الشّذوذ الجنسيّ وتهديد الأسرة
مريم علي منصور[1]
[1] – مدرّسة علومٍ دينيّةٍ في معهد سيّدة نساء العالمين (ع) الثّقافيّ، بيروت
إنّ الأزمات والتحدّيات الحاصلة؛ تهدّد كيان الأسرة في عصر العولمة؛ فهي متشعّبةٌ بتشعّب القنوات الفكريّة والثّقافيّة، ومتنوّعةٌ بتنوّع الحركات والجمعيّات والأفكار الرّائجة باسم الحريّة والتّحرّر. ولعلّ أكثرها جدلًا قضيّة الشّذوذ الجنسيّ الّتي عملت الدّول الغربيّة جاهدةً على تقنينه. لتوضيح الأمر؛ عمدنا إلى طرح التّساؤلات الآتية:
- ما موقف الإسلام من الشّذوذ الجنسيّ؟
- ما هي بعض الشّبهات المطروحة حول هذه القضيّة؟
- كيف يمكن أن يؤثّر في تهديد كيان الأسرة؟ وما دور الأسرة في المواجهة؟
لقد فطر الله -جلّ وعلا- البشر على مجموعةٍ من القابليّات والميول والغرائز؛ فلا يمكن للإنسان العيش متعافيًا إلّا بعد تلبية نداء الفطرة والسّنّة الإلهيّة: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا * فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا * لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ * ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[1]. لذلك؛ أيّ نظامٍ وضعيٍّ للبشر غير منسجمٍ ومتناغمٍ مع الفطرة؛ سيؤدّي إلى الفساد، ويصبح مصيره الفشل والضّياع والزّوال. ويقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾[2]؛ دلالةهذه الآية المباركة قد لا ترتبط بالقوّة العسكريّة فحسب؛ بل بأنواع الحروب النّفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والثّقافيّة جميعها. فكثيرة هي المفاهيم والمصطلحات والمسائل التي صاغتها ودعت إليها الحركات المنحرفة تحت عناوين برّاقة، جلبت الشّقاء للمرأة والرّجل على حدٍّ سواء.
إنّ قضيّة الشّذوذ الجنسيّ من أكثر القضايا الاجتماعيّة إثارةً للجدل في العصر الحديث؛ خاصّةً بعد أن “استقرّت الحكومات الغربيّة على تقنين الشّذوذ الجنسيّ وفرض احترام فاعليه وإدراج أيّ إنكارٍ له أو تنديدٍ به تحت بند جرائم الكراهيّة والتّمييز. وحذت حذوها العديد من المنظّمات والمؤسّسات الصّحيّة والنّفسيّة حول العالم، وبطبيعة الحال شهد العالم تحرّكًا موازيًا على مستوى القوانين”[3]. هذا التّحوّل المستغرب، من أمرٍ شاذٍّ واستثنائيٍّ إلى أمرٍ طبيعيٍّ وحقٍّ مشروعٍ ومعاقبة منكريه أيضًا، يؤثّر بشكلٍ سلبيٍّ وكارثيٍّ على قيمٍ ومفاهيم كثيرةٍ تتعلّق بهذا الشّأن؛ مثل مفهوم الزّواج والأسرة والأمومة والأبوّة والإنجاب والتّربية وغيرها. كما يشكّل فرضًا لرأي أقليّة الشّعوب على أغلبيّتها بما تبقّى عندها من وعيٍ وفطرةٍ سليمةٍ.
