العلمانيّة والزّواج المدني
د. سهام محمد عزّوز [1]
[1]– – أكاديميّة تونسيّة، وباحثة في الشؤون السّياسيّة وعلم الاجتماع السياسيّ.
مقدّمة
في أجواء الانقلاب على الكنيسة الذي حصل، في أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السّادس عشر، بدأ الحديث عن مفهوم اسمه الدّولة. لمّا يكن حينها مصطلح الدّولة العلمانيّة قد أُسّس بشكل نهائي بعد. فمن المعلوم أنّ أوروبا، في العصور الوسطى، كانت تحكمها الكنيسة، وكان أبرز مفهومين تقوم عليهما الدّيانة المسيحيّة هما: المقدّس والمدنّس. فكان المقدّس هو الله والآخرة والرّوح، وكان المدنّس هو الإنسان والدّنيا والجسد والمرأة. وعلى هذا الأساس قادت الكنيسة معركتين. الأولى؛ مع الفطرة البشريّة في كلّ ما تتوق إليه من الدّنيا والشّهوات والمتاع والملذّات.
أمّا الثانية؛ فمع العقل البشري الذي كان يقرّر حقائق واضحة تأتي الكنيسة لتلغيها بكلام غير ذي قيمة علميّة، فأدّت هاتان المعركتان إلى انفجار أوروبا في وجه الكنيسة، فقامت ثورات متعدّدة لتصحّح الوضع الخاطئ عند الكنيسة.. فما الذي حدث؟
جعلت الثورات المقدّس مدّنسًا، والمدنّس مقدّسًا، أي إنّها قلبت المعادلة، وكان الأولى أن تصحّح موقف الكنيسة من الدّنيا والمرأة والشّهوات والجسد، وترفع الدّناسة عنهم، وتعدّها حاجات طبيعيّة وفطرية، وتقرّ بخطأ ترذيلها، لكنّها ذهبت أبعد من ذلك؛ فقدّست الدّنيا والجسد والمرأة، بل ألّهتها. على هذا الاساس، نشأت “الدّولة العلمانيّة” التي اهتمت فقط بجسد الإنسان وشهواته ولذاته ومنافعه، واهتمت فقط بالدّنيا وزراعتها واقتصادها وصناعتها، ورأت الحياة مادةً في أصلها ووجودها وتفرّعاتها، وكلّ حديث عن الرّوح والجنّة والنّار والملائكة إنّما هو حديث خرافة وأوهام.
لم تكن العلمانيّة حصيلة سجالات نظريّة وفكريّة، ولا هي أتت بقرار ناشئ عن رغبة أفراد أو مجموعات فكريّة أو سياسيّة؛ بل ظهرت، في بادئ الأمر، حلًّا عمليًا فرضته أجواء الحروب الدّينيّة التي تخلّلت القرنين السّادس عشر والسّابع عشر، ومزّقت المجتمعات الأوروبيّة. فكانت العلمانيّة بذلك نوعًا من تسويات تاريخيّة كبرى سياسيّة واجتماعيّة. لقد اكتسب الحلّ العلماني صفة خاصّة إجرائية وعملية، قبل أن يكون رؤية فكريّة أو نظرة سياسيّة محدّدة المعالم. وتشكّل، في ضوء ذلك، ما أراده المدافعون عن فكرة العلمانيّة وهو “دولة المواطنة الحديثة”. وهي في اعتقادهم تعني “تحرّر الدّولة من تدخّل الدّين، حيث تصبح دولةً بلا دين، كُرّست على مبدأ أساسي، وهو الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الدّيني في الدّولة.
لقد ساد، في الأوساط الفكريّة، مفهوم واسع للعلمانيّة[1] يقوم على “الفصل بين الدّين والدّولة”؛ أي إنّه سياق يعترف بالدّين، ولكنّه لا يعتمد عليه في التّشريعات والقوانين. على هذا الأساس، ظهر للعلمانيّة مفهومان: مفهوم سوسيولوجيّ، وهو يعني تقّلص مكانة الدّين في السّياق الاجتماعي؛ من حيث الاعتقاد والايمان ومسلك التدين الفردي والجماعي. ومفهوم قانونيّ، وهو النّظام الذي يُقصي الدّين من الشأن العام، ويُكرّس حياد الدّولة إزاء مختلف الديانات[2].
في هذا السّياق؛ تجدر الإشارة إلى أنّ العلمانيّة بالمفهوم الأول هي ظاهرة تاريخيّة اجتماعيّة، تثبت كلّ الدّراسات أنّها خاصّة بالمجتمعات الأوروبيّة الغربيّة التي انخفضت فيها نسبة الإقبال على الدّين، اعتقادًا وممارسة، بينما ما يزال الحضور الدّيني قويًا في بقية العالم غير الغربي، وفي مقدّمته العالم الإسلامي. أما العلمانيّة بالمفهوم الثاني، فهي نظام قانوني له صيغ كثيرة تتأرجح بين الخصوصيّة التي تعتمدها الأنظمة السّياسيّة في الدّولة العلمانيّة الحديثة، حيث يختار بعضها أن تنصّ دساتيرها صراحة على الهويّة العلمانيّة، ويختار بعضها الآخر عدم ذكر العلمانيّة في دساتيرها، وتسمح قوانينها بالحريّة الدّينيّة وحرية المعتقد بهدف ما تدّعيه من حماية للأقليات الدّينيّة في الدّولة العلمانيّة. أمّا الشريحة الثالثة من الدّول، فتنصّ دساتيرها على تبنيّها لدينٍ معيّن، لكنّها تحوي المبادئ العلمانيّة العامّة، فتتبنى عناوين ومسمّيات تحت شعار المساواة والدّيمقراطيّة والحريّات العامّة، مع تقييد لهذه الحريّات وفقًا لمنظومتها القانونيّة والاجرائيّة.
في السّياق العربي والإسلامي؛ ظهرت العلمانيّة في خلفيتين مرجعيتين متمايزتين، خلفية فلسفيّة وضعيّة مناوئة للدّين ترجمتها المدرسة التطوريّة الماديّة، وخلفية أيديولوجية دينيّة انطلقت من مقولة ازدواجيّة الدّيني والسّياسي في الإسلام، وتاليًا رفض أي تدبير دنيوي بشري للشأن العام خارج مفهوم «الحاكميّة الإلهيّة».[3] في الواقع؛ أنّ مسار العلمنة[4] قد تسارع في العالم العربي والإسلامي منذ القرن التّاسع عشر من طرف القوى الاستعماريّة، فتغلغل في النّظم السّياسيّة والقانونيّة التي رسّخها هذا الاستعمار قبل خروجه من هذه الدّول وبعدها. لذلك كان التّعليم من بين أوّل المجالات التي جرى علمنتها، كما الأحوال الشخصيّة. نضيف إلى ذلك؛ أنّ الاعتراف بالتعدّد الدّيني والعرقي في الدّول العربيّة حتّم إصلاح المنظومة القانونيّة، فتمّ في هذا السّياق صياغة العديد من التنظيمات القانونيّة والسّياسيّة فيها، والتي كان عليها أن تثبت للغرب (المستعْمِر) أنّها قادرة على مواكبة الحداثة والتطوّر الاجتماعي الممزوج بروح العلمنة، لتصبح دولاً معترفًا بها عالميًا، فتسجّد ذلك في أنظمتها القانونيّة المتنوّعة، وخاصّة في مجال الأحوال الشخصيّة والمعاملات والميراث، وغيرها من المجالات.
من هذا المنطلق، بدت مؤسسة الزّواج أكثر المجالات حساسيّة لتقبّل هذه التطوّرات، ومن خلال ذلك يُعدّ أنموذج الزّواج المدني عيّنة من بين كثير من العيّنات التي طُبّقت فيها روح العلمنة. وبالرغم من أنّه أنموذج منتقد، بشكل كبير، من منظور الأديان السّماوية، لكنّه فرض نفسه واتبعه كثيرون حول العالم. وبدأ يدخل إلى بعض الدّول العربيّة، فبعضها طبّقته بشكل كامل، مثل تونس[5]، وأخرى طبّقته، لكن في سياق محدود، كانت مصر والجزائر. أمّا غيرهم من الدّول، فحرّمته ومنعته، والبقية ما يزال يحتار في شروط تطبيقه. إنّه نموذج الزّواج المدني، وأحيانًا يطلق عليه الزّواج العلماني، والذي وفقًا للإجراءات المنظّمة له، يُقبل الطرفان فيه (الزوج والزوجة) على عقد شراكة اجتماعي وفقًا لشروط وإجراءات خاصّة تحتّمها آليّة القبول والرضا، بحضور الشهود وكاتب العقد.
لقد بدأ انتشار هذا النموذج في الغرب، خاصّة في أوروبا وأمريكا، واضحًا، وأصبح هو الشّائع في قرار الزّواج عند الطّرفين، سواء كانوا من ذات الدّيانة أم أحد الأطراف من ديانة أخرى، أو ذات الدّيانة، ولكن مع اختلاف الطائفة التي ينتمي إليها كلّ فرد. وأصبح أنموذجًا مفصولًا عن الكنيسة غايته تسهيل الزّواج وتوثيقه في المحكمة، ليكون الطرفان متزوجين أمام الدّولة والمجتمع. أمّا في العالم العربي والإسلامي؛ فما يزال طرحه أنموذجًا اجتماعيًا يثير العديد من التساؤلات والشّكوك حول مشروعيته وشروطه واثاره.
على خلفيّة هذا الطرح، يُطرح السّؤال حول العلاقة البنيويّة بين العلمانيّة والزّواج المدني، وكيف يمكن التّعامل مع هذا النموذج العلماني في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة التي تسود فيها، اليوم، درجة واسعة ومرتفعة من التّدين، وفيها كثير من القوى الإسلاميّة المنظّمة والمؤثرة، مقابل وجود متنوّع للقوى العلمانيّة (ملحدة/غير متدينة) التي تتبنّى العلمانيّة صراحةً، وتريد تطبيقها في كامل مفاصل الحياة المجتمعيّة؟
تحتاج الإجابة على هذه التساؤلات البحث؛ أوّلا: في الزّواج المدني نتاج طبيعي للأسس العلمانيّة التي تتبناها الدّولة، ثمّ ثانيّا، أثار هذا النموذج ومخاطره على المجتمعات المتديّنة والمحافظة، وسبل مواجهة هذا النموذج العلماني المطروح في المجتمعات الإسلاميّة.
أوّلًا: الزّواج المدني.. نتاج طبيعي للعلمانيّة
- العلمانيّة تؤسّس للزواج المدني
انتشرت ظاهرة الزّواج المدني، في بعض الدّول العربيّة والإسلاميّة، على غرار انتشارها في قبرص وتركيا وأوكرانيا وجورجيا وتونس. وهو نظام متعارف عليه منذ أمد بعيد في أوروبا وأمريكا وأستراليا، وحيث شرّعته فرنسا، في نصّ الدّستور الصادر سنة 1971 في المادّة السّابعة من الباب الثاني “القانون لا يعدّ الزّواج إلّا مجرد عقد مدني”.
أسّس صانعو العلمانيّة في الغرب للاعتراف بالزّواج المدني وتقنينه، وعدّه زواجًا طبيعيًا وقانونيًا، إذ ترتبط القيم الأسريّة المتعلّقة به، من حيث البناء والوظائف بمستحدثات العولمة النّاعمة ووسائل الاتّصال الجديدة وتظهر جليًا خطورة ذلك على الأسر وتوجهاتها الجديدة نحو تغيير البناء أو الوظائف، كأن يكون هدف الزّواج بعيدًا عن وظيفة الإنجاب، ما يؤدّي إلى ظهور أسر نوويّة غير متكافئة وغير متشابهة في الثقافات والدّيانات. وهذا خطر الزّواج المدني على الأسرة، في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة خاصّة. إذ يعمل مؤسّسو ومنظّرو الدّولة العلمانيّة على تبني العديد من المبادئ التي لها علاقة بفصل الدّين عن الدّولة، في تفاصيل الحياة المجتمعيّة العامّة كلّها. ومؤسّسة الزّواج هي أكثر المؤسّسات تأثرًا بهذه الخيارات، خاصّة إذا ما ارتبطت بحزمة من القوانين والإجراءات التي لها علاقة بآليّات وإجراءات عقد الزّواج، والتي تقتضي بوجود نظام قانوني متخصّص بالأحوال الشخصيّة والأسريّة، هدفه من وجهة نظر واضعيه، هو فصل كلّ ما له علاقة بالأحكام الشرعيّة والدّينيّة عن مؤسسة الزّواج.
عمل واضعو أسس الزّواج المدني، في المجتمعات الغربيّة وبعض المجتمعات العربيّة التي تبنّت في قوانينها الوضعيّة هذا النموذج، على أنّها مؤسسة مبنيّة على علاقة تعاقديّة اجتماعيّة مرتبطة بجملة من الشّروط الماديّة والمعنويّة (الحقوق والواجبات) والآثار الماديّة بين الطّرفين في حال الرّضا والقبول بهذا العقد الثنائي. وإنّ هذا الزّواج هو عقد مدني له آثار ماديّة ومعنويّة، فهو يحتوي على جملة من الالتزامات على الطّرفين المتعاقدين الالتزام بها، وفي حال قرّر أحدهما التّنصل من هذا الالتزام – إنشاءً أو ضررًا- فعليه تحمّل مسؤوليّة هذا التّنصل وتبعاته.
لقد بدأ الزّواج المدني كونه أحد تجليات الدّولة العلمانيّة التي تتبنّى أسسًا علمانيّة في السّلطة والقوانين والمجتمع، وتبتعد تدريجيًا وممنهجًا عن المبادئ الدّينيّة والشرعيّة بعنوان أنّها لم تعد صالحة للعصر ولا للتطوّر المجتمعي. فقد اعتمدت العديد من الدّول العربيّة على أنموذج علماني في بناء المؤسّسات، وبدا مدلول العلمانيّة المتفق عليه يعني عزل الدّين عن الدّولة وحياة المجتمع، وابقاءه حبيسًا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصّة بينه وبين ربّه. بالتأكيد أنّ هذا التّبني المؤسّس أثّر، بشكل كبير، في كلّ مقوّمات المجتمع, فمن الطّبيعي أن يُطرح أساسًا لبناء مؤسّسة الزّواج من خلال تجريدها من كلّ العناوين الدّينيّة والشرعيّة والعقديّة. وبدت مؤسسة الزّواج، هنا، مدخلًا مهمًا وضروريًا بالنسبة إلى مؤيّدي المبادئ العلمانيّة لتطبيقها، والتي في عنوانها العام دعوة للحريّة والمساواة واحترام الحقوق والواجبات. لكنّها تبقى في عمقها مشكلةً كبيرةً، خاصّة في ما يتعلّق بالأسس الشرعيّة والعقديّة التي تعدّ من مقوّمات الزّواج الناجح في العديد من الدّول.
من الممكن القول بأنّ ترسيخ أنموذج الزّواج المدني هو فرصة لبعضهم للهروب من الالتزامات الدّينيّة والشرعيّة تحت غطاء القوانين الوضعيّة، فيصبح رفضها طبيعيًا ومباحًا. لكن من غير الطبيعي القطع مع الشّرع والعرف والدّين تحت ذريعة أنّه لم يعد مناسبًا لتطوّر العصر. هذا الجدال المستمر، منذ سنين طويلة، ما يزال قائمًا، وسيبقى بالتأكيد، خاصّة وأنّنا نلتمس التّأثيرات السّلبيّة الكثيرة لنموذج الزّواج المدني على المقوّمات الفكريّة والإنسانيّة والاجتماعيّة كلّها في الدّول العربيّة والإسلاميّة. ويذهب الاعتقاد إلى أنّه من الضّروري أن يُعمل على عدم السّماح بهذا الفلتان الفكري تحت مسمّى الحريّات والحقوق وغيرها؛ لأنّ أقصى ما يمكن أن تقدّمه هكذا نماذج بعد القطع مع الدّين والقواعد الشرعيّة، هو تفتيت الأسر والمجتمعات وضرب الوعي الجمعي بضرب مفهوم الواجب والالتزام والمسؤوليّة في بناء الأسرة السّليمة.
ثانيًا: مساوئ الزّواج المدني ومخاطره على المجتمعات المتديّنة
أثبتت التّجارب، خاصّة في الدّول التي تبنت المنهج العلماني نظامًا للحكم ومنظومة سياسيّة وقانونيّة، أنّ لهذا المنهج عيوبًا كثيرة لها تداعيات معقّدة وطويلة الأمد على المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، فقد أسهمت في:
- إقصاء الدّين عن مجالات الحياة كافّة والاستعاضة بالقوانين الوضعيّة التي اقتبست من الغرب، على أساس أنّها نماذج متطوّرة من دون التدقيق في مدى ملاءمتها للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة.
- تحريف التّاريخ الإسلامي وتزييفه، وتصوير كلّ ما هو ديني واسلامي على أنه عصر الهمجية والفوضى والمطامع الشّخصيّة، وأنّ المطلوب كتابة تاريخ جديد مناسب لما يخطّطه الغرب.
- إفساد التّعليم وجعله ساحة مطواعة لنشر الفكر العلماني.
- تهديم بنيان الأسرة، كونها النواة الأولى في البنيّة الاجتماعيّة، وذلك عن طريق: القوانين المتعلّقة بالأحوال الشّخصيّة، والتي تخالف الشّرع والقيم الدّينيّة، وتعدّ ممارسة الزنا والشّذوذ من باب الحريّة الشّخصيّة التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة.
- تضييق الخناق على النماذج الإسلاميّة الناجحة ومحاولة تشويهها وأنّها غير ملائمة للحداثة التي يريدونها.
هذه بعض مساوئ العلمانيّة التي أثرت مباشرة في اشكال الحياة العامّة كلّها، ولعلّ نموذج الزّواج المدني أحد هذه الأشكال التي طرحت على أنّه أنموذج مناسب للتطور المجتمعي، لكنّه واقعيًا أثبت فشله في الغرب. وتسرّب فشله هذا إلى الدّول العربيّة والإسلاميّة، أيضًا، والتي تورّطت في اختيار هذا النموذج، ووضعت له مقاييس خاصّة لتجعله مناسبًا لقوانينها الوضعيّة.
- مساوئ الزّواج المدني لا حدود لها:
إنّ القوانين التي يُطلق عليها اسم قوانين الزّواج المدني هي قوانين وضعيّة لا دينيّة.[6] وقد أطلق الغربيون عليها هذا الاسم ليُوهِمُوا الناس بأنّها قوانين حديثة ومتطوّرة. والحقيقة أنّها ليست حديثة ولا متطوّرة؛ بل هي قوانين تؤدّي إلى خلل اجتماعي، وينتج عنها أزمات كثيرة: أسريّة وصحيّة واجتماعيّة وتربويّة وتعليميّة وأدبيّة وأخلاقيّة وقيميّة…; وذلك كما حدث ويحدث في المجتمعات الغربيّة التي طبّقت هذه القوانين.
يمكننا عرض بعض هذه الأزمات على الشكل الآتي:
2– إنّ علاقات الأسرة الواحدة التي كانت تقوم على قيم الودّ والتعاون والتضامن والاحترام قد تزعزعت وانهارت هي الأخرى، بسبب قوانين الزّواج المدني التي سمحت لهؤلاء الأفراد بالتحلّل والتفلّت من هذه القيم، والعيش وفقًا لرغباتهم وأهوائهم ضاربين عرض الحائط بكلّ القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة.
3- إنّ قوانين الزّواج المدني سمحت للأبناء – ذكورًا وإناثًا – بترك منازل والديهم، والعيش في مساكن مستقلّة مع أصدقائهم، والإنجاب منهم بطرائق غير شرعيّة. وهذا ما يُعرف في الغرب بحياة المساكنة التي انتشرت بشكل واسع وكبير، والتي أدّت إلى انقطاع صلات الأرحام وإلى ضياع الأنساب وازدياد أولاد الزّنى؛ حيث وصلت نسبتهم في المجتمع البريطاني – على سبيل المثال لا الحصر- إلى نحو 70٪[7].
4- سمحت هذه القوانين للقاصرين والقاصرات بممارسة الجنس في سنٍّ مبكّرة، فمن النادر أن تجد في المدارس والجامعات الأوروبيّة والأميركيّة، مثلًا، طالبة أو تلميذة في عمر الرابعة عشر ربيعًا من دون أن تُقيم علاقات جنسية مع زميل لها أو أكثر.
5- سمحت قوانين الزّواج المدني للأفراد، في المجتمعات الغربيّة، بممارسة الجنس في الشّوارع والسّاحات والأماكن العامّة، وببروز ظاهرتي الشذوذ الجنسي والإنحراف الأخلاقي، وبالترويج لزواج “المثليين والشواذ والمتحوّلين جنسيّا”، ومن ثم إلى قوننته وتشريعه، مخالفين في ذلك سنن الكون والحياة وفطرة الإنسان التي فطر الله تعالى النّاس عليها، لكي تستمرّ الحياة وتتكاثر الكائنات. إن زواج المثليين الذي أقرّته بعض الدّول في الغرب قد مسّ الإنسان بكرامته ووجدانه وضميره، فقوّض قِيَم الفضيلة في المجتمع، وزعزع الأخلاق النبيلة فيه وهدّم العلاقات السّليمة والمثلى بين الأفراد والجماعات…ومع هذه المساوئ نتج عن هذا الزّواج أمراض نفسيّة وجسديّة خطيرة، مثل مرض نقص المناعة(الإيذز) ومرض الزهري وسرطان الشّرج والورم الحليمي البشري، والتهابات الكلاميديا والسّيلان، وغيرها من الأمراض الفتّاكة والمميتة. وقد أثبتت الدّراسات الطّبية في أميركا أن 63% من مرضى الإيدز هم من الرجال المثليين وثنائي الجنس، وأنّ 11 ألف شاذ أصيبوا بهذا المرض في العام 2010. كما أثبتت هذه الدراسات أنّ 83% من المصابين بمرض الزهري هم من الرجال المثليين. ووفقًا لمؤسسة الصّحة الفرنسيّة الرسميّة، فإنّ 44% من المصابين بفيروس الإيدز العام 2016 هم من ثنائيّ الجنس[8].
6-من مساوئ قوانين الزّواج المدني إقرارها ظاهرة التبنّي، وتسجيل المولود الجديد في الدوائر الرسميّة باسم الزوج، حتى ولو كان من غير صلبه، وبأن يستفيد هذا المولود من الميراث كبقيّة الأبناء الحقيقيين، وبأن توزّع ثروة المتوفّى على الأولاد – ذكورًا وإناثًا – بالتّساوي مخالفين بذلك أحكام الميراث في الشّريعة الإسلاميّة مثلاّ.
7- في مجال الحقوق والواجبات، فإنّ قوانين الزّواج المدني قد حَرَمَت المرأة من الحقوق الماليّة والاقتصاديّة التي منحها لها الإسلام، مثل المهر والنفقة وتنمية أموالها والمحافظة عليها؛ حيث إنّ المرأة وفقًا للشرع الإسلامي غير ملزمة بالإنفاق على نفسها وأولادها، بخلاف قوانين الزّواج المدني التي تلزم الزوجة بالمشاركة في الإنفاق على البيت والأولاد، وبأن تكون مصاريف الأسرة، مهما بلغت، مناصفة بين الزوجين. كما حرمت هذه القوانين الأخت من الإفادة من مال أخيها، إذا كانت فقيرة وغير منتجة.
لائحة المصادر والمراجع:
–Edward R. Cachay , MD, MAS, University of California, San Diego School of Medicine.
-James Wilford Garner, political science and government, the world press, Calcutta, india, 1952, pp.51-52.
-بكر صدقي، علمانيّة وعلمانيون، المشكاة، العدد 11، كانون الأول/ديسمبر 2010، ص63.
-شابا أيوب شابا، الدّولة المدنية والدّولة العلمانيّة والفرق بينهما، الحوار المتمدن، عدد 6354، 2019.
-على معطي، مساوئ قوانين الزّواج المدني، حزيران يوليو، 2022.
-علي ظاهر، الأسس الفلسفية للعلمانيّة، دار السافي، بيروت، 1993، ص40-43.
-محمد عابد الجابري، الدّين والدّولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004.
[1]– بكر صدقي، علمانيّة وعلمانيّون، المشكاة، العدد 11، كانون الأول/ديسمبر 2010، ص63.
[2] – شابا أيوب شابا، الدّولة المدنية والدّولة العلمانيّة والفