فلسفة الذّكورة والأنوثة: قراءة في الأسس الفلسفيّة في ضوء الفلسفة الإسلاميّة
حسين إبراهيم شمس الدّين[1]
[1] – باحث في العلوم الإسلاميّة والعلوم الاجتماعيّة.
التّنظير في قضيّة قيَميّة كانت أم قانونيّة، يستبطِن بالضّرورة رؤيةً مُحدّدةً حول واقعيّة الأمور التي نحن بصدد البحث فيها؛ فإذا أردنا أن نبني رؤيةً قانونيّةً أخلاقيّة مثلًا حول قضيّة الحرّيّة أو العدالة أو غيرهما، لا يمكن للباحث غضّ النّظر عن المرتكزات التي تتضّح على أساسها جملة من الأمور؛ أي لا بدّ له من أن يجيب عن الأسئلة الآتية على نحو المثال لا الحصر:
- هل نظام العالم قابل لإقامة العدالة فيه؟
- هل للمجتمع الإنسانيّ واقعيّة وراء الرّوابط الاجتماعيّة القائمة بين أفراده؟
- هل للمجتمع غاية يسعى إليها أو لا بدّ من أن يسعى إليها؟
- هل العبث موجود في الأفعال الاختياريّة الإنسانيّة؟..
إلى غيرها من الأسئلة التي تشكّل الإطار النّظريّ الحاكم لأيّ قضيّة تنظيريّة في هذا المجال، وهو ما يمكن أن نطلق عليه” الفلسفة الكامنة” وراء التّنظير للقيم والحقوق وغير ذلك. ومن القضايا التي تفرض، في عصرنا الحاضر، سؤالًا يحتاج إلى البحث، هي قضية “الذّكورة والأنوثة” والفرق بينهما والفواصل المتجذّرة أو غير المتجذّرة على مستوى الرّؤية الدّينيّة الإسلاميّة، وبعبارة أخرى: إنّ القوانين والتّشريعات، ومن ورائها القيم والأخلاقيّات التي طرحها الإسلام مثلًا، والتي يظهر منها بشكلٍ واضحٍ وضع الحدود على الهويّة بين الذّكورة والأنوثة، على أيّ رؤية تكوينيّة واقعيّة تُبنى؟ هذا كلّه بعد الفراغ من قضيّة أنّ أيّ تنظير سواء أكان تنظيرًا موافِقًا أم مخالِفًا للإسلام لا يمكن أن يتملّص من مرتكزات فكريّةٍ فلسفيّة كما قلنا، وإن لم يكن طارح تلك القضايا غير ملتفتٍ إليها.
فيما يلي، نحاول الإشارة بنحوٍ مجملٍ إلى بعض الأسس في هذا المجال؛ فالتّفصيل يحتاج إلى نطاق أوسع، ونؤكّد أنّنا لسنا بصدد مناقشة التّيّارات الأخرى أو ذكر ما تُبنى عليها الرّؤى المختلفة.
أوّلًا: الفرق بين النّوع الإنسانيّ وصنفه
وفاقًا للرّؤية الفلسفيّة الإسلاميّة، يتألّف عالم المادّة والطّبيعة من أنواع نسمّيها “ماهيّات”، وتحت هذه الأنواع يوجد أصناف[1]، وتحت هذه الأصناف تندرج الأفراد والأشخاص. وإذا أردنا أن نمثّل لهذا الأمر، فنقول إنّ شجرة التّفّاح مثلًا نوع من أنواع النّبات، يندرج تحته أصناف، بعضها له ميزةٌ أنّه أخضر وآخر أحمر وثالث أصفر، وهكذا.. ولكنّ هذه الأصناف كلّها نوعٌ واحدٌ هو التّفّاح، وليس الفرق بين تفّاح الصّنف الأوّل وتفّاح الصّنف الثّاني كالفرق بين التّفّاح والرّمان على سبيل المثال؛ بل التّفّاح نوعٌ والرّمان نوعٌ آخر. أمّا الألوان المختلفة للتّفّاح فهي أصناف لنوعٍ واحدٍ، ثمّ إنّ ثمرة التّفّاح التي أمامنا، الخضراء أو الحمراء أو الصّفراء يقال لها شخص وفرد لذاك الصّنف.
هذه المقدّمة مبنيّة على ما تحقّق في كتاب “المنطق” من أنّ الفروقات والتّمايزات بين أيّ شيئين، إنّما هي فروقات من نوعين؛ الأوّل: الفروقات التي تمثّل حقيقة الشّيء وذاته، والثّاني: صفات أخرى لا تدخل في حقيقته وذاته، وإنّما هي فروقاتٌ بحسب أمور زائدة على الذّات[2]. فالتّفّاح سواء أكان أحمر أم أخضر له صفاتٌ مشتركةٌ ترجع إلى ذات التّفّاح، كصفة أنّه نبات أو صفة أنّه له تركيب كيميائيّ خاصّ. وهناك صفات أخرى مختصّة بالصّنف الأوّل لا توجد في الصّنف الثّاني كاللّون الخاصّ مثلًا، مع أنّ كلا اللّونين في تفاوتهما، لا يخرج أحدهما عن كونه مشتركًا مع الآخر في أنّه تفّاح بالذّات.
كذلك بالنّسبة إلى الإنسان، فلنا أن نسأل، إنّ إنسانيّة الإنسان بالمعنى الفلسفيّ تتّصف تارة بأنّه ذكر وأخرى بأنّه أنثى، فهل صفة الأنوثة أو الذّكورة ترجع إلى النّوع الأوّل من الاتّصاف أم إلى النوّع الثّاني؟
يذهب الحكماء إلى أنّ الذّات التي تشكّل متن وحقيقة أفراد الإنسان هي الإنسانيّة، وأمّا اتّصاف هذا الإنسان بأنّه ذكر أو أنثى، فيرجع إلى تفاوت في الصّنف لا النّوع [3]وذكروا لذلك أدلّة لا نتعرّض لها هنا؛ ولكن إنّ الأنثى من الإنسان تشترك مع الذّكر في صفات تشكّل ذات الإنسان، والاختلافات بينهما في الصّنف فقط.
ثانيًا: الصّنف يتضمّن النّوع
لا ينبغي الاشتباه هنا إلى أنّ الأصناف التي تتمايز فيما بينها صارت أشياء جديدة بعدما فقد منها النّوع؛ أيّ لا ينبغي التّوهّم أنّ الذّكر أو الأنثى بعد أن غدوا أصنافًا للإنسان ألغيت عنهم صفة الإنسان، وحلّت محلّها صفة “الذّكر أو الأنثى”؛ بل إنّ النّوع متضمّن في الصّنف، كما في المثال السّابق؛ إذ قيل إنّ التّفّاح الأخضر هو تفّاح ويشتمل على كلّ كمالات التّفّاح المشتركة بينه وبين التّفّاح الأحمر، ولكن يفترقان في صفات بينهما. وهكذا إذا أثبتنا كمالات ما ترجع إلى إنسانيّة الإنسان من جهة أنّه إنسان فهي محفوظة في كلّ الأصناف كالإنسان الذّكر والإنسان الأنثى.
ثمّ يأتي السّؤال الآتي: ما هي المشخّصات والصّفات الكماليّة للإنسان من جهة أنّه إنسان، والتي تكون وفاقًا لهذه الرّؤية المشتركة بين الصّنفين الذّكر والأنثى؟
ثالثًا: كمالات الإنسان بوصفه إنسانًا
تبتني تحديد الكمالات الخاصّة بالإنسان على اكتشاف الفرق بينه وبين سائر الأنواع -الحيوانات والنّباتات والمعاد- وعلى الصّفات التي تتحقّق فيه بغضّ النّظر عن أصنافه. وما طرحه الحكماء هنا، وبحثوه بشكلٍ مفصّل في علم النّفس الفلسفيّ، هو أنّ الإنسان يختلف عن النّبات والحيوان في أمرين أساسيّين: الإدراك والحركة؛ أي إنّ في الإنسان قوّة إدراكيّة فوق القوّة الإدراكيّة الحيوانيّة، وكذلك له قوّة الحركة والاختيار في أفعاله تفوق الأنواع الأخرى[4]، وهذا مبنيّ على ملاحظات ومشاهدات متكرّرة يكتشف من ورائها رجوع هذه الصّفات إلى ذاته.
إنّ قوّة الإدراك تشتمل على الإحساس والتّخيّل والتّعقّل، وبعضهم زاد قوّة أخرى أسماها القوّة القدسيّة[5] بخلاف الحيوان الذي يقف عند سقف الخيال. تشمل قوّة التّحريك
من مبدأ الشّهوة والغضب، وهذا يشترك فيه الإنسان والحيوان. والتّحرّك من مبدأ عقلانيّ كإدراك الحسن والقبول في الأفعال وهو ما يختصّ به الإنسان[6]. وفي الخلاصة، الإنسان من مبدأ كونه إنسان يمتاز بقوّة التّعقّل وقوّة التّحرّك من مبدأ الحسن والقبح، وهذه الخواصّ ترجع إلى إنسانيّته لا إلى صنف خاصٍّ من الأصناف.
رابعًا: الكمالات الصّنفيّة (الذّكورة والأنوثة)
ترجع الكمالات الصّنفيّة الموجودة، في كلّ من الذّكر والأنثى، إلى الخصوصيّات الخاصّة التي لا ترجع إلى كونهما إنسانًا؛ بل ترجع إلى خصوصيّات لاحقة على ذلك. ومن هنا لا يكون محلّ الافتراق بينهما في قوّة الإدراك والحركة العقلانيّة؛ بل إلى خصوصيّات صنفيّة. وهذه الخصوصيّات الصّنفيّة لا ترجع إلى القوى المشكّلة لإنسانيّة الإنسان؛ أيّ القوّة المدركة العقليّة والقوّة المحرّكة العقليّة كذلك، فرجوعها إمّا إلى الطّبيعة البدنيّة للأفراد أو لأمور خارجة عن الأفراد أنفسهم كالمجتمع مثلًا، وهنا نكون أمام عاملين مؤثّرين في تشكيل الشّخصيّة لكلّ من الذّكر والأنثى:
الأوّل: الطّباع والأمزجة الخاصّة النّاشئة عن التّركيبات البدنيّة بسبب التّفاوتات بينهما.
الثّاني: كلّ الأمور الخارجيّة، مثل العادات التي يكتسبها سواء لأمور اجتماعية أم لتنشئة خاصّة أم لقانون وتشريع خاص، والأدوار الموكلة إلى كلّ منهما بحسب اقتضاءات خاصّة من نمط الحياة.
ثمّ إنّنا إذا تعمّقنا أكثر في هذين الأمرين، نكون أمام سؤالين مهمّين؛ الأوّل هو دور التّفاوتات الجسمانيّة في صياغة الشّخصيّة الذّكوريّة أو الأنثويّة، بمعنى هل للجسد دور في تحقيق الهويّة الذّكوريّة عند من له جسد الذّكر أو الهويّة الأنثويّة عند من لها جسد الأنثى، ولا يمكن تعويض الهويّة النّفسيّة لكلّ من الذّكر أو الأنثى بهويّة أخرى في عين التّركيب الجسمانيّ الخاصّ؟ أو بعبارة أخرى: هل للجسد دور في صياغة الطّبيعة السّيكولوجيّة والهوياتيّة؟
والثّاني، هو أنّ التّنشئة الاجتماعيّة وتوزيع الأدوار تبعًا لنمط الحياة بين الذّكور والإناث هل يخضع لرؤية تشريعيّة وتقنينيّة خاصّة، أم أنّ نمط الحياة مسألة تاريخيّة وتطوّريّة لا دخل لاختيارنا فيها؟ بعبارة أخرى، ذكرنا أنّ الذّكورة والأنوثة في تشكّلها على مستوى الهويّة النّفسيّة والاجتماعيّة تتأثّر بمحيطها الخارجيّ، فهل هذا المحيط الخارجيّ يجب أن يكون خاضعًا لرؤية وفلسفة خاصّة على مستوى التّشريع والتّقنين؟ فتتحدّد أساليب التّنشئة والتّربية في ضوئه أم نحن فقط نسلّم ما آلت إليه أحوال المجتمع ونبني شريعاتنا على مقتضياتها من دون تأثير أو تغيير؟
هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في مقالٍ لاحقٍ، حتّى يتّضح الكثير ممّا هو محلُّ نقاشٍ في واقعنا الرّاهن.
الخلاصة
حاولنا في هذا المقال المختصر، إلقاء الضّوء على قضيّةٍ مركزيّةٍ ومحوريّةٍ، وهي التّأسيس للفروقات بين الذّكورة والأنوثة الإنسانيّة طبقًا للرّؤية الفلسفيّة الإسلاميّة. ونلفت النّظر إلى أنّ هذه الرّؤية متوافقة تمامًا مع النّصوص القرآنيّة والحديثية المؤكّدة، ولكن كونُ بحثنا فلسفيًّا، اقتصرنا على هذه الجهة.
المصادر والمراجع
- ابن سينا، حسين 1375 هجريّ شمسي، شرح الإشارات والتّنبيهات، الطّبعة الأولى، قم المقدّسة- إيران، دار نشر البلاغة.
- ابن سينا، حسين 1404 هجريّ، إلهيّات الشّفاء، الطّبعة الأولى، قم المقدّسة- إيران، نشر مكتبة المرعشي النّجفي.
- الشّيرازي، صدر المتألّهين 1440 هجريّ، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، الطّبعة الثّامنة، قم المقدّسة- إيران، دار نشر طليعة نور.
- مظفّر، محمد رضا 1366 هجريّ شمسي، المنطق، الطّبعة الأولى، قم المقدّسة- إيران، دار نشر إسماعيليان.
[1]– محمد رضا المظفّر، المنطق، ص 143.
[2]– ابن سينا والمحقّق الطّوسي، شرح الإشارات والتّنبيهات، ص 38.
[3]– ابن سينا، إلهيّات الشّفاء، ص 223.
[4]– صدر الدّين الشّيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ص 210.
[5]– المصدر نفسه، 8، 203
[6] – المصدر نفسه، 8،194
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…