الشّذوذ الجنسيّ وجدليّة العلاقة بين الرّوح والجسد
حسين إبراهيم شمس الدين[1]
[1] -باحث ف
يتشكّل الفضاء العموميّ الذي نعيش فيه من تجاذبات عدّة منها السّياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة وهلمّ جرًّا؛ حيث نراها تطفو على سطح المواقع غير الرّسميّة، ومنها: وسائل التّواصل الاجتماعيّ والبرامج التلفزيونيّة والكتابات الصّحفيّة، وغيرها. أسئلة ونقاشات هي “وليدة” لحظة تاريخيّة وحضاريّة؛ إذ إنّ من يحاول النّفاذ ببصره إلى الأسس التي تنطلق منها، يرى أنّها أسئلة لحظويّة آنيّة، تنبثق من أنظمة فكريّة ضاربة في أسس فلسفيّة، أهمّها: نظرتها إلى العالم والإنسان والحياة والقيم المطلقة المجرّدة. فسؤال الحريّة الشّخصيّة وتعارضه مع الأنظمة التّشريعيّة الدّينيّة، وغيرها، ينشأ بالضّرورة، من رؤية حول أصالة الفرد أو الاجتماع، أو حول غاية الفرد من السّعادة أو الشّقاوة، وغيرها من المبادئ الفلسفيّة التي قلّما تُظهّر إلى العلن؛ وذلك، لعدم ملاءمتها وما يسمّى” الفضاء العامّ” الذي تجري فيه النّقاشات.
في لحظتنا التّاريخيّة المعاصرة، برز وبوضوح، قبل عقود سؤالان: “الجنوسة” أو” الهويّة الجنسيّة”، و” الرّوابط بين الجنسين”، حتّى وصل الأمر إلى طرح مشروعيّة أو ممنوعيّة الشّذوذ الجنسيّ. ووُضع هذا السؤال، بشكل طبيعيّ، أمام النّظم الدّينيّة التي لديها، حتمًا، رؤيتها القيميّة أولًا، والتّشريعيّة ثانيًا، حول حدود تلك الرّوابط، وما هو مشروع منها أو غير مشروع.
للإجابة عن هذا السّؤال- وتحديدًا المتعلّق بالشّذوذ الجنسيّ- لا يسعنا ونحن المؤمنون بالإسلام مناقشته من حيث مبادئه القيميّة والتّشريعيّة إلّا بدءًا من النّقطة الصّفريّة له؛ أيّ الأسس الفلسفيّة التي تنبثق منها التّشريعات والرّؤى القانونيّة المختلفة. وبتعبير آخر، نجد أنّه من الضّروريّ تجاوز الجدل في الفضاء العامّ، وطرحه على نحو أعمق؛ حيث نجترح الأسس الوجوديّة للرّؤية التي طرحها الإسلام حول عدم مشروعيّة الشّذوذ الجنسيّ؛ بل وقبَّحه عند الأفراد ذوي الطّباع السّليمة.
نؤكّد أنّنا في هذا المقال، نراعي الاختصار؛ حيث إنّنا لا نبغي مناقشة المدارس الفكريّة الأخرى، بقدر ما نريد تبيان الأسس التي يقوم عليها التّشريع والأيديولوجيّة الدّينيّة الإسلاميّة في نظرتها تجاه هذه القضيّة. ولذلك، انطلقنا من تسمية ” الشّذوذ الجنسيّ”، وليس من لفظ ” المثلية” أو ما يقاربه؛ لأنّنا لسنا في معرض الإقناع بقدر ما نحن بصدد عرض تحليليّ فلسفيّ لمبادئ الرّؤية الدّينيّة الإسلاميّة.
أوّلًا: محوريّة ثنائيّة الجسد والرّوح في التّعامل مع قضيّة الشّذوذ الجنسيّ
- ما هي العلاقة القيميّة والتكوينيّة بين الجسد والهويّة الشّخصيّة؟
- هل الجسد، بأبعاده البيولوجيّة والطّبيعيّة جميعها، لا دور له في تشكيل الهويّة النفسيّة والرّوحيّة المجرّدة في حقيقتها عن المادة؟
- هل يخضع تعاملنا مع “جسدنا” لاعتبارات، تسهّل اتّخاذ القرارات تجاهه؟ أم أنّ هناك قانونًا تكوينيًّا خاصًّا لهذا التّعامل؟ وهل يمكننا تبديل” ما نحن”عليه بمعزل عن طبيعتنا الجسديّة، أمَّا لا؟
هذه الأسئلة وغيرها تشكّل أساسًا فلسفيًّا، لا يمكن إغفال الإجابة عنه، لكلّ من ينظّر في قضية قيميّة تتمحور حول الهويّة الجنسيّة؛ ذلك أنّ هذه المسألة ذات بعدين أساسيين:
البعد الأوّل: هو البعد البدنيّ الجنسيّ المتمثّل بتركيبة الجسد الخاصّة.
البعد الثّاني: هو بعد الهويّة الشّخصيّة وما يعبّر عنه الإنسان بلفظ ” أنا”.
من ينظّر في مسألة الشّذوذ الجنسيّ يمكنه القول إنّ البعد الأوّل لا يفرض على الإنسان شيئًا. أمّا في ما يخصّ البعد الثاني؛ أي يقول بالفصل المطلق بين البعدين؛ حيث يمكن للبعد الجنسيّ البدنيّ أن يكون ذا شكل أو أشكال متنوّعة أو وفاقًا لقانون غير منضبط، ولا يخالف بذلك البعد الثّاني؛ وبتعبير آخر ليس للجسد عنده دخالة في تحديد هويّته؛ كما نجد في الثّقافات المكتسبة بالتّنشئة والقابلة للفصل.
هنا تبرز قضيّة العلاقة بين الجسد والهويّة الشّخصيّة -النّفس أو الرّوح- وتشكّل بدورها ركيزة لكلّ منظّر في هذا المجال؛ لذلك، لا بد من تبيّن العمق الفلسفيّ الذي يتبنّاه الفكر الدّينيّ الإسلاميّ تجاهها حتّى تكون منطلَقًا لأيّ تنظير لاحق.
ثانيًا: العلاقة بين النّفس والجسد من منظور فلسفيّ
إنّ العلاقة بين النّفس والجسد في التّراث الفلسفيّ الإسلاميّ، وخاصّة، التّراث الفلسفيّ لمدرسة الحكمة المتعالية التي بنى أركانَها صدرُ المتألّهين” الشّيرازي”، هي علاقة بارزة الأهميّة. إذ تشكّل الشّخصيّة الإنسانيّة وحدة جامعة ذات مراتب. فالشّخصيّة الإنسانيّة لها أبعاد ودرجات: أحد أبعادها هو النّفس المجرّدة عن المادة” الروح”، وبعدها الآخر هو البدن. ولا يفترق البدن عن الشّخصيّة الإنسانيّة، وليس عارضًا عليها كاللّباس الذي تلبسه وتخلعه متى أرادت؛ بل إنّ النّفس الإنسانيّة والشّخصيّة الذّاتيّة لكلّ إنسان هي حقيقة واحدة من التّجرّد إلى البدن؛ لذلك، يذكر بعض الحكماء” أنّ البدن مرتبة نازلة من النّفس، والنّفس تمام البدن الذي هو: تجسّد الرّوح، تجسّمه، صورته، مظهره ومظهر كمالاته وقواه”[1].
إنّ هذه القضيّة تعني أنّه لا يمكن أن يقع تناقض بين بعد الجسد والأبعاد الأخرى في الشّخصيّة الإنسانيّة، فكلّ ما في الجسد يشير إلى حقيقة النّفس الإنسانيّة في مراتبها الأخرى. والسّرّ في ذلك كلّه أنّ الشّخصيّة غير متفكّكة ومتشرذمة؛ حيث يناقض بعدٌ منها سائر الأبعاد. فجسد الأنثى لا يكون إلّا لنفس أنثى، وجسد الذّكر لا يكون إلّا لنفس ذكر، وهذا الأصل والقاعدة في باب النّفس، لا ينحصر في الذّكورة والأنوثة فقط؛ بل، يشمل الصّفات كلّها.
من هذه الجهة أيضًا، برهن صدر المتألّهين استحالة التّناسخ بين النّفوس، وهو ما يسمّى بالاصطلاح المعاصر” التّقمّص”؛ حيث ذكر- مثل سائر الحكماء- أنّه يستحيل انتقال نفس شخص إلى جسد شخص آخر؛ لأنّ كلّ بدنٍ هو مرتبة نازلة لنفسه، والتّقمص يناقض هذا الأمر[2]؛ وكل ذلك يرجع إلى أنّ النّفس هي المرتبة العالية من البدن، والبدن هو المرتبة النّازلة للنفس؛ لذلك، فإنّ البدن يحكي عن حقيقة الشّخصيّة الإنسانيّة في مراتبها العليا: الشّعوريّة، الخياليّة، والتّعقليّة. ويقول صدر المتألّهين، عند كلامه على ما في البدن من عناصر وتركيبات فيزيائيّة وبيولوجيّة:” كأنّها ظلّ لها [أي للنّفس] وحكاية عنها، فإنّ جميع ما يوجد في العالم الأدنى الطّبيعيّ من الصّور بأشكالها وأحوالها، توجد نظائر لها في العالم الأعلى”[3] .
لقد ذكرنا هذه الشّواهد ونقلناها؛ لأنّ المجال لا يتّسع للاستدلال، وتبيّن البراهين لهذه المسألة، والغاية هي تبيان المبنى الفلسفيّ في الحكمة الإسلاميّة. وإذا تبيّن أنّ هناك اتّحاد ما بين النّفس والبدن، أو بحسب الاصطلاح الفلسفيّ ” تركيب اتّحاديّ”، فلا مجال، إذًا، للقول إنّ ما يقتضيه جسد ما من الذّكورة أو الأنوثة تخالفه ميول النّفس وأحوالها، ولا يُسمع عندئذ لمن يقول ” أنا ذو جسد ذكر ولكن نفسي أنثى”.
نعم، يمكن القول بوجود اختلالات شعوريّة ترجع إلى اضّطرابات أو انحرافات على مستوى النّزوع والميول لا بدّ من إصلاحها، وحالها كحال الذّائقة التي قد يعرض لها انحراف مزاجيّ بيولوجيّ معيّن فتشعر بمرارة الحلاوة أو حلاوة المرّ. وهذا أمر عارض وطارئ لا يرجع إلى ذات القوّة الذّائقة في الإنسان. والحال عينها، في قضيّة المشاعر الجنسيّة، فإنّ اقتضاء الذّكورة مشاعر معيّنة حسب طبيعتها كالانجذاب إلى الأنثى لا إلى الذّكر في العلاقة الجنسيّة، قد يفرض عليها موانع تنشأ من اختلالات معيّنة في الجهاز النّفسيّ والرّوحيّ.
أمّا الدّليل على أنّ الذكورة تقتضي ميلًا خاصًّا إلى الأنثى، والأنوثة إلى الذّكر من حيث طبيعتها، وأنّ الخروج على هذه الطّبيعة هو شذوذ وانحراف في الأصل، فبرهانه يرجع إلى قضيّة لا يسعنا ذكرها ههنا، وإلى مسألة” العناية” والتّرتيب غير الاتّفاقيّ في الوجود، وقد ذكره الحكماء مفصّلًا في أبحاثهم، ولعلّنا نوفّق إلى تفصيلها في مقال لاحق. غاية الأمر، أنّ التّفكيك بين ما يقتضيه البدن من حيث طبيعته الخاصّة من جهة وما تكون عليه النّفس من مشاعر وميول من جهة أخرى، أمر غير مقبول في الحكمة والفلسفة الإسلاميّة؛ ومردّ ذلك إلى الاتّحاد بين النّفس والبدن على ما ذكرناه.
أمّا من يجد التّفكيك ممكنًا، وأنّ البدن ليس بعدًا ممتدًّا للنّفس، ويمكن عزل قوى النّفس وميولها عن طبيعة البدن وحقيقته، فلا يحقّ له هذا الادّعاء إلّا بعد النّظر في أدلّة الحكماء وتحليلها أو نقضها.
خاتمة
ما أردنا تبيانه في هذا المقال المختصر، أنّ قضية الشّذوذ الجنسيّ فيما يتعلّق بالمسألة الشّعورية – ولم يكن الكلام عن المسألة التّشريعيّة والقانونيّة – ترجع في عمقها إلى سؤال عن العلاقة بين البدن والأبعاد الأخرى للشّخصيّة الإنسانيّة؛ وحيث إنّ الغاية كانت تبيان ما تذكره الفلسفة الإسلاميّة في هذا المجال، لا النّظر إلى الآراء الأخرى وتفنيدها نقضًا أو إبرامًا، ذكرنا أنَّ أساس العلاقة بين البدن والنّفس هي علاقة اتّحاديّة يسري أحد البعدين فيها إلى الآخر، ولا يمكن التّفكيك بينهما. وهذا يجعل الميول الجنسيّة المخالفة لاقتضاءات الأبدان شذوذًا وانحرافًا.
هذا ويبقى البحث ناقصًا، وبحاجة إلى تتميم في مرحلة لاحقة، ضمن بحث آخر عن حقيقة كون الأبدان المتفاوتة بين الذّكورة والأنوثة تقتضي سنخًا خاصًّا من المشاعر والميول. وهذا السّؤال في الحقيقة، يرجع إلى النّظر في الوجود الإنسانيّ بكامله، وقد سبق أن أشرنا إلى مفتاحه في معرض الحديث.
لائحة المصادر والمراجع
- الشيخ حسن زاده آملي، سرح العيون في شرح العيون، بوستان كتاب، قم المقدسة- إيران، 1443، الطبعة التاسعة.
- صدر المتألهين الشيرازي، المظاهر الإلهية، بنياد حكمت إسلامي، طهران – إيران، 1378 هجري شمسي.
- صدر المتألهين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، نشر طليعه نور، قم المقدسة- إيران، 1440 هجري، 8.
[1] – الشيخ حسن زاده آملي، سرح العيون في شرح العيون، ص 257.
[2] – راجع: صدر المتألهين الشيرازي، المظاهر الإلهية، ص 90.
[3] – صدر المتألهين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ص 220 -221.
ي العلوم الإسلاميّة والعلوم الاجتماعيّة.
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…