تساؤلاتٌ في حضرة المرأة لتمكينها
د. أحمد الشّامي[1]
[1] – أستاذ حوزوي وجامعي.
يلحظ المتابع لمسار قضايا المرأة وتمكينها، لاسيّما في العقود الأخيرة، كم يثير في حراكه المتصاعد من إشكاليّاتٍ وموضوعاتٍ جدليّةٍ على المستويين العالميّ والإسلاميّ، بأبعادٍ نسويّةٍ أو غيرها. لذلك؛ يجدر التّسليم بما أحدثه هذا الحراك من نقلةٍ نوعيّةٍ عالميّةٍ في مقاربة هذه القضيّة الإنسانيّة المُحقّة. فمن لا يدعم إحقاق المرأة وإنصافها ليس عاقلًا؛ كونها نصف المجتمع والمعنيّة بصناعة النّصف الآخر. وكم كان الإمام الخمينيّ –قده- موفّقًا في تشخيصه المميّز لمكانتها حين جعلها إلى جانب القرآن (الرّسالة) في مهمّة صناعة الإنسان (الخليفة). تاليًا؛ إنّ تمكينها أمرٌ لازمٌ وبديهيٌّ لتأدية تكليفها الإلهيّ على أكمل وجه.
نشير إلى جملةٍ من الموضوعات جعلت من مسألة تمكين المرأة تأخذ بعدها الإشكاليّ، والتي يجدر عدم تجاوزها في سياق تفعيل النّقاش الموضوعيّ والهادئ. بحثًا عن مساحةٍ مشتركةٍ تلتقي فيها النّيّات الصّادقة للأخذ بالوعي البشريّ، على مدى المعمورة، نحو التّحرّر من موروثاتٍ خاطئةٍ من جهة، ومن أدبيّاتٍ انفعاليّةٍ وقاصرةٍ من جهةٍ أخرى. ذلك لما يحدثه كلٌّ منهما من إرهاقٍ للمجتمعات، وإعاقتها عن سيرها التّطوريّ نحو عالمٍ يخلو من الظّلم وتسوده العدالة.
كما نبيّن تصويب هذه المقالة نحو ثلاثٍ من الإشكاليّات المتعدّدة التي تُطرح في هذا المجال، والتي تشكّل أخطاءً كبرى تُرتكب تحت لافتة الأدبيّات العالميّة لتمكين المرأة؛ فقد حُرّفت القضيّة عن هدفها الإنسانيّ، ما اقتضى لزوم تصويبها؛ للتّأسيس لهذه المساحة المشتركة من التّلاقي بين ذوي النيّات الصّادقة لخير المرأة والحياة.
الخطأ الأوّل: يبدو جليًّا حينما بدأت تحفر أدبيّات التّمكين المطروحة عالميًّا في وعي المرأة؛ تحديدًا عن طريق تنميط علاقتها بالدّين بين حديّ الالتباس والعدائيّة. فالله الخالق- بحسب هذه الأدبيّات- هو من أسّس للتّمييز الجنسيّ حين جعل المرأة في رتبةٍ دونيّةٍ من الرّجل، وإنّ فرض التّشريعات عليها ليس لصلاحها؛ إنّما لصلاح الرّجل ومنفعته.
صحيح أنّ تلك الأدبيّات استعانت بوقائع من التّاريخ ومن أفكارٍ انحرافيّةٍ تضليليّةٍ؛ ما يزال بعض المعتدين على الدّين (بتنصيب أنفسهم زورًا رجالاته)؛ يعملون على تأكيدها بوصفها حقائق. لكنّ الذي يفرض نفسه هنا؛ أنّه فيما ينبري رجال فقهٍ وفكرٍ صالحون- وما أكثرهم- لتبييّن عدم صلة هذه الأفكار والسّلوكيّات بالدّين؛ كما يُلاحظ حجم الإصرار على تظهير دعاة الفكر الانحرافيّ بتوفير المنابر ومنصّات الميديا لهم، مقابل العمل على تهميش دعاة الإصلاح والتّنوير ومحاصرتهم.
الخطأ الثّاني: حينما راحت تلك الأدبيّات تحفر في وعي المرأة عبر تنميط علاقتها بالرّجل على مستوى عالٍ من النديّة؛ كأنّ الحياة ساحة صراعٍ لا تكامل بين جنسي النّوع البشريّ ذهبت تلك الأدبيّات لتسخيف الحقائق الطبيعيّة التّكوينيّة المتعلّقة بحتميّة الالتقاء البيولوجي لاستمرار الحياة؛ كما الالتقاء الرّوحيّ والنّفسيّ لبناء الإنسان السّويّ الفاعل، ثمّ تنزيلها إلى رتبة الموروثات الاجتماعيّة الواجب تجاوزها. لم يكتفِ الدّعاة بالاستعانة بأفكارٍ وسلوكيّاتٍ خاطئةٍ ليست لها صلة بالطّبيعة والإنسانيّة وفطرتها، وإن كان لها جذورٌ عميقةٌ في الوعي الجمعيّ؛ بل ذهبوا إلى التّمرد على الطّبيعة الإنسانيّة نفسها؛ مستعينين بالمسار التّصاعديّ الذي سلكته البشريّة حين راحت تطوّع الطّبيعة لما يعود بالمنفعة على الإنسان عمومًا.
بذلك؛ تكمن المسألة الجوهريّة في التّحديد الدّقيق لمنفعة الإنسان؛ فعندما راحت تصوّب نحو أهميّة تحقيق فرديّته وتعزيزها في الحياة؛ صار من الضّروري تزاحم كلٍّ من الرّجل والمرأة في توفير ما يعود بالنّفع على أيٍّ منهما بمعزلٍ عن الآخر. ولو بلغ بينهما حدّ الصّراع إحداث تصدّعاتٍ في البنى الاجتماعيّة (الأسرة نموذج أساس)، والذي بدوره أصاب البنى النّفسيّة باعتلالاتٍ ظواهرها أكثر وضوحًا وإيلامًا.
الخطأ الثّالث: إنّ القضايا التي حظيت- وما تزال تحظى- بدعمٍ من منظّمة الأمم المتّحدة واهتماماتها عندما أوكل إليها مهمّة عولمة وقوننة الأدبيّات الغربيّة حول تمكين المرأة؛ كالتي حظيت به مسألة المساواة الكليّة بين المرأة والرّجل. بذلك؛ أُدخل مطلب إنصاف المرأة وتمكينها بوصفه مطلبًا إنسانيًّا جامعًا في بازار الصّراع الثّقافيّ عن طريق الاستعانة بالغلبة السّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة.
إضافةً إلى ذلك؛ من السّذاجة تجاوز الحقيقة أو تغافلها حول نشوء هذه المنظّمة عقب انتهاء الحرب العالميّة الثّانية[1]؛ فقد عكست أهدافها وسياساتها ما خرجت به الحرب من توازناتٍ على مستوى العالم. إذ راحت تعمل على إخراج الأدبيّات، وليدة المجتمع الغربيّ وظروفه، من نطاقها الجغرافيّ المحدّد إلى النّطاق العالميّ، بهدف عولمة قيمها ومبادئها ومطالبها([2]).
إنّ إطلاق هذه المنظّمة إعلان ميثاقٍ أمميٍّ عن مبدأ المساواة الكليّة بين الجنسين، بوصفه حقًّا أساسًا من حقوق الإنسان[3] ليس صدفةً بعد مرور بضعة أشهرٍ على ولادتها؛ فهي منذئذٍ تجهد لوضع استراتيجيّاتٍ ومعايير وبرامج تحت لافتة تمكين المرأة ([4]) ؛ بهدف فرض رؤيةٍ ثقافيّةٍ معيّنةٍ غير آبهةٍ بالثّقافات الأخرى.
تسوّغ هذه الانحرافات مشروعيّة طرح جملةٍ من علامات الاستفهام:
- أيّ مصلحةٍ للمرأة وللمجتمع في تعميق العلاقة الملتبسة بالدّين؟
- – أليس تحرير الدّين من بعض الموروثات عامل قوّةٍ ودعمٍ لمطلب تدعيم مكانة المرأة؟ إلّا إذا كان بعضهم يستحسن بقاء هذه العلاقة الملتبسة؛ لا لأجل صلاح المرأة وخيرها؛ إنّما لموقفٍ راديكاليٍّ من الدّين ذاته.
- – ألا يمثّل أخذ المرأة نحو علاقةٍ نديّةٍ مع الرّجل الوجه الآخر للنّزعة الذّكوريّة المتطرّفة؟
- – لماذا الإصرار على استبعاد منحى العلاقة التّكامليّة بين الرّجل والمرأة؟
- أخيراً، كيف يمكن تنعيم المرأة بالاستقرار وهي تشكّل قضيّةً خلافيّةً وسط هذا الاحتدام المتنامي عالميًّا على جبهاته الثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة؟
[1]– 25 نيسان 1945.
[2]– هذه الأدبيّات انعكاسٌ للحداثة الغربيّة (اللّيبراليّة) القائمة على أساس الحريّة المطلقة والمساواة التّماثليّة التي نادت بها الثّورة الفرنسيّة، والثّورة الأمريكيّة في القرن الثّامن عشر، وقام على أساسها النّظام العالميّ المعاصر(الأمم المتّحدة).
[3]– 24 تشرين الأوّل 1945.
[4] – في العام 1945، بعد الحرب العالميّة الثّانية مباشرةً، نشأت أوّل هيئةٍ دوليّةٍ معنيّةٍ بقضايا المرأة تحت اسم “لجنة الأمم المتّحدة المعنيّة بوضع المرأة”، وهي لجنةٌ فنيّةٌ تابعةٌ لـ”المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ” لـ”الأمم المتّحدة”. وقد تضمّنت المواد الأولى لدستور الهيئة وميثاقها الذي كتب في “سان فرانسيسكو” بتاريخ السّادس والعشرين من حزيران في العام 1945: “التّأكيد على مبدأ المساواة بين الرّجال والنّساء في الحقوق، وتحوّل اسمها بموجب قرارٍ صادرٍ عن “الأمم المتّحدة” في شهر تمّوز 2010، وأصبح ساري المفعول بتاريخ الأوّل من كانون الثّاني في العام 2011 تحت اسم “هيئة الأمم المتّحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة” وتعرف قانونًا بـاسم “هيئة الأمم المتّحدة للمرأة”.