الاختياريّة في الزّواج المدنيّ … تمويه أم حقيقة؟
أ. هاني إبراهيم[1]
[1]– محامي بالاستئناف، إستشارات قانونيّة -تحكيم.
مقدّمة
كان الزّواج المدنيّ، وما يزال، مادة سجاليّة ذات منحى متعدد الوجوه من اجتماعيّ وشرعيّ إلى قانونيّ؛ إذ يُثار حولها كثير من الضّجيج عند ذكرها، ويرسم حولها العديد من التّساؤلات والإشكاليّات الشرعيّة الدّينية تارة، والقانونيّة القضائيّة تارة أخرى، ما جعل منها مسألة لا تنتهي بوقت معيّن؛ بل تستمر مع كلّ جيل جديد. فكثيرة هي العناوين ومتعدّدة هي التّوصيفات التي أعطت لهذا النّوع من الزّواج لا سيما في المجتمعات التي ما تزال تطبق في مسائل الأحوال الشّخصيّة الشرائع السّماويّة، سواء الإسلاميّة منها أو المسيحيّة أو غير ذلك.
لعلّ من أبرز العناوين التي طرحت بهدف إزالة البعد الإلزاميّ للزّواج وفرضه مباشرة، هو ترك المجال مفتوحًا أمام من يرغب بالزّواج على الطّريقة المدنيّة- إذا صحّ التّعبير- بما أسموه مبدأ الاختياريّة. وذلك في محاولة للدخول، وبشكل ناعم، في قوننة هذا الزّواج وشرعنته وعدم معارضة الهيئات الدّينيّة والشرعيّة له. بعضهم رأى “الزّواج الاختياريّ” جذابًا، وبعضهم الأخر توقف مليًا لأسباب ومعايير عديدة لها علاقة بالشّكل من جهة وبالأساس والمضمون من جهة أخرى، في محاولة لافتة في هذا الإطار توهم المتلقّي بأنّ المسألة أصبحت اختياريّة وليست الزاميّة. فمن يود ذلك يمكنه المبادرة من دون أي أعباء أو متطّلبات. وهنا تكمن المشكلة، ومن لا يودّ ذلك فله الحرّيّة، وهذا ما سنتناوله في ورقتنا البحثيّة.
ماهية الزّواج المدنيّ موضوع ورقتنا
هو عقد شأنه شأن باقي العقود المدنيّة لجهة ضرورة توافر الشّروط الأساسيّة فيه، وأهمها الرضا والقبول المتبادل، إلَّا أنّ موضوعه يختلف بطبيعة الحال والعنوان. فهو يهدف إلى إقامة حياة زوجيّة مشتركة بين زوجين (رجل وامرأة) وتوافر حكم شرط الأهليّة العمريّة؛ أي أن يكون الطرفان بالغين. وذهبت العديد من الدّول الغربيّة إلى السير بالزّواج المدنيّ، فسلك بعضها الطّريقة الإلزاميّة، فيما جنح بعضها الآخر نحو الاختيار في هذا الإطار. وعليه، يُعدّ الزّواج المدنيّ إلزاميًّا في سويسرا وبلجيكا وفرنسا، فيما هو اختياري في أمريكا وإسبانيا على سبيل المثال لا الحصر. و لكن ماذا عن لبنان ؟…
إنّ للزّواج المدنيّ في لبنان تاريخ طويل ما بين مدّ وجزر. وإذا ما أردنا الغوص في تفاصيل هذه المسألة؛ نرى بأنّ الحديث حول هذا النّوع من الزّواج بدأ حتى ما قبل دولة لبنان الكبير في ظلّ الاحنلال الفرنسيّ، وتحديدًا في عهد المفوض السّاميّ “هنري دوجوفينيل”، وذلك في العام 1910، حين نشرت صحيفة «البرق» استفتاءً عن الزّواج المدنيّ خارج إطار السّلطات الدّينيّة. لكنّ الخطوة الرّسميّة الأولى، في هذا الإطار، كانت عندما أعدّت نقابة المحامين دراسةً على شكل مشروع عُرض في حينه على مجلس الوزراء، وذلك في العام 1951. أما المحطة الأحدث كانت في عهد الرئيس “إلياس الهرواي”، والذي قدّم طرحًا حول الزّواج المدنيّ الاختياريّ، نال 21 صوتُا من أصل 30 وزيرًا، لكنّه لم يوضع على طاولة المجلس التّشريعيّ، وذلك في العام 1998 .
بعد هذا التّاريخ وقبله حصلت محاولات عديدة هدفت إلى تمرير هذا المشروع، إلاَّ أنّها باءت جميعها بالفشل، وتحطّمت أحلام هؤلاء على جدران المجلس النيابيّ أكثر من مرّة. إذًا الكلّ متفق بأنّه ليس هناك قانون يجيز عقد الزّواج المدنيّ على الأراضي اللّبنانيّة حتى الأن، لكن ماذا عن العقود التي تمّت خارج الأراضيّ اللّبنانيّة لأشخاص لبنانيين ؟!!
جاء القانون اللبنانيّ هنا ليقول الآتي : يعترف القانون اللبنانيّ بالزّواج المدنيّ المنعقد خارج الأراضيّ اللّبنانيّة، وذلك بحسب المادة 25 من القرار رقم 60 ل.ر. وهذا يُعدّ من الناحية القانونيّة هو زواج معترف فيه، ولا يُعدّ مخالفًا للنظام العام بكلّ اتجاهاته فقط، فهو عقد كسائر العقود.
مبدأ الاختياري والقبول
ولكن السّؤال الذي يطرح نفسه في هذه النقطة؛ وهي :
- هل يمكن أن تكون اختياريّة الزّواج المدنيّ سببًا لقبوله ؟
ذهب مطلقو فكرة هذا الزّواج إلى الدّخول من باب الاختياريّة وليس الإلزاميّة، في محاولة لفسح المجال أمام من يعترض على هذا النّوع من الزّواج أن يسلك الطريق الدينيّ، وأمام من يرغب به فالطريق سالكة أمامه. وهذا أسلوب لفتح المجال أم هذا الزّواج في أن يسلك طريقه في المجتمعات. وهنا؛ بدأت المشكلة المغطاة بثوب رقيق من الحرّيّة، في ما الفرض والإجبار متغلغل في ثناياه.
استند أصحاب هذا المشروع، في طرحهم ومناداتهم، إلى سلوك مسلك الدّول التي أخذت به، وأنّ لبنان يعتمد مبدأ حرّيّة الزّواج. وذلك من خلال ما قد ضمنه الدّستور اللبنانيّ في مقدّمته، وهو حرية المعتقد والممارسة، لا سيما الفقرة (ج)، وكذلك الأمر في المادة السّابعة والتّاسعة منه؛ حيث الكلام على “تمتّع الجميع بحقوقهم المدنيّة من جهة، واحترام “حرّيّة الاعتقاد المطلقة” مع ضمان احترام نظام الأحوال الشّخصيّة من جهة أخرى. لم يقف الأمر عند هذا الحدّ؛ فـــ”لبنان” قد سبق له وأن وقّع على “شرعة حقوق الإنسان” من جهة، كما والتزم بعدد من المواثيق الدّوليّة التي تسمح بالزّواج المدنيّ وحرّيّة المعتقد والأرتباط، من جهة أخرى. ولعلّ أهمّها ميثاق هيئة الأمم الذي انضمّ إليه لبنان، في العام 1945، وغيرها العديد من المعاهدات الدّوليّة.
في هذا السيّاق؛ تبرز الإشكاليّة التي من الممكن ألا يلتفت لها الشّبان والشّابات الذين غُرّر بهم، ولُمّعت لهم صورة الزّواج المدنيّ في مقابل الزّواج الدّينيّ، وإظهار مشكلات هذا الأخير وتعقيداته. وهذه المشكلة تقوم على أنّ الاختياريّة في الزّواج المدنيّ هي اختياريّة من حيث المبدأ، وليس الاستمرار ما يعني أنّ الطرفين يستطيعان اللّجوء إلى هذا الزّواج بملء إرادتهما. ومن اللّحظة التي يبدأ فيها يصبحان ملزمين بكلّ تفاصيل هذه العقد وتوجيهاته لجهة الأولاد والطّلاق والإرث، وغيرها.. وليس في الأمر أي اختيار هنا، إذ تنعدم الاختياريّة في هذا المجال، وهو ما عبّر عنه أكثر من مرجعيّة، فقد صدر عن هيئة التّبليغ في المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى بيانًا جاء فيه بأنّ: “اعتماد عنوان الزّواج المدنيّ يموّه حقيقة أنّ المشروع هو نظام أحوال شخصيّة متكامل لا يقف عند حدود عقد الزّواج، كما أنّ الوصف بالاختياريّ يهدف إلى تمويه حقيقة أنّ الاختيار المتاح ابتداءً لا يستتبع الاختيار استمرارًا”.
ولكن ماذا يعني هذا ؟
إنّ لذلك تبعات اجتماعيّة وقانونيّة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، يصبح المتعاقدان في هذه الحال ملزمين وخاضعين للنظام الحقوقيّ المدنيّ من دون أي اختيار لاحق، فلا يتاح لهما بعد ذلك العودة إلى الوراء واعتماد النّظام الدّيني، في ما لو اكتشف أحدهما ظلمًا ما أو عدم معرفة بهذا الجانب أو ذاك، فيكون الأوان قد فات، ويكونا قد قاما بما يرفضه انتماءهما الدّينيّ والشرعيّ. لذلك كان واضح للمهتمين بأنّ كل النّقاشات حول هذا الموضوع من النّاحية الرّسميّة كانت تقف عند حد مجلس الوزراء و في الإعلام والجمعيات المنادية بهذا الزّواج ولم يصل إلى حد مجلس النّواب حيث أنّ تشريع هذا الزّواج وقوننته داخليًا من خلال قانون يصدر عن مجلس النّواب يترتب عليه مفاعيل قانونيّة وإداريّة خطيرة ومعروفة والتي نعمل من خلال ورقتنا هذه على التّحذير منها و الالتفات اليها.
و عليه، لن تكون هذه الاختياريّة سببًا لقبول هذا الزّواج إلَّا عند بعض من غرر بهم تحت عناوين براقة لا تسمن ولا تغني من جوع في الوقت الذي سيكتشفون فيه بانهم ارتكبو بحق أنفسهم جرمًا كبيرة وبحق من انجبوهم في حالة وجود أولاد نتيجة هذا الزّواج ظلمًا أكبر و ذلك في الاتجاهات كافة القانونيّة منها والاجتماعيّة والثقافيّة. إنّ عدم قبول الزّواج المدنيّ الاختاريّ لمجرد كونه اختياريًا ياخذنا إلى البحث حول مبررات هذا الرفض كون الأمر الأول سببًا للثاني بمعنى رفض الزّواج المدنيّ ولو كان اختياريًا له مبرراته فما هي ؟
مبررات رفض الزّواج المدنيّ الاختاريّ
بداية، دعونا نتفق بأننا عندما نتناول عنوان الزّواج المدنيّ الاختياريّ نكون أمام زواج مثله مثل الزّواج المدنيّ الالزاميّ لا فرق بينهما بالآلية المعتمدة بعد الزّواج، فيما الفارق الوحيد يكمن في أنّ الإنسان له الحرّيّة في أن يختار أبتداءً أو لا …. ولكن علينا أن نلتفت إلى أمر وهو إذا ما كان هذا النّوع من الزّواج يهدف إلى ارساء نظام خاص و متكامل للأحوال الشّخصيّة ام لا ؟!! ،وعليه إن هكذا نظام جعل من الزّواج هذا نظام مدنيّ متكامل وهو ما يرفضه الشارع المتدين كونه يتعارض مع أحكام الشرع من جهة ومع المادة التّاسعة من الدّستور” من جهة أخرى .
لذا يتبين لنا وبشكل واضح بأنّ السبب المباشر لرفض الزّواج الاختياريّ قائم وعلى نحو أساس على فكرة قانون للأحوال الشّخصيّة كقانون مدنيّ بمعنى نظام متكامل بحد ذاته يتناول كل ما له علاقة بالاسرة لجهة الطلاق والزّواج والعدة والإرث الحضانة وكل ذات صلة وهو ما يخالف التّعاليم الإسلاميّة وغير الإسلاميّة لا سيما لدى الأديان التي تعتبر الزّواج سر من أسرار الكنيسة عندهم. ولقد برز ذلك في أكثر من مناسبة و على لسان أكثر من جهة معنية حيث أكد رئيس المحاكم الجعفريّة في لبنان، الشيخ محمد كنعان، على ذلك ، عندما صرح بأنّ ” ….. ما يترتب عن هذا الزّواج من طلاق وإرث وحضانة ووصاية وولاية، نكون أمام منظومة مدنيّة متكاملة وهذا ما نرفضه كونه يتعارض مع أحكام الشرع ومع المادة التّاسعة من الدّستور”
( تصريح لقناة “الحرة” تلفزيونية )
ما يعني بكلام أخر أنّ الزّواج المدنيّ لا يمكن الاعتراف به كزواج فقط ولا يمكن الركون إلى آلية وتدابير ما ينبثق عنه من تفاصيل إنّما هو منظومة تتمثل بأحكام في مجملها أحكام مخالفة للقرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة (ص). وعليه لا يمكن لهذا الزّواج أن يكون له مشروعيته الدّينيّة والإسلاميّة في الحدّ الأدنى،
( الشيخ الدكتور محمد شقير ، إشكاليّة الزّواج المدنيّ )
إنّ من ضمن المبررات لرفض هذا الزّواج التّفريق بين الزّواج كعقد شأنه شأن باقي العقود و بين أن يكون زواج يتضمن إطار عام للأحوال الشّخصيّة .
في حالة العقد فإنّ الزّواج المدنيّ مثله مثل الزّواج الشرعيّ يحتاج إلى رضا و قبول مع توافر الأهلية بطبيعة الحال ، ولكن في اللحظة التي يتدخل فيها الزّواج المدنيّ كزواج يحدد ويبيح ويسمح و يقرر لكل ما له علاقة بالأولاد والنفقة والطلاق و الميراث نكون هنا قد دخلنا فيما حدده الشرع في ذلك و أي قبول له يوقعنا في المحظور وبالتّالي مخالفة الشرع والعقيدة لذلك ذهب بعض العلماء أصحاب الراي في هذا الإطار إلى التّفريق بين الزّواج المدنيّ كعقد وبين ذلك الزّواج الذي يشكل نظامًا متكاملًا للأحوال الشّخصيّة حيث أعتبر أنّ هذا الأمر منافٍ للإسلام.
العلامة السّيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ استفتاءات – فقه الزّواج
ولكن هل الأمر يقف عند هذا الحد أم للأمر تداعيات أخرى ؟
الجواب البديهيّ والمنطقيّ الذي يفرض نفسه هنا هو طبعًا لا ،
فكثيرة هي المبررات التي تدفعنا إلى رفض الزّواج المدنيّ و متعددة هي الأسباب التي تساعدنا على شرح هذه المبررات لاعتبارات شتى منها ما هو مرتبط بالبعد التّشريعيّ و منه ما هو مرتبط بالبعد الاجتماعيّ والقيميّ.
- لجهة البعد التشريعيّ ،
إنّ رفض الزّواج المدنيّ سواء الاختياريّ او غيره لا يقف فقط عند ما تم ذكره انفًا بل أيضا ينطلق من أصل التّشريع ، و ما يمكن لهذه الخطوة أن تحدث ضررًا في مجتمعاتنا لما لهذه المجتمعات من رمزية وما تكتنز في داخلها من عادات وتقاليد لا يمكن لنا تجاهلها في ظل موجات متكررة من السّعي الدّؤوب لتشريع هذا النّوع من الزّواج.
كل المحاولات السابقة التي كانت تهدف إلى فتح فجوة في الجدار التّشريعيّ بائت بالفشل لاعتبارات عديدة منها ما هو دينيّ و أخر ثقافيّ و اجتماعيّ و غيره الكثير ، ولكن ما يجب التّنبه عنه هو أنّ المحاولات المتكررة والعديدة التي لا تتوقف والتي لا تميز بين الزمان والمكان هدفها واحد وهو فلنبدأ من مكان ما لخلق فجوة في الحائط التّشريعيّ عندها تبدأ التّشريعات المتناقضة مع ثقافتنا و بيئتنا و ديننا و مجتمعنا تتراكم وتنمو لدرجة ممكن معها انعدام القدرة على المواجهة . ولكن ما الدليل على الذلك ؟
إنّها و بالرغم من أن الجدار التّشريعي في بلد مثل لبنان يكتنز في داخله هذا التّنوع الدّينيّ و الثقافيّ مازال متماسكًا و صلبًا في وجه الطلبات والمحاولات التي لا تنتهي في إطار الزّواج المدنيّ نلاحظ أن محاولات من نوع اخر بدأت بالظهور و تنببئ بما هو أسوا من الزّواج المدنيّ و هو الشواذ أو ما يسعى البعض إلى تسميته بـــ: المثليّة الجنسيّة .
لقد بدأت تلوح بالافق محاولات تشريعيّة قدمت إلى المجلس النيابيّ على شكل اقتراحات قوانين تمنع تجريم المثليّة في لبنان !!! وهو ما يجب التّوقف عنده مليًا لعدة اسباب و تساؤلا ت من وراء هذه الاقتراحات وما الأجندة التي تخدمها ومن ممول هذه التّوجهات ؟ كلها اسئلة تطرح و نتيجتها واحدة و الهدف واحد ان نجحنا في الخطوة الأولى ستكر مسبحة المطالبة وهذا ما اكتشفناه ايضًا هو التّوجه إلى تقديم اقتراح قانون إلى مجلس النواب يشرع بالاعتراف بزواج الشواذ في لبنان !!!!
إذًا إنّ البعد التّشريعيّ له أهميته ودلالته في هذا الأطار و بالتّالي إنّ الوقوف سدًا منيعًا في وجه هذه الحملة التّشريعيّة واجب وضرورة لأنّه وفي اللحظة التي نسمع بهذه التّشريعات فان المسالة تبدأ من مكان وتصبح كرة ثلج كبيرة لا نعرف أين تنتهي و خاصة وأنّنا نشهد انتشار ظواهر عجيبة وغريبة لا تمت إلى الأنسنة والطبيعة بصلة لجهة التّشبه بالحيوانات وأخرى لها علاقة بالتّبادل و غيرها من الظواهر الشاذة والتي في اللحظة التي نسمح أو نشرع أو نقبل حتى النقاش بها لا يمكن تصور ما هو المنتظر بعده
ثانيا” : لجهة البعد الاجتماعيّ و الثقافيّ
انطلاقًا من كون الزّواج في لبنان كمؤسسة تعتبر من أهم القضايا المطروحة دائما على بساط البحث حيث يرتبط بشكل أو باخر بالعادات والتّقاليد السائدة في المجتمع. فمن الزّواج كمؤسسة اجتماعيّة كاملة متكاملة تنشأ العائلة التي يعتبرها ويعيرها الأغلب الأعم من اللبنانيون أهمية كبيرة كنواة اجتماعيّة تؤطر المجتمع على مبادىء و قيم تتصل بالدين لجهة الألتزام و الحرص على كل تفصيل من تفاصيل هذه المؤسسة لما لها تاثير ايجابيّ على تتطور المجتمعات و اتجاهها نحو التّقدم والتّطور وليس نحو الانحرافات و الضلال في الحالة المعاكسة
وفي هذا السّياق، من المهم الإشارة والتّأكيد في هذا الإطار ، بأنّ عدم تشريع الزّواج المدنيّ بأساسه (وبما يتضمنه من تشريعات وتوجهات لا تنسجم ولا تلتقي مع الدّين والعقيدة والمبادىء الصحيح ) يعود بالفائدة إلى مواصلة تركيبة وبنيّة المجتمعات المنسجمة والمتكاملة ببعدها الاجتماعيّ و العلائقيّ اذا صح التّعبير وتبقى بعد الثقافات التي تندرج تحت عنوان الشرقيّة لا سيما السّلطة الأبويّة التي نعيش في ظلها إلى حد ما والتي هي مكملة لدور المرأة في المجتمع وليس القامعة لها كما يروج لذلك واعتبارها حجة ينطلق من خلالها طالبي الزّواج المدنيّ من خلال ايهام المرأة بمظلومية معينة وهو أمر منافي و مجافي للحقيقة ، أنّ الزّواج المدنيّ وفي اللحظة التي يسمح له قانونًا أو مجتمعيًا بالانتشار سيبدأ برأينا العد العكسي لانهيار المجتمع الأسريّ والروابط الأسريّة المعقودة بميثاق ربانيّ منزل بتفاصيله وحيثياتها بحيث يصبح مجموعة شروط وبنود والتزامات يترتب عليها تعويضات وعقوبات ترتبط بالماديات.
حيث يعتمد المطالبين بذلك بأنّ الزّواج المدنيّ”ضمان لحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين” على اعتبار أنّ المرأة في الزّواج الدّينيّ ضعيفة لا إرادة لها هو توصيف غير منصف لها و هو كلام لا يستوي مع العارفين والضالعين بالقضايا الشرعيّة و هو كلام يستهدف الغالب الأعم من المجتمع الذي لا علم له ولا دراية لا قانونيّة ولا شرعيّة في هذا الإطار
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن حيال ذلك هو هل فعلًا أن الزّواج المدنيّ عندما يكون اختياريّ يجعل الشريكان مختارين فيما يفعلانه ؟!!
هنا تبرز الحقيقة المموهة عندما نلتفت إلى أنّ قانون الزّواج المدنّي لا سيما الاختياريّ كمشروع هو نظام للأحوال الشّخصيّة بشكل متكامل وعليه فإنّه لا يقف عند حد الاختياريّة في عقد الزّواج بمعنى أنّ اللحظة التي يختار فيها الشريكان الزّواج المدنيّ كعقد زواج لهما ويتم ذلك تنتهي حريتهم من جهة واختياريتهم من جهة أخرى فيما هو لاحق لهذا العقد ما يدل دلالة واضحة بان الاختياريّة في عقد الزّواج المدنيّ هي اختياريّة من حيث المبدأ وليست اختياريّة من حيث الاستمرار ما يعني أنّه يصبح ملزمًا بأدق التّفاصيل و المقررات لهذا العقد والتي هي بدورها تدخل في شؤون الأحوال الشّخصيّة المتعلقة بالإرث و الأولاد والوصاية وغيرها مما هو من اختصاص المحاكم الشرعيّة .وهذا ما توقف عنده الكثيرون من الباحثين والعلماء حيث أعرب السّيّد جعفر فضل الله عن رأيه بأنّ، ( اعتماد عنوان الزّواج المدنيّ الاختياريّ يموّه حقيقة أنّ المشروع هو نظام أحوال شخصيّة متكامل لا يقف عند حدود عقد الزّواج، كما أنّ وصفه بالاختياريّ يهدف إلى تمويه حقيقة أنّ الاختيار المتاح ابتداءً لا يستتبع الاختيار استمرارًا،) . أيضًا وفي نفس السّياق، ذهب الكثير من المشجعين لهذا الزّواج على اعتباره حلًا نستطيع من خلاله تجاوز كافة المعوقات التي يعاني منها الناس عند الكلام عن الزّواج المختلط.
وهذه مشكلة حقيقية لا بل أساسية وخاصة عندما يدور النّقاش حولها بين من يشجع هذا الزّواج وبين الرافض له لا سيما لجهة قوننة ذلك في دوائر الأحوال الشّخصيّة في لبنان. حيث انطلق الرافضون له من مبدأ قائم على عدة أسس منه الشّكليّ و منه الموضوعيّ ومنه بما يمثله هذا المشروع من نظام يكتنز في داخله نظامًا شاملًا وهيكلية متكاملة من جهة ومناقضة للتّشريع من جهة أخرى
ولقد عبر العلامة فضل الله عن هذه النقطة بما حرفيته، “أنّه عندما يتمّ عقد الزّواج بين مسلم ومسلمة بطريقة الزّواج المدنيّ، فإنّه يعتبر في الشّكل العقدي للزّواج، زواجًا شرعيًّا من الناحية الشكليَّة… ومن الطبيعيّ أن يخضع الزّوجان للقواعد الإسلاميّة في مسألة حركة هذا الزّواج، وفي مسألة إنهائه، وعندما يفسخ الزَّوجان العقد بغير الطّريقة الإسلاميّة، فإنّهما لا يكونان منسجمين شرعًا مع الشّريعة الإسلاميّة في هذا المجال، ويكون حالهما حال الزّوجين بالصّيغة الشّرعيّة التي يتبنَّاها أكثر الفقهاء، عندما ينحرفان عن الأحكام الشَّرعيَّة في حركة زواجهما “.
من كتاب “تأمّلات إسلاميَّة حول المرأة”، ص 136.
خلاصة ذلك كله، أن مواجهة الزّواج المدنيّ “الاختياريّ” – موضوع ورقتنا هذه -برفض كبير ليس فقط من المسلمين بل كذلك الأمر من المسيحيين. فالزّواج في الكنيسة ليس عقدًا عاديًا بل هو رابط أبديّ ويعتبر ســر مــن الأســرار الكَنَسِيّة التي تتجلى بمباركة رجال الدّين. أما الزّواج عند المسلمين فهو يتجسد بعقد بين طرفين، يخضع بكل مقوماته إلى قانون الكتاب المبارك “الــقــرآن الكريم” الذي يبيح ويمنع ويحرم أمور عديدة في العبادات والمعاملات . لكن التّركيبة الهجينة للمجتمع اللبنانيّ والنّظام السياسيّ الاجتماعيّ والطائفيّ –القائم على التّعددية سمحت في مكان ما بطرح هذه البرامج التي وباعتقادي هي عبارة عن برامج موجه قصدية تندرج ضمن إطار حرب ناعمة بهدف هدم ما تبقى من تعاليم وقيم ومبادىء لجهة العائلة والأسرة وكل الأمور المرتبطة ذات الصّلة و عليه الزّواج المدنيّ هو ستار خفي للنيل من الأحوال الشّخصيّة الملاصقة للمنظومة المجتمعيّة في لبنان و التي هي بطريقة أو باخرى مجموعة طوائف تقر كل منها و تعترف بحقوق و حدود وتعاليم الطرف الأخر وهو ما كفله الدّستور لهذه الجهة والتي لا يمكن أن يفسرها مروجي فكرة الزّواج المدنيّ على أنّها باب ممكن من خلاله الولوج إلى السّاحة التّشريعيّة لقوننة أمر أقل ما يقال عنه بأنّه ميت قبل أ ن يولد.
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…