مهدّدات الأسرة في الرّؤية الإسلاميّة:
إنّ الأزمات التي بدأت تهدّد كيان الأسرة في العصر الرّاهن؛ كثيرةٌ ومتشعّبةٌ بتشعّب القنوات الفكريّة والثّقافيّة، ومتنوّعة بتنوّع الحركات والجمعيّات والأفكار الرّائجة باسم الحريّة والتّحرّر؛ فقد دخلت جهاتٌ مختلفةٌ في كثيرٍ من الخلافات الزّوجيّة والأسريّة التي كانت تُحلّ بالتّراضي، وتحكيم الأهل بين الزّوجين، كما يأمر القرآن الكريم. وهذه الأزمات تمثّلت بـ”التّرويج لبعض النّظريّات والاتّجاهات المتطرّفة في نظرتها إلى كيان الأسرة؛ مثل النّسويّة بنسخها المختلفة، وصولًا إلى تشريع الشّذوذ الجنسيّ ومحاولات التّقنين لهذه العلاقة، وتحويل طرفَيْها إلى أسرةٍ “أحاديّة الجنس””[4]. ولعلّ هذا التّهديد الأكثر إضرارًا بالأسرة؛ إذ يجعلها خيارًا بديلًا عن الأسرة الطّبيعيّة التي أرادها الله تعالى، والمعروفة منذ نشوء البشريّة. فما موقف الإسلام من الانحراف الجنسيّ؟ وما هي بعض الشّبهات المطروحة حول هذه القضيّة؟ وهل له علاقةٌ بتهديد كيان الأسرة؟ يعرّف الشّذوذ أنّه: “مخالفة المألوف والمعتاد. شذّ شذوذًا أي انفرد عن الجمهور وندر؛ فهو شاذّ. وشذَّ الرّجل اذا انفرد عن أصحابه، وكلّ شيء منفرد فهو شاذّ”. [5] إنّ الجنس غريزةٌ طبيعيٌّة تؤدّي دورًا مهمًّا في حياة الإنسان الشّخصيّة والاجتماعيّة؛ فعبرها يتمّ الارتباط وفاقًا لقانون الزّوجيّة بين قسمَي البشر -الذّكر والأنثى- للاستمتاع والاشتراك في بناء حياةٍ معيشيّةٍ هانئةٍ قائمةٍ على المودّة والرّحمة ولاستمرار التّكاثر والتّناسل وتنظيم العلاقات الاجتماعيّة.
يؤكّد القرآن الكريم ذلك بقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[6]. فالأنثى تدرك أنّها أنثى فطريًّا من دون أن يطرأ أيّ عاملٍ يخبرها بذلك، كذلك الذّكر. والله –عزّوجلّ- يقول في سورة اللّيل:﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾[7]، ليبيّن أنّ الاختلاف والتّباين في الوجود من أجل تكامل الموجودات؛ فالزّوجية نظامٌ شاملٌ. وقد خلق اللّه من كلّ زوجين اثنين؛ فلا معنىً للأشياء إلّا بأضدادها. كما أراد الله -سبحانه وتعالى- لفتنا إلى مسألة في غاية الأهميّة والدّقّة؛ وهي أنّ اختلاف اللّيل والنّهار تكاملٌ بينهما وليس تعاند، كلٌّ له دوره ووظيفته. كذلك اختلاف الزّوجين الذّكر والأنثى أيضًا؛ فهو تكاملٌ بينهما. كلٌّ له دوره بحسب قابليّته وإمكاناته المودعة؛ فهما يتكاملان بوجودهما معًا في كيان الأسرة المقدّس الذي حثّت عليه مختلف الشّرائع والأديان السّماويّة.
لقد أسّس القرآن الكريم قاعدةً عامّةً لإشباع الحاجة الجنسيّة عند الإنسان؛ يُفهم منها تقييد العلاقة بين الرّجل والمرأة في دائرة الزّواج الشّرعي بأشكاله المختلفة، وتحريم ما عداها، وذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ … فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾[8]. هذه الآية تمدح حفظ الإنسان فرجه، وتستثني العلاقة بين الزّوجين. وهنا كنايةٌ عن الانضباط في العلاقات الجنسيّة، واقتصارها على نمطٍ شرعيٍّ محدّدٍ، وما سواه يكون انحرافًا عن مقتضيات الفطرة وانتهاكًا لحدود الشّريعة. ثمّ تصف السّعي لتجاوز الحدّ بالبغي والعدوان؛ ما يعني أنّ ممارسة الغريزة خارج إطارها الطّبيعيّ بين الذّكر والأنثى مخالفةٌ للطّبيعة والمألوف. لذلك يُطلق عليه “شذوذٌ جنسيٌّ”. إذ يحرّم الدّين الإسلاميّ هذه الظّاهرة ويعاقب عليها، كما يرى هذا الموقف من مسلّمات الفقه الإسلاميّ، والأدلّة على ذلك كثيرةٌ وواضحةٌ.
نشير من آيات القرآن الكريم إلى أنّ أوّل مجتمعٍ انتشرت فيه هذه الظّاهرة السّيّئة هم قوم نبيّ اللَّه “لوط” -عليه السّلام- الذين نزل عليهم العقاب الإلهيّ بعد انتشار الفاحشة بينهم. ولم يكترثوا لتحذير نبيّهم؛ يقول تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾[9] . وقد تولّت الآيتان تبيان الفاحشة؛ وهي إتيان الرّجال شهوةً من دون النّساء. ولا تُخفى دلالة الآيتين على التّحريم والإدانة؛ خصوصًا مع نزول العقاب عليهم بسبب هذا الفعل. واسم “اللّواط” في اللّغة اللّاتينيّة “sodomy” قد اشتُقّ من اسم مدينة “سَدُوم” التي كان قوم لوطٍ يعيشون فيها؛ وهي تقع جنوب “البحر الميت” في “فلسطين”. لذلك؛ فالممارسة المحرّمة بين ذكرٍ ومثله تُسمّى “لِواط”، وبين أنثى ومثلها تُسمّى “سِحاق”، ويشير حديثٌ مرويٌّ عن الإمام جعفر الصّادق -عليه السّلام- إلى أنّ هذين العملين الشّاذّين كليهما؛ بدأا في قوم “لوطٍ”: “إنّ أوّل من عمل هذا العمل قوم لوطٍ، فاستغنى الرّجال بالرّجال؛ فبقي النّساء بغير رجالٍ؛ ففعلن كما فعل رجالهنّ”[10]. وكلاهما عملٌ محرّمٌ؛ عقوبته شديدةٌ في الدّنيا، وعذابه عظيمٌ في الآخرة.
يكفي أنّ الله –سبحانه وتعالى- أقرّ أنّ “اللّواط” فاحشة، ووصف المرتكبين له بقوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [11]، وفي آيةٍ أخرى ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾[12]. وعن المرأة المرتكبة لـ”السّحاق” يقول الإمام “جعفر الصّادق” (عليه السّلام): “ملعونةٌ ملعونةٌ؛ إنّ الله (تبارك وتعالى) والملائكة وأولياءه يلعنونهما، وهو والله الزّنا الأكبر[13].
أمّا في عصر العولمة؛ فقد قُنّنت أوضاع الشّواذّ وأصبحت حقوقهم خطًّا أحمر في الغرب بسبب رؤية الأنظمة الغربيّة للإنسان نفسه. تلك الرّؤية المادّية الأنانيّة لمفاهيم الحريّة والمنفعة واللّذة؛ ما يجعل الفرد متمحورًا حول نفسه فقط، ومقبلًا على ما يشبع احتياجاتها، بغضّ النّظر عن مصلحة الأسرة والمجتمع، ومن دون اهتمامٍ ببقاء الجنس البشريّ الذي يكفله الزّواج الطّبيعيّ التّقليديّ، ومن دون مراعاةٍ للدّين والفطرة والقيم. إضافةً إلى ماسبق؛ بما أنّ أغلب الشّعوب العربيّة تابعةٌ ومقهورةٌ، والمغلوب غير الواعي مولعٌ دومًا بتقليد غالبه في شعاره وأحواله، كما يقرّر “ابن خلدون” في مقدّمته. وبما أنّ الغرب وعلى رأسه “الولايات المتّحدة الأمريكيّة” يسعى إلى عولمة نموذجه الثّقافيّ والاجتماعيّ والاستهلاكيّ؛ فقد أيّد ودعم المنظّمات والهيئات والجهات المعنيّة بهذه الأفكار في محاولةٍ لنشر الشذّوذ في المجتمعات، والتّرويج له وتعميمه، وجعله معيارًا للحرّيّة الشّخصيّة.
تحريف المفاهيم والتّهديدات القيميّة:
بعد سيطرة لفظ “الشّواذّ” ومرادفاته ردحًا من الزمن؛ أصبح مستخدمه الآن يُّتّهم بالعنصريّة والتّحريض على الكراهية. إذ أصبحت مصطلحاتٌ مثل “المثليّين”؛ واجبٌ استعمالها. والمشكلة عندما تطرح الأنثويّة كلماتٍ مثل: “جندر” بدلًا من “رجلٍ وامرأةٍ” لوصف العلاقة بين الجنسين، وكلمة “فمينيزم” (feminism) للتّعبير عن حركة النّساء. فالمتغيّر ليس مجرّد حروفٍ وكلماتٍ؛ بل مضامينٌ وثقافةٌ وفكرٌ وقيمٌ. فهناك العديد من التّغيّرات المفاهيميّة التي تفرضها “الجندرة” وتطبيع الشّذوذ وتقنينه؛ يمكننا تناول بعضها في هذه المقالة:
- الأمومة: تأخذ الأمومة حيّزًا كبيرًا عند “الجندريّين”، إذ تقول الكاتبة الفرنسيّة “سيمون دي بوفوار”: “إنَّ الأمومة خُرافةٌ، ولا يوجد هناك غريزةٌ للأمومة؛ إنّما ثقافة المجتمع تصنعها؛ لهذا نجد أنَّ الأمومة وظيفةٌ اجتماعيّةٌ”. وقولها هذا ولّد مصطلحًا جديدًا؛ هو “الصّحّة الإنجابيّة” الهادف إلى معالجة الإشكاليّات النّاتجة عن وظيفة المرأة بوصفها أمًّا على مستوى الإنجاب، والتي قد تقف عائقًا أمام ممارستها لدَوْرها “الجندريّ” المساوي لدور الرّجل. مِن هذه الإشكاليّات أيضًا؛ الحمل والرَّضاعة، وغيرها من الوظائف الفيزيولوجيّة للمرأة. انطلاقًا ممّا ذُكر؛ فلها الأحقيّة المطلقة في الإجهاض، والتصرّف في جسدها كيفما تشاء.
- شكل الأسرة: وفاقًا لمفهوم “الجندر” ولكتاب “الأسرة وتحدّيات المستقبل” من مطبوعات الأمم المتّحدة؛ فإنَّ الأسرة يمكن تصنيفها إلى اثني عشر شكلًا ونمطًا. منها؛ أُسر الجنس الواحد -أيّ أُسر الشّواذ- وتشمل أيضًا النّساء والرّجال الذين يعيشون معًا من دون زواجٍ، والنّساء اللّواتي ينجبن الأطفال سفاحًا ويحتفظن بهم وينفقن عليهم؛ ويطلق على هذا التّشكيل اسم “الأسرة ذات العائل المنفرد”، وتسمّى الأمّ بـ”الأمّ المعيلة”. وهذا التغيّر في شكل الأسرة، يعني ضمن النّسق الجندري، تغيير الأنماط الوظيفيّة المعهودة للأب والأمّ في الأسرة.
فالتّهديد الحقيقيّ يتمثّل في تحوّل العلاقة الشاذّة إلى خيارٍ بديلٍ لتأسيس أسرةٍ يسير كلّ شيء فيها على خلاف الطّبيعة؛ بدءًا من العلاقة بين الطّرفين إلى المسؤوليّة عن الأبناء وانتسابهم إلى هذا الطّرف أو ذاك، وصولًا إلى عيشهم في بيئةٍ تترك أثرها على توجيههم الجنسيّ. ومن الممكن أن تؤدّي إلى خللٍ كبيرٍ له تبعاتٌ إنسانيّةٌ خطيرةٌ على أجيالٍ متعاقبةٍ؛ قد تكون ضحيّةً لهذه الخيارات الخاطئة.
- الصّراع بين الجنسين: “يترتّب على مفهوم ” الجندر” إظهار العداء بين الجنسين؛ أنّهما متناقضان ومتنافران. كما جاء في أوراق “المؤتمر الدّوليّ لتحدّيات الدّراسات النّسويّة” في القرن الواحد والعشرين الذي نظّمه “مركز البحوث التّطبيقيّة والدّراسات النّسويّة” في “جامعة صنعاء” في “اليمن”. وعليه؛ يُزجّ بالجنسين في صراع إثبات الذّات بشكلٍ فرديٍّ متمحورٍ حولها”.[14]
تسعى المنظّمات الدّوليّة إلى فرض رؤيتها المتعلّقة بالمصطلح في أوساط المؤسّسات النّسويّة العربيّة، مع أن ّالمجتمع العربيّ حمّال أنساقٍ اجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ وحضاريّةٍ مختلفةٍ. وانتشار هذا المفهوم بين الأفراد وداخل المنظّمات النّسويّة وغيرها من دون وعي؛ يشكّل تهديدًا حقيقيًّا للمجتمع العربي الذي يعتمد الأسرة بشكلها الأوحد، ولوظائف أفرادها الفطريّة نواةً متماسكةً حاملةً له. ما ينذر بمخاطر تفكيك الأسرة التي تشكّل آخر الحصون، والتي يتفاخر بها المسلمون أمام الغربيّين. إضافةً إلى إحداث هوَّةٍ بين الجنسين؛ لتقوم العلاقات بينهما على التّناقض والتّصادم بدلًا من التّكامل وفهم كلّ جنسٍ لخصائصه وقدراته وتكليفه الإلهيّ.
تزداد الخطورة عندما نتحدّث عن مجتمعٍ إسلاميٍّ قد لا يقبل هذه الظّاهرة حاليًّا؛ لكن مقابل الوضوح الذي ينطلق منه الموقف الشّرعيّ من الشّذوذ، نجد أنّ أصواتًا غربيّةً بدأت أصداؤها تتردّد في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، تطالب بتغيير الموقف من هذه الظّاهرة، وتعلن بأشكالٍ مختلفةٍ أنّ الشّذوذ حقٌّ من الحقوق الواجب حمايتها. لذلك؛ لا بدّ من السّعي الحثيث وبذل الجهد لمواجهة هذه الموجة من التّحريفات، وتبيين الحقائق الإنسانيّة والشّرعيّة بشتّى الوسائل والأساليب المناسبة؛ لحماية الفرد والأسرة والمجتمع.
ما هي الوسائل المناسبة للمواجهة؟
يبقى دور الأسرة المحور الأساسيّ والجوهريّ في مواجهة هذا التّهديد، انطلاقًا من وعي الأمّ والأب لكلّ ما يدور في العالم من متغيّراتٍ وتحدّياتٍ، واتّباع مجموعةٍ من الخطوات التّربويّة؛ نذكر منها:
– أهميّة التّثقيف الجنسيّ الأخلاقيّ والطّبيّ والدّينيّ المناسب لمراحل الأبناء العمريّة وقدراتهم المعرفيّة، والاهتمام بالبيئة المحيطة بهم؛ خاصّةً مع غياب دراساتٍ بحثيّةٍ حول مواطن الخلل المتعلّقة بالتّوعية الجنسيّة، وببعض الممارسات الخاطئة في المجتمع في كيفيّة التّعامل مع الأطفال. كما المبالغة بثقافة “العيب” من دون توعيةٍ؛ مخافة الخوض الخاطئ في مفهوم التّربية الجنسيّة.
– نشر التّوعية حول مشكلة الشّذوذ، وحقيقتها وأسبابها وأعراضها وأخطارها، وتأثيراتها في الشّخص المصاب بها ومن حوله من أفراد الأسرة والمجتمع. كما توفير الأمان الحقيقيّ داخل البيت؛ تحديدًا في مرحلة المراهقة والبلوغ، لتفعيل الحوار والمباحثة بين الآباء والأبناء والإجابة عن تساؤلاتهم المختلفة؛ كي لا يحاولوا اللّجوء إلى وسائل أخرى غير آمنةٍ للحصول على الإجابات؛ مع الالتفات إلى دور بعض الوسائل الإعلاميّة والإلكترونيّة في إظهار الممارسات المنحرفة في ظلّ غياب الرّقابة والتّوعية الأسرية تجاهها، وانشغال كلٍّ من الوالدين بعمله خارج البيت.
– تأمين الجوّ الأسريّ المتماسك المفعم بالمودّة والرّحمة والتّفاهم والتّعاون؛ لتفعيل دور الوالدين في توجيه وإرشاد الأبناء؛ خاصّة دور الأبّ الذي ينبغي أن لا يكون مهمَّشًا، ولا يُعامل زوجته وأولاده بالعنف والقسوة في الوقت عينه؛ لأنّ تواجده وتصرّفه السّليم مهمٌّ لتماهي الذّكور معه. كذلك؛ وجود الأمّ ضروريٌّ لتماهي الإناث معها. فالطّفل يرى عالمه بحسب الحياة التي نشأ فيها؛ ما يُشكّل البذرة الأولى في تشكيل طبيعته الجنسيّة.
– تشجيع الأبناء على الاستفادة من أوقات الفراغ؛ مثل ممارسة التّمارين الرّياضيّة عمومًا، أو الانشغال بالقراءة وتطوير المهارات والهوايات، أو القيام بالنّشاطات الثّقافيّة والاجتماعيّة والفنيّة والتّرفيهيّة التي تعود عليهم بالنّفع. إضافةً إلى الابتعاد عن المثيرات الجنسيّة المختلفة، وعن أصدقاء السّوء الذين قد يوقعونهم في الانحرافات؛ بل والعمل على مساعدتهم في اختيار أصدقائهم والرّعاية المستمرّة لمشاكلهم، وإن كانت بشكلٍ غير مباشرٍ، وإشراكهم في اتّخاذ القرارات الأسريّة، وتبنّي آرائهم الصّائبة أيضًا لتعويدهم على تحمّل المسؤوليّة؛ كلٌّ منهم بحسب طبيعته وطاقاته.
– أمّا على صعيد المجتمع؛ فلا بدّ من السّعي الجادّ لتبيين خطر الشّذوذ الجنسيّ على الأفراد والمجتمعات، والحثّ على الزّواج الشّرعيّ ومساعدة الشّباب. ويجب أن يكون الاهتمام على مستوى الأسرة والمسجد والجامعة ووسائل الإعلام المختلفة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ. كما تبرز ضرورة الرّدود المتخصّصة والمنظَّمة على الأفكار الدّاعية، من وقتٍ لآخر، إلى إباحة الشّذوذ الجنسيّ وحماية الشّاذّين والمتابعة المستمرّة للتّحذير من الجمعيّات ومنظّمات المجتمع المدنيّ ووسائل الإعلام التي تتبنّى هذه الدّعوات تحت مسمّى “حقوق الإنسان” و”التّقدّم” و”الدّيمقراطيّة”، وغير ذلك من الشّعارات.
– توجيه أفراد المجتمع عامّة، وتربية النّاشئة خاصّة على المفاهيم القرآنيّة والقيم الإسلاميّة؛ كونها القيم الوحيدة القادرة على حماية الإنسانيّة، في ظلّ انفلاتٍ قيميٍّ واسعٍ، في شتّى بلدان العالم على مستوى البناء. إذ إنّ الانفلات المجتمعيّ من شأنه إيصال البشريّة إلى الهاوية؛ بسبب اتّباع التّشريعات القائمة على أهواءٍ بشريّةٍ مختلفةٍ ومتجدّدةٍ. على عكس القيم الإسلاميّة الثّابتة المبيّنة في القرآن الكريم وسنّة النبيّ وأهل البيت (صلوات الله عليهم) التي تحافظ على الفرد والأسرة والمجتمع، وتضع ضوابط للحرّية، وتتعامل بحسمٍ مع أيّ تهديدٍ لاستمرار الحياة الإنسانيّة وإعمار الأرض، كما تضع حدًّا لشهوات الإنسان؛ كي لا تؤدّي إلى هلاكه، وصرفه عن الغايات الكبرى.
– اهتمام الهيئات التّشريعيّة في الدّول الإسلاميّة؛ بالتقدّم في مشاريع قوانينٍ تواجه الشّذوذ الجنسيّ، ومنع كلّ ما يشجّع عليه أو يدعو إلى إباحته أو يناصر ما يسمّى “حقوق المثليّين”. مع حملةٍ موازيةٍ من العلماء والمثقّفين لبيان مفهوم الحريّة الصّحيح من وجهة النّظر الإسلاميّة. فالجميع متّفقٌ على تجريم القتل والسّرقة مثلًا؛ لأنّها تضرّ الآخرين، لكن لم يعترفوا بأنّ هذا الشّذوذ ضدّ الحرّيّة ويضرّ الآخرين، ويؤدّي إلى تدمير المجتمع، إضافةً إلى تحريمه قطعًا في الشّريعة الإسلاميّة وجميع الشّرائع الأخرى.
خلاصة الكلام؛ نستنتج أنّ أسرنا الإسلاميّة ما تزال ترفض الانحرافات وتستنكرها؛ لكنّ الوقاية خيرٌ من العلاج، ووأد المخاطر في مهدها أمرٌ واجبٌ؛ فالأسرة الواعية هي الكهف الأساسيّ في مواجهة هذا التّهديد بالتّعاون مع مختلف شرائح المجتمع؛ لأنّ السّكوت وعدم المواجهة بكلّ وسيلةٍ متاحةٍ قد يوصلنا إلى الكارثة على مستوى النّظام القيميّ والتّربويّ في مجتمعنا.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الشّذوذ الجنسيّ يدمّر المجتمعات؛ فهو يُبيد الجنس البشريّ ويهدم أركان الأسرة ويخرّب جميع القواعد التي بُنيت عليها. وقد جاء الإسلام لتحقيق مقاصد إنسانيّةٍ منها “حفظ النّسل” الذي لا يتمّ إلّا عن طريق الزّواج الطّبيعيّ. فاللّه (عزّ وجلّ) أحكم الخلق وأتمّه، وأنزل التّشريع وأكمله؛ فهو الإله الخالق والمدبّر لشؤون المخلوقات، العالمُ بمصلحة الحياة الإنسانيّة. كذلك النّظام الاجتماعيّ في الإسلام؛ نظامٌ ربانيٌّ بكلّيّاته وجزئيّاته. فقد شُرّع فيه جوانب الخير كلّها في الحقوق والواجبات والآداب؛ فالذّكر والأنثى كلٌّ له وظيفةٌ ورسالةٌ محدّدةٌ؛ إذ تقوم حياتهما على التّكامل وليس الصّراع.
إنّ الخطر الأكبر في أسرنا ومجتمعاتنا يتمثّل في معركة الوعي؛ لذلك ينبغي إعادة التّأصيل الإسلاميّ للكثير من المفاهيم والمسائل التي يُعمل على تشويهها لإبعاد الناس عن الدّين. ولا بدّ من إدراك وتوضيح هذه الأمور وإظهارهاعلى حقيقتها؛ ليسهّل على الناس الحكم عليها؛ إمّا بوازع الدّين النّاصح لهم، أو بوازع الفطرة السّويّة التي خلق الله (سبحانه وتعالى) النّاس عليها، والله وليّ التّوفيق.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- محمّد خامنئي، فلسفة الأنوثة مقدّمةٌ لحقوق المرأة في الإسلام، ترجمة حيدر نجف، ط 1، بيروت، دار المعارف الحكميّة، 2015.
- مجيد دهقان، مجيد، المرأة في لغة القرآن: دراسة جنوسيّة، ترجمة أحمد حسين بكر، ط 1، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2019.
- رؤيا للبحوث والدّراسات، محاولات هدم الأسرة والمجتمع (الشّذوذ نموذجًا)، مقالٌ إلكترونيٌّ: https://ruyaa.cc/Page/8668
- محمّد حسن زراقط، مهدّدات الأسرة في الرّؤية الإسلاميّة (الشّذوذ نموذجاً)، مجلّة بقيّة الله، بيروت، السّنة الواحدة والثّلاثون، العـــــدد 369.
- الصفّار، حسن، الشّذوذ الجنسيّ وتحريم التّزاوج، 2 / 5 / 2001، https://www.saffar.org/?act=artc&id=943
- عثمان، نزار محمّد، الاتّفاقات الدّوليّة وأثرها على المجتمعات، رابطٌ إلكترونيٌّ: www.saaid.net/Doat/nizar/1.htm
- الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، ط 1، دار الحديث للطباعة والنشر، ج 5، باب السحق، لا تاريخ، مكتبة مدرسة الفقاهة للكتب الإلكترونية: https://ar.lib.eshia.ir/11005/5/552
[2] – سورة الأنفال، الآية 60.
[3] – معتز ظاهر، محاولات هدم الأسرة والمجتمع (الشذوذ نموذجًا)، رؤيا للبحوث والدراسات، مقالة إلكترونية: https://ruyaa.cc/Page/8668
[4] – محمد حسن زراقط، مهدّدات الأسرة في الرؤية الإسلاميّة، مجلة بقية الله، السنة الواحدة والثلاثون، العـــــدد 369 ، رابط إلكتروني: https://baqiatollah.net/article.php?id=11367
[5] – حسن الصفار، الشذوذ الجنسي وتحريم التزاوج، مقالة إلكترونية: https://www.saffar.org/?act=artc&id=943
[6] -سورة الرّوم، الآية 21.
[7] – سورة اللّيل، الآيات 1-2-3-4.
[8] – سورة المؤمنون، الآيات 5-6-7.
[9] -سورة الأعراف، الآيتان 80-81.
11- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج5، باب السحق، ص552.
[11] – سورة الأعراف، الأية 81.
[12] -سورة الشّعراء، الآية 166.
[13] – محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج5، باب السحق، ص552.
[14]– للمزيد حول دور الأمم المتحدة، ينظر: نزار محمد عثمان، الاتفاقات الدولية وأثرها على المجتمعات، رابط إلكتروني: www.saaid.net/Doat/nizar/1.htm
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…