلاط. هذا صحيح، لكنّ هؤلاء ابتعدوا عن القواعد النّاظمة للقضاء في الإسلام، ولاسيّما في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو محلّ استشهادنا. في المعنى الواقعيّ للكلمة، إنّ القاضي الشّرعيّ يُقيَّم بحسب قربه من أو بعده عن الشّروط المحدّدة فقهيًّا لهذا الموقع، وهي شروط صعبة ولن تتغيّر، مهما بلغ تسييس القضاء مبلغه.

7- التّعامل بعقلانيّة، لا بانفعال وعاطفيّة

أغلب مجتمعاتنا انفعاليّة وعاطفيّة، ولعلّ بعض من قد يقرأ مثل هذه السّطور، كما شهدنا في حالات عدّة، سيشعر بانقباض من مضمونها، تبعًا لطبيعة التّحيّزات الإعلاميّة والثقافيّة القائمة في زمننا. المطلوب، أقلّه من النخب، التّعامل بعقلانيّة، ودون مواقف مسبقة، خصوصًا ممّن يحسبون أنفسهم على الجماعة المؤمنة، مع قضايا “مؤشكلة” كالحضانة وغيرها، بعيدًا عن الميول والانفعاليّة، والتّعاطف الأحاديّ.

8- تواتر قضايا الحضانة

مع ازدياد حالات الطّلاق، مع تفاوت أرقامها، وارتفاع شعار “تقوية المرأة”، فقط ضدّ أسرتها(!)، ازدادت طرديًّا قضايا الحضانة في المحاكم. ومن خلال الاطّلاع عن عدد غير قليل من هذه القضايا، يستكشف المتابع، موضوعيًّا، تكرّر ظواهر مرافقة ذات طابع سلبيّ يستلزم العلاج. منها، باختصار، تزايد جرأة بعض النّساء على القضاة، وظهور حالات من التّعريض الافترائيّ بالقضاة والقضاء، وربّما تردّد بعض القضاء في الحكم بسبب ضغوط الجوّ العامّ، وحصول عناد انتقاميّ من بعض الرّجال من باب “النّكايات”. في الواقع، تحتاج هذه الظّواهر إلى تدقيق، ومتابعة لاستكشاف حقيقتها والحؤول دون تأثيرها على سير العدالة. وعلى كلّ الأحوال، فإنّ المطلوب هو الوصول إلى العدالة، والعدالة تعني وجود متضرّرٍ من الحكم، لكنّ الأهم هو الولد. والحدّ الّذي يؤثّر به الطّلاق على الأولاد “سيُحدّد من خلال سلوك الأهل، وليس الأولاد”([17])، وهذا ما يحمّل الوالدَين المسؤوليّة الأولى عن نتائج الطّلاق.

9- الملاحظات على استحداث جهاز للوساطة العائليّة

طرح البعض أفكارًا حول تأسيس جهاز خاصّ لفضّ النّزاعات العائليّة، يكون له دور في تحديد الحاضن، ويبدو أنّه يُراد له أن يميل إلى صالح المرأة من حيث النّتائج المتوقّعة بحسب الحملات الإعلاميّة، وديباجة هذه الأفكار. هنا يكون الجواب نفسه المذكور سابقًا، أي إنّ القاضي أو لجنة الوساطة ليسا أدرى بالأسرة وظروفها من الأبوَين بالضّرورة، عدا عن مخاطر المساحة التّقديريّة لهما، واحتماليّة تعارض الآراء داخل لجان الجهاز المذكور. هذا ليس مجرّد اتهام، فإنّ “لدى قضاة محاكم العائلة.. وصولًا ومصادر محدودةً لفحص المكوّنات الرّئيسة لتسيير العائلة”([18])، رغم الاعتماد على خبراء في التّقييم. إذ يوجد تجارب ولجوء متزايد للجان التّقييم والفحص لدراسة أهليّة الأب أو الأمّ لحضانة أولادهما. رغم ذلك، “توصف تقييمات حضانة الأطفال، في غالب الأحيان، بأنّها الأكثر صعوبة وتعقيدًا وتحدّيًا بين التّقييمات القضائيّة”([19]).

بين الحضانة في الإسلام وفي غيره

ينبغي التّنبيه إلى أنّ معنى ومدلول الحضانة في الفقه الإسلاميّ يختلف، في جوانب أساسيّة، عن معنى الحضانة في شرائع أخرى. هذه نقطة قلّما يتمّ الالتفات إليها، خصوصًا عند ممتهني المقارنات، في الوقت الّذي يجب أن تلتزم مناهج المقارنة بضوابط محدّدة كي لا تقع في أخطاء الاستنتاج، وكي لا تفقد مزايا المقارنة العلميّة الدّقيقة. وفي موضوع المقارنة بين معنى الحضانة في الإسلام وغيره، يمكن الإشارة إلى بعض الجوانب الإضافيّة:

1- الحضانة ليست امتلاكًا

في فقه الأسرة، الحكم بالحضانة لأحد الأبوَين لا يعني، بحالٍ، أنّه بات يملك الولد، ويتحّكم في كلّ ما يتعلّق به. فعلى خلاف مسار قضايا الحضانة في محاكم لا تطبّق الشّريعة الإسلاميّة؛ حيث يحتدم النّزاع بشراسة للحصول على حقّ “الإشراف التامّ والحيازة الكاملة” للطّفل بين المتخاصمين ومحاميهم (ومصاريفهم الباهظة)، فإنّ الحضانة في شريعة النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحدّد مسؤوليّة الرّعاية للطّفل فقط، وليس منامته أو باقي شؤونه. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون الحضانة لأحد الأبوَين، بينما يبيت الابن أو الابنة في منزل الآخر.

2- حدّ الحضانة هو البلوغ

أحكام الحضانة في الإسلام تنحصر بمرحلة ما قبل البلوغ، على عكس الشّرائع الأخرى محلّ المقارنة، الّتي تنظّم الحضانة إلى ما قبل سنّ تحمّل المسؤوليّة المدنيّة، وهو، في الغالب، سنّ الثّامنة عشر. يعني ذلك أنّ حضانة الأبناء تنتهي، في الإسلام، عند سنّ التّاسعة للفتاة، وحوالي سنّ الرّابعة عشر للفتى. وهذا فارق كبير من حيث النّتائج، ويترك للأبناء حريّة تحديد خياراتهم في الحياة بعد البلوغ. أمّا تحديد سنّ الثّامنة عشر معيارًا لتعريف القصّر والأطفال، فعليه ملاحظات عدّة، ليس المقام مناسبًا لإيرادها. لكن، من المفيد التّذكير بأنّه حسب المادّة 16 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، ولعلّه أهمّ وثيقة حقوقيّة عالميّة، فإنّ سنّ الزّواج يبدأ عند البلوغ، وليس عند الـثّامنة عشر من العمر([20]).

3- دعاوى الحضانة في الغرب

يظنّ بعض النّاشطين أنّ قضايا الحضانة في الغرب أكثر سلاسة وسهولة من سير القضايا في المحاكم الشّرعيّة الوطنيّة. هذا ظنّ غير صحيح البتّة؛ بل إنّ التّقاضي في ظلّ المبادئ المادّيّة والقوانين الوضعيّة يبعد عن كونه سلسًا وسريعًا؛ بل وعادلًا كما نراه، رغم بعض التّرويج المعتاد لكلّ استهلاك ثقافيّ مصدره الغرب. نعم، يوجد، أحياناً، إجراءات عمليّة وشكليّة تجعل سير المحاكمات أكثر رشاقة، لكنّ تطوير أصول المحاكمات يمكن الاستفادة منه في كلّ أنظمة التّقاضي. في الواقع، إنّ قضايا الحضانة في الغرب، باعتباره الوجهة المعلنة أو المضمرة لمنتقدي أحكام الشّريعة غالبًا، شائكة وصداميّة وثقيلة الوطأة، وقد تستغرق وقتًا غير قليل، وينتج عنها آثارٌ سلبيّة ملموسة.

4- عدم التّفاعل مع التّقارير الإعلاميّة الكاذبة

بحسب المتابعة، وكما مرّ سابقًا، تبيّن أنّ أغلب ما أثاره الإعلام المغرض حول قضايا الحضانة في المحاكم الجعفريّة، في السّنوات الأخيرة، تضمّن الكذب، وقلب الحقائق، وعرض رواية المتضرّر فقط. لا أحد يقول أنّ الأخطاء لا تحدث في مؤسّسات القضاء، ولا أحد يرفض أن يبادر الإعلام إلى التّحدّث عن تجاوزات قضائيّة أو قوانين مجحفة. لكن، بدا لافتًا أن تقوم وسائل إعلاميّة، مرئيّة ومكتوبة، بتكرار لوازم غير صحيحة، دون أيّ اعتبار لرواية الأطراف الأخرى، أو حتّى المصادر القضائيّة، مع الأخذ بالحسبان موجب التّحفّظ عند القضاة. من المفيد أن تستحدث المحاكم الشّرعيّة منصبًا، لمتحدّث باسمها، وأن تنتدب من يوضح طبيعة أحكامها، وأن تقوم القوى الحريصة والمعنيّة بمتابعة حالات التّهجّم، والكذب، والتّحقير، والازدراء الّتي يقوم بها البعض، بخلفيّات معروفة، ضدّ فكر أهل البيت (عليهم السّلام)، وشريعة ربّ العالمين عزّ وجلّ. من الضروري أن يبادر الحريصون إلى الاحتجاج على التّطاول المستمرّ على فكر نيّر، ووضع حدّ للإفساد الإعلاميّ والثّقافيّ.

5- عدم مسؤوليّة القاضي عن تجاوزات التّنفيذ

بعض التّقارير تركّز على عنف أجهزة فرض القانون في تنفيذ قرارات القاضي، وهذا ما لا يتحمّله القضاء؛ بل الأجهزة المعنيّة. نعم، إذا كان القاضي قادرًا على التّأثير في طرائق تنفيذ الأحكام، فمن الأجود له أن يتدخّل لمنع أيّ تجاوز. لكن، ينبغي التّذكير أنّ القانون، بحسب تعريفه، قائم على الزّجر والفرض، وهذا مبدأ عالميّ. فالخضوع للقواعد القانونيّة ملزم، تحت طائلة الجزاء.

6- حقّ الرّؤية

للأبوَين حقّ رؤية أبنائهما في كلّ حال، مع الدّفع باتّجاه الاتّفاق في ذلك. أمّا التّقسيم الزّمنيّ الّذي تقوم به المحاكم، أحيانًا، فهو نتيجة لاستحكام التّنازع، وليس له أساس شرعيّ؛ بل هو تقديريّ.

ردّ شبهات عامّة

لا بدّ، في هذا السّياق، من ردّ بعض الشّبهات العامّة، الّتي تشكّل، عادة، أساسًا لعقليّة الانتقاد لدى البعض، خصوصًا في القضايا الوثيقة الصلة بحياة الإنسان، مثل قضايا الأسرة، وما يليها من مواضيع:

1- شبهة المدنيّة والحداثة

بعض الأشخاص يواصلون الانتقاد لكلّ ما هو دينيّ، ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفّار، ويبدو أنّ السّبب هو ربط أذهانهم بين ما هو وافد من أفكار (غربيّة أساسًا)، وبين الحداثة والمدنيّة والتّطوّر والمعاصرة. تاريخ هذا الرّبط عمره ليس أقلّ من مائتيّ سنة، وهو راسخ في عقول المنبهرين بالغرب أو مأزومي الهُويّة. في الواقع، إنّ تفكيك هذه الشّبهة يحتاج إلى تفصيل لا يناسب الموضوع المحدّد في هذه المقالة، لكن يمكن القول، باختصار، أنّ لمصطلح مدنيّ أكثر من عشرة تعريفات متغايرة، أحدها مقابلتها بما هو كنسيّ، وليس دينيًّا، بحسب السّياق التّاريخيّ الأوروبّيّ. إنّ الزّواج في الإسلام، بخلاف الزّواج في المسيحيّة الرّاهنة، هو مدنيّ بطبيعته، لأنّه تعاقديّ، وليس سرًّا. أمّا الحداثة، ففي عالم الفكر، ليس لزمن معيّن ميزة على زمن آخر، وما هو حديث اليوم، سيكون لأطفالنا محلّ تندّر.

2- تنفير النّاس من الدّين

توجد فئات من تعريفات الأديان، يتمّ الحديث عنها في علم الكلام. بشكل عامّ، وبغض النّظر عن تحديد الدّين الحقّ، فإنّ الأديان (المتحقّقة) تعني وضع قيود على حركة الإنسان وغرائزه، لأنّها شرائع، وكلّ قاعدة تفرض الانضباط تقيّد الحريّة كما يفهمها النّاس. لذلك، من ناحية الشّكل، ورغم الحاجة الشّديدة إلى الارتباط بالدّين، حيث أغلب البشر، قديمًا وحديثًا، مؤمنون، فإنّ الأديان قد تبدو ثقيلة على الأنفس؛ مثلها مثل بعض القواعد القانونيّة أو نصائح مدرّب رياضيّ، فهي تكون ثقيلة الوطأة إذا لم يرافقها وضوح رؤية حول جدواها، وأهمّيّتها، وجماليّتها. من هنا، فإنّ مهمّة شياطين الإنس والجنّ ليست صعبة في تنفير النّاس من الدّين، فكيف بالدّين الحقّ؟؛ حيث تصادمه مع مصالح الظّالمين وهوى النّفوس يصل إلى ذروته. في مواضيع كالحضانة والطّلاق وغيرهما، إنّ استثمار كارهي الدّين في ميل نفوس البشر إلى التفلّت كبير، وهذا يرفضه من يذوق حلاوة الإيمان، ولا يغفل عن دناءة أهل اللّهو واللّعب. 

3- أهمّيّة الاجتهاد دون تحديد النّتائج مسبقًا

يتحدّث البعض عن الاجتهاد لتطوير قواعد الحضانة وسواها. جيّد. لكن، هل يعرف هؤلاء ما هو الاجتهاد، وشروطه، وطبيعة الأحكام التّكليفّية في الإسلام، وعلل الشّرائع؟ كلّا. أغلبهم يدفع بفكرة الاجتهاد مع حسم ضمنيّ للنّتائج الّتي يريدها من “المجتهد”؛ هم يريدون أن يتستّروا خلف الدّعوة إلى الاجتهاد كخطاب مقبول وعقلانيّ لدى المؤمنين. أمّا الحقيقة فهي في مكان آخر. فللاجتهاد شروط صعبة للغاية، ودرجة الاجتهاد، على خلاف بعض المزايدات الأكاديميّة، أعلى، بطبيعتها، من درجة الأستاذيّة المتاحة وفق شروط معيّنة في أغلب الجامعات. في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام)، إنّ كمّيّة الإحاطة والجهد المطلوبَين للتحصّل على إجازة الاجتهاد الحقيقيّة غير عاديّة، وغالبًا ما تحتاج إلى تفرّغ لعقود من الزّمن. وقبل كلّ شيء، يوجد شروط موازية على المستوى الأخلاقيّ تحول دون الاجتهاد المحدّد النّتائج؛ بل وقد توصل عمليّة الاستنباط إلى نتائج مغايرة للمتوقّع. هذا من جانب، أمّا من جانب آخر، يصحّ القول أنّ الدّين الحنيف يواكب العصور من خلال آليّة الاجتهاد، لكن دون نسيان القاعدة الّتي تقول: حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

4- أهمّيّة الإصلاح القضائيّ والأمنيّ

من نافل القول أنّ إصلاح القضاء، كلّ القضاء، مهمّ، وكذلك أجهزة فرض القانون. فمنصب القضاء خطير، ولا يتولّاه إلا نبيّ أو شقيّ، وبناء العدالة عمليّة مستمرّة، والإخلاص في العمل أشدّ من العمل. نعم، طرائق الإصلاح متعدّدة، لكنّها تبدأ باختيار الأكفّاء، ومنع التّدخّلات السّياسيّة في التّعيينات القضائيّة، خصوصًا في قضاء يشترط مَلكة العدالة لدى القاضي.

5- أحوال شخصيّة أم أسرة؟

عبارة “الأحوال الشّخصيّة” تناسب مذهب الفردانيّة المادّيّ، حيث تُعتبر خيارات الزّواج والطّلاق والحضانة وغيرها وقوعات شخصيّة لا أثر عامّ لها. في هذه المقاربة تناقض، ومنشأ هذا التّناقض أنّ عقد الزّواج، مثلًا، ليس عقدًا عاديًّا كباقي العقود؛ بل هو نظام اجتماعيّ قانونيّ محدّد الشّروط مسبقًا، ولا تُحدَّد بنوده الأساسيّة بالتّراضي. سبب ذلك هو أنّ قضايا الزّواج والطّلاق ذات أثر عميق في المجتمع، ولها دخالة مهمّة في بناء الأسرة والمجتمع. لذلك، تكون عبارة “قانون الأسرة” أدقّ، وهي، أي الأسرة، الخليّة الأساسيّة في المجتمع، فتلحظ الأحكام الخاصّة بها الأثر الاجتماعيّ العامّ الّذي تنتجه القوانين النّاظمة لحالاتها، وتكون المصلحة العامّة عنصرًا مشاركًا في صياغتها.

6- تحدّيات الأسرة المعاصرة

تعيش الأسرة المعاصرة تحدّيات جمّة، تفرض أن يكون البحث في موضوعاتها دقيقًا وغير متسرّع. ومن أصعب المخاطر تفكّك الأسر، واستهداف مفهوم الحميميّة، وإغفال الأهميّة العالية لقيم برّ الوالدين وصلة الرّحم، وتأخير الزّواج، وإعلاء الاستقلاليّة من خلال تقديم العمل كهدف لا تسوية فيه، وتبرير إيداع الأبناء في مراكز حضانة خاصّة، وتزايد الطّلاق، والعزوف عن الزّواج، والتّرويج للشّذوذ، والاعتراف بالإباحيّة، وحصر اللّذّة بالفردانيّة، والدّفاع عن مفاهيم خطيرة كالعلاقات قبل الزّواج (وقبل سنّ تحمّل المسؤوليّة المدنيّة، إذ يكون الجنس مسموحًا به تحت الثّامنة عشر، لكن الزّواج لا)، و تزايد ظاهرة الأمّهات (وليس الآباء معهنّ) العازبات… الأرقام تشير إلى فشل الغرب في الحفاظ على الأسرة، فلماذا يدعو البعض إلى استيراد فشله من خلال قوانين زواج “مدنيّ” (أي غربيّ) وحضانة وغيرها؟ تتراجع خصوبة الرّجال في أكثر من منطقة في العالم (بحسب الأرقام المعلنة)، ولأسباب ليس المورد طرحها هنا، ويتمّ الدّفع إلى مسار مجهول مملوء بالضّغوط على المرأة، وتدمير ما تبقّى من معاني الرّجولة.

في بعض دول الغرب، يصل الأمر إلى حدود إصدار أحكام تمنع الأب من الاقتراب من منزل أطفاله، وإن كان مفهومًا وجود مثل هذه الأحكام في حالات دفع المتضرّرة باحتمال تعرّضها للأذى من طليقها، لكنّ هذا المستوى من الفصل الجذريّ تطرّف في حالة الأسرة. لذلك، إنّ قضيّة كالحضانة، وغيرها، لا يُمكن أن تُقارب باستخفاف في هذا الزّمن.

مسألة الحضانة دقيقة، ومقاربتها تتطّلب معرفة واطّلاعًا. فكما “أنّه من الممكن أن تُجرى عمليّة جراحيّة دون تقنيّات التّعقيم، أو أن تُقاد سيّارة سباق دون خوذة، فإنّه من الممكن أن يتمّ تأدية تقييم حضانة دون معرفة جيّدة للقضايا الأخلاقيّة والقانونيّة المحيطة بهذا التّقييم”([21]). الحضانة حقّ للطّفل أوّلًا، قبل الأب والأمّ، وهي مسؤوليّة رعاية مستخرجة من ولاية الأب العامّة.

عندما تكون الحضانة، قبل كلّ شيء، هي حقّ للطّفل، فحرمانه من أحد أبوَيه خطأ فادح، أبًا كان أو أمًّا. التّوازن مطلوب في الإسلام، وكذلك الحاجة إلى سمات الذّكورة والأنوثة في التّربية. ومن التّوازن، أيضًا، استيفاء حاجة كلٍّ من الوالدَين للإشباع العاطفيّ من أولاده، فلهما حقوقٌ لا يمكن إغفالها في ذلك. للأب حقّ في ولده، وكذلك للأمّ؛ كلّ من زاويته، وإن تقاطعا في عنوان الحبّ لأولادهما. فليس من الجائز منع أيّ من الأبوين من رؤية الطّفل، أمّا الممارسات الخاطئة فتدين نفسها، وليس الإسلام.

لائحة المصادر والمراجع

المصادر والمراجع العربيّة

  • القرآن الكريم
  • ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، لا طبعة، قم، أدب الحوزة، ج 13، 1405هـ.
  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، UN.org.
  • الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، لا طبعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ج 15، لا تاريخ.
  • سين، أمارتيا، فكرة العدالة، الطبعة الأولى، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010م.
  • شمص، محمد حسين، حضانة الطّفل بين الفقه والقانون والإنسان، تقرير بحث السّيد عبد الكريم فضل الله، لا طبعة، بيروت، دار المحجة البيضاء، 2021م.
  • الطّباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، ج2، 1417هـ.
  • مطهّري، مرتضى، العدل الالهي، ترجمة محمد عبد المنعم خاقاني، لا طبعة، بيروت، الدّار الإسلاميّة، 1997م.

المصادر والمراجع الأجنبيّة

  • Akerman, Marc, Clinician’s Guide to Child Custody Evaluations, 3rd edition, New York, Wiley, 2006.
  • Benjamin, G. Andrew & Gollan, Jackie, Family Evaluation in Custody Litigation: Reducing Risks of Ethical and Malpractice Infractions, no edition, Washington, American Psychological Association, 2018.
  • Blyth, Maggie, & Wright, Chris & Newman, Robert, Children and Young People in Custody: Managing the Risk, Rainer Crime Concern, 3rd edition, University of Bristol UK, The Policy Press, 2009.
  • Fuhrmann, Geri & Zibbell, Robert, Evaluation for Child Custody, no edition, New York, Oxford University Press, 2012.
  • Galatzer-Levy, Robert, & Kraus, Louis & Galatzer-Levy, Jeanne, The Scientific Basis of Child Custody Decisions, 2nd edition, US, Wiley, 2009.
  • Hepner, Paula, Tug of War: A Judge Verdict on Separation, Custody Battles, and the Bitter Realities of Family Court, 1st edition, Canada, ECW Press, 2009, xiii.
  • Review: Rawls, John, Theory of Justice, Revised edition, New York, Oxford University Press,1971.

(*) أستاذ حوزويّ وجامعيّ.

([1]) Paula Hepner, Tug of War: A Judge Verdict on Separation, Custody Battles, and the Bitter Realities of Family Court, p. 1.

([2]) Maggie Blyth, Chris Wright & Robert Newman, Children and Young People in Custody: Managing the Risk, Rainer Crime Concern, p. 49.

([3]) سورة البقرة، الآية 233.

([4]) نقلاً عن: محمّد حسين الطّباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 241.

([5]) راجع: محمد حسين شمص، حضانة الطّفل بين الفقه والقانون والإنسان.

([6]) وهذا في رواية داوود بن الحصين، وقد يبدو بابًا جديدًا في تحديد الحاضن، غير حسمه للأب والأمّ، إلّا أن يُحمل على معنى مغاير، أي الرّضاع أو الحضانة حال الزوجيّة، لا بعد الطلاق. نقلًا عن: محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 15، ب 81.

([7]) ذكر ابن منظور “حضن الطائر أيضًا بيضه وعلى بيضه. يحضن حضنًا، وحضانة، وحضانًا، وحضونًا”. نقلًا عن: محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 123.

([8]) Paula Hepner, Tug of War: A Judge Verdict on Separation, Custody Battles, and the Bitter Realities of Family Court, p. 20.

([9]) Paula Hepner, Tug of War: A Judge Verdict on Separation, Custody Battles, and the Bitter Realities of Family Court, xiii.

([10]) ﴿وَوَالِدٍ وَمَا ولَدَ﴾، سورة البلد، الآية: 3.

([11]) بحث العدل واسع ومتشعب، ويمكن الاستفادة من المؤلفات المعاصرة والشهيرة للاطلاع، مثل:John Rawls, Theory of Justice,  أو أمارتيا سين، فكرة العدالة.

([12]) Ibid, 5.

([13]) Ibid, 18.

([14]) John Rawls, Theory of Justice, p. 20.

([15]) الحديث: “بالعدل قامت السّماوات والأرض”. راجع: مرتضى مطهّري، العدل الالهي، ص 70.

([16]) يعتقد سين أنّه “قد لا يتواجد أيّ ترتيب اجتماعيّ عادل تمامًا يمكن أن يُتوصّل إليه بحياد.” راجع: أمارتيا سين، فكرة العدالة، ص 52.

([17]) Marc Akerman, Clinician’s Guide to Child Custody Evaluations, p. 53.

([18]) G. Andrew Benjamin & Jackie Gollan, Family Evaluation in Custody Litigation: Reducing Risks of Ethical and Malpractice Infractions, p. 4.

([19]) Geri Fuhrmann & Robert Zibbell, Evaluation for Child Custody, p. 3.

([20]) “للرّجل والمرأة، متى أدركا سنَّ البلوغ، حقُّ التزوُّج وتأسيس أسرة”. راجع: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، UN.org.

([21]) Robert Galatzer-Levy, Louis Kraus & Jeanne Galatzer-Levy, The Scientific Basis of Child Custody Decisions, p. 66.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إشكاليّة الحضانة لدى الطّائفة الإسلاميّة الشّيعيّة

ينقسم البحث إلى قسمين: قسم منهجيّ، والآخر عملي ومؤّسساتي. تناول القسم الأوّل بيان إشكاليّة…