‫الرئيسية‬ قضايا معاصرة في المرأة الحجاب مقالات استهداف الأبويّة ونهاية النّظام الأُسريّ
مقالات - 03/30/2023

استهداف الأبويّة ونهاية النّظام الأُسريّ

د. طلال عتريسي[1]

ما هو “النّظام الأبويّ/ الذكوريّ”؟

النّظام الأبويّ وفاقًا للأدبيّات النّسوية: “هو نظام عالمي أو نظام شمولي. فأشكال الظّلم والتّمييز كافّةً الواقعة في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والثّقافية جرى تخطيطها وتعزيزها بواسطة النّظام الأبوي من أجل استمرار سلطة الذّكور أو طبقة الذّكور على جنس الإناث أو على طبقة الإناث… لذلك؛ يعود وضع المرأة السّيئ إلى النّظام السّلطويّ والشّموليّ العالميّ الذي يُعرف باسم “النّظام الأبوي”، والذي تقع النّساء فيه تحت سلطة الرّجال. والسّيطرة على النّساء عمليّةٌ تبدأ من الأسرة وتسري إلى المجتمع، ويسعى الرّجال دائمًا بسبب قدرتهم البدنيّة الأقوى وبسبب المنافع التي يُحصّلونها من الهيمنة على النّساء إلى إبقاء هذا النّظام واستمراره”[1].

أوّلًا: الصّراع الذكوريّ/النّسوي:

إنّ الصّراع في العالم عبر التّاريخ -وفاقًا لهذا التّعريف ودوره- ليس صراعًا بين الشّمال والجنوب على سبيل المثال، أو صراعًا على الموارد، أو صراع طبقات اجتماعية؛ بل هو صراع بين الذّكور والإناث من أجل السّيطرة والهيمنة. أيضًا، إنّ الرّجال سبب مظلوميّة النّساء، وإذا أُزيل هذا النّظام فسوف يُستأصل الفرق بين الجنسين. فالنّظام الأبويّ مُتجذّرٌ في التّاريخ، ولا يختصّ بعهدٍ تاريخيّ أو ثقافةٍ مُعيّنةٍ. أضف إلى ذلك، سيُستَخدم مصطلح “النّظام الأبويّ” أو”المجتمع الذّكوري” كتهمة ووصمة تخّلف وتحقير وذمّ. وستعمد جمعيّات واتّجاهات نسويّة عدّة إلى مبادرات متنوّعة وغريبة للرّدّ على ما تنصّ عليه مكوّنات هذا النّظام التّاريخية أو اللّغوية، وعلى كل ما يتعلّق بما يفرضه من آداب وسلوكيّات وقيم وعادات. وأمّا ظلم طبقة النّساء فلا يحدث إلاّ بسبب جنسهنَّ ولمجرّد كونهنَّ نساءً، والظّلم بالنّسبة إلى الجنس)ظلم النساء( هو أشدّ أشكال الظّلم فظاعةً، وتقع بقيّة الأشكال (الاستغلال الطّبقي أو العرقي أو…  ) في الدّرجة الثّانية لجهة الأهميّة، “ومظلوميّة المرأة هو نوعٌ مختلفٌ وأعمق من بقيّة أشكال المظلوميّة”[2].

لذلك، يجب أن تكون حركة النّضال وحركة التّاريخ -من المنظور النّسوي اللّيبرالي- في التّحرر من هذه الهيمنة الذّكورية. حتّى إنّ بعض النّسويات طالبن باستبدال العلاقات بين الذّكور والإناث بعلاقات بين النّساء لا هيمنة ذكوريّة فيها. وقد ذهب هؤلاء مذهبًا غريبًا عجيبًا يخالف الطّبيعة البشريّة والإنسانيّة بالقول إنّ النّظام الأبويّ هو من اخترع الزّواج بين الجنسين المختلفين؛ لذلك فالقضاء على هذا النّظام يكون بتشجيع العلاقات المثليّة بين النّساء، ما يُتيح الوصول إلى هويّة شاملة بين النّساء على النّحو الأتمّ[3]. وقد أسهمت هذه الرّؤية المعادية للذّكورية والأبويّة ودعوتها إلى تشجيع العلاقات بين النّساء لتبرير المثليّة والانتقال بها من مجرّد كونها حال خاصّة أو شاذّة أو انحرافًا ما في خلق إيديولوجية تهدف الى إلغاء ثنائيّة إنسانيّة أساسيّة هي ثنائيّة الذّكر/ الأنثى التي استند إليها العمران البشري والمعياريّة الإنسانيّة[4] .

ثانيًا: النّظريّة المعرفيّة النّسويّة

من اللّافت للنّظر أنّ الخطاب الجندري المعادي للأبويّة، والذي يريد القضاء عليها لا يعني سوى أنّه ربّما للمرّة الأولى في التّاريخ، ثمة مجتمع لا يبالي ببقائه الذي يتقرّر تحديدًا في اللّقاء الجنسي بين الرّجل والمرأة. وفي مزيد من المحاولات لتفكيك النّظام الأبويّ ستلجأ بعض الاتّجاهات الجندرية إلى نقد التّاريخ؛ لأنّه تاريخ كتبه الذّكور، فقد تعمّدوا تهميش النّساء في كتابته. وأرادت هذه المحاولات من خلال دراسة العلوم ومراجعتها عبر تاريخ الفكر الغربيّ كشف السّتار عن “ذكوريّة العلم”، وأنّ “التّاريخ هو تاريخ الرّجال”.

لذلك؛ بدأت عمليّة مطالعة النّظريّات المعرفيّة الموجودة في “العلوم الذّكورية” ونقدها، وطُرحت في المقابل نظريّات بعنوان “النّظريّة المعرفية النّسويّة[5]. كذلك، ستؤخذ -وفاقًا لهذه النّظرية- مصالح النّساء ومنافعهنّ وقضاياهنّ بعين الحسبان في بناء أي علمٍ وفي تحليلاته وتنظيراته، بدلًا من استخدام المناهج الذكوريّة. وسيكون هذا العلم محصّنًا من أيّ نوعٍ من الذّكوريّة والنّظام الأبويّ. 

هو علم يدافع عن النّساء ضدّ العقلانيّة الرّجاليّة التي تشكّلت بناءً على ازدراء المرأة وطلب السّلطة؛ إذ :”لا يستطيع التّنظير حول النّساء إلاّ النّساء وحسب”[6]. كما تثير هذه الدّعوة الكثير من علامات الاستفهام العلمية والاجتماعية؛ ذلك أنّها تدعو إلى مناهج بحث نسائيّة تُحفظ بها مصالح النّساء ومنافعهنّ وقضاياهنّ بدلًا من المناهج الذّكوريّة. فكيف يمكن أن يكون الانتماء البيولوجي مصدرًا لمنهجيّة علميّة، وكيف يمكن أن يكون هذا المنهج محايدًا وعلميًا إذا كان الهدف منه “مصالح النّساء”، وليس الحقيقة العلمية؟ هل يمكن الرّكون إلى مثل هذا العلم وإلى قبول مثل هذه المنهجيّة؟

 ثالثًا: الأنموذج الغربي والإطاحة بالنّظام الأبوي

إذا كانت كتابة التّاريخ -من وجهة نظر نسويّة- و”جندرة اللّغة” بمثابة محاولات جديدة للتّمرّد على”النّظام الأبويّ” وتفكيك أسسه اللّغوية، فإنّ هذا النّظام بمسمّياته المختلفة مثل النّظام البطريركي والمجتمع الذّكوري قد تعرّض للاستهداف مبكرًا منذ مطلع القرن العشرين، من مثقّفين لم يكتفوا بالموقف السّلبي من هذا النّظام؛ بل ذهبوا إلى أنّ الإطاحة به والقضاء عليه هي طريق الخروج من التّخلف الذي تعيشه المجتمعات العربيّة في تقليد تامّ وغريب للتّجربة الغربيّة التي بدأت بالرّبط بين الإطاحة بسلطة الملك والإطاحة بسلطة الأب.

لقد كان “هشام شرابي” أبرز من اشتُهر بهذا الرّبط بين التّخلف والنّظام الأبويّ في كتابه “النّظام الأبويّ وإشكاليّة تخلّف المجتمع العربي” الذي صدر في العام 1993م. وبات مرجعًا لكثير من الاتّجاهات الفكريّة والثّقافيّة النّسوية وغير النّسوية، وذلك بعد أن ربط “شرابي” تغيير منظومة الحكم الفرديّ في المجتمع بتغيير منظومة السّلطة الأبويّة؛ لأنّ السّلطة الأبويّة-من وجهة نظره- هي التي تسوّغ للحاكم أن يهيمن على الشّعب كما يفعل الأب في البيت.

ماذا يقول “شرابي” عن هذه العلاقة بين التّخلف والنّظام الأبويّ؟

يدعو “شرابي” في أطروحته هذه إلى تدمير سلطة الأب من دون أن يقدّم أيّ بديل نظريّ أو عمليّ عن هذه السّلطة في إدارة الأسرة وتربية الأبناء وتحمّل المسؤولية؛ ما يمكن أن يُعدّ تفكيكًا لبنية الأسرة الحاليّة من غير وجود أي  بديل مقنع وعقلاني للنّظام الأسريّ ما بعد “تدمير” السّلطة الأبويّة أو تفكيكها[7] . ولا يقدّم “شرابي” أيّ تصوّر عن الأسرة التي يتخيّلها أو يريدنا أن ننتقل إليها مع الحداثة المفترضة، كذلك الحركات النّسوية والخطاب الجندري. هل هي أسرة من دون نظام أبويّ؟ أم هي أسرة من دون سلطة أب أم من دون أب أصلًا، وتقتصر على المساكنة؟ أم يريدها تحت سلطة الأُم؟ أم أنّ الدّعوة هي إلى سلطة ثنائيّة كما قد يُفهم من ذلك؟ كيف يمكن في مثل هذه الحال أن تُتّخذ القرارات إذا اختلف الزّوجان؟ وأين هي المؤسّسة في العالم الحديث التي تُدار بسلطة ثنائيّة متساوية على سبيل المثال؟

والجدير بالذّكر أنّ الخطاب الجندري لا يشرح لنا كيف سيكون وضع الأسرة، وطريقة تربية الأبناء فيها من دون مرجعيّة أيّة سلطة إرشادية أو عقابية “بعد إزاحة الأب رمزًا وسلطة”. إنّ ما يجري اقتراحه والدّعوة إليه هو عمليًا مجتمع لن تؤدّي فيه الأسرة أيّ دور في بناء العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة والتّربوية. والحال أنّ ما يجري هو ترويج استعلائي لأنموذج غربي، من خلال محاولات فرضه في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة عبر أطروحات مخادعة مثل الجندر والمساواة والأسرة من جنس واحد، والتّمكين الجنسي والاقتصادي والسّياسي للنّساء والفتيات، والذي لا يمكن أن يتحقّق إلّا بتدمير النّظام الأبوي وسلطة الأب ونظام الأسرة “التّقليدي”.

في المقابل؛ التجربة “الأنموذج” في الغرب ليست  كما يُراد التّرويج لها. فهي ليست بخير، وتشكو -كما بات معلومًا- من التَّفكُّك الأُسَريّ، ومن مجتمع هَرِم بلا أطفال بعد أن فَقَدَت الأُسرة وظيفتها الرِّعائيَّة والإنجابيَّة… وتعيش تلك التّجربة مراجعات نقديَّة عميقة تربويَّة ونفسيَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة حول المستقبل الذي ستصير إليه، بعد أن ذهبت إلى حدّ التّجرُّؤ غير العلميّ وغير المنطقيّ؛ حتّى على سنّ تشريعات تخالف الطّبيعة الإنسانيَّة . “وقد أدّى إضعاف المؤسّسة الأسريّة وتزايد العلاقات”خارج النظام” إلى مزيد من الاضّطرابات لدى الطّفل والمراهق التي تنذر بتحطيم التّضامن التّقليدي الأسري والاجتماعي”[8] .

في الختام، لا شكّ أنّ الغرب نفسه لم يعد أنموذجًا! وها هو اليوم يواجه ما يكتبه فلاسفته وعلماء الاجتماع عن”موت الغرب” و “نهاية الغرب”، وعن “آلام الفكر الغربيّ” و”أفول حضارة الغرب”، وعن مأزق “الحداثة”… ومن المؤكّد أنّ بداية ذلك الأفول وتلك النّهايات لم يكن فعليًّا سوى نتيجة موت الأسرة التي فقدت دورها ومكانتها ووظيفتها الإنسانيّة والاجتماعيّة.

قائمة المصادر والمراجع:

  1. نرجس رودكار، فيمينيزم، الحركة النّسوية مفهومها، أصولها، وتياراتها الاجتماعية/ ترجمة: هبة ضافر، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، سلسلة مصطلحات معاصرة، العدد 32 ، بيروت، 2019م.
  2. هشام شرابي، النّظام الأبَويّ وإشكاليَّة تخلُّف المجتمع العربيّ. مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت 1993م.
  3. هبة الصّغير، حركة التّحرر النّسوي: تاريخها ومآلاتها، موقع الحوار المتمدّن الإلكتروني 2/ 3/ 2019م.
  4. غيردا ليرنر، نشأة النّظام الأبويّ. منشورات المنظّمة العربيَّة للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، 2013م.
  5. عبد الوهاب المسيري،قضيَّة المرأة بين التّحرير والتّمركز حول الأنثى(الطّبعة الثّانية). القاهرة: نهضة مصر،2011م.
  6. إريك هوبزباوم، أزمنة مُتصدّعة، الثّقافة والمجتمع في القرن العشرين، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت، 2015م.

[1] – غيردا ليرنر، “نشأة النّظام الأبويّ، ص 39.

[2] – نرجس رودكَار، “فيمينيزم، الحركة النّسوية مفهومها، أصولها، وتياراتها الاجتماعية، ص 212-209.ص 106.

 [3]- هبة الصّغير، “حركة التّحرر النّسوي: تاريخها ومآلاتها”.

[4]– عبد الوهّاب المسيري، قضيَّة المرأة بين التّحرير والتّمركز حول الأنثى، ص11- 12.

[5]– نرجس رودكَار، المرجع السّابق ص 212-209.

[6]–  المرجع نفسه، ص 215.

[7] – هشام شرابي، النّظام الأبَويّ وإشكاليَّة تخلُّف المجتمع العربيّ، ص 14.

[8]–  إريك هوبزباوم، أزمنة مُتصدّعة، الثّقافة والمجتمع في القرن العشرين، ص 191


[1] – أستاذ علم الإجتماع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في فلسفة الحجاب

البروفيسور الشّيخ د. محمّد شقير(*) إنّ البحث في فلسفة الحجاب –بمعناها الواسع- ليس أمرًا مع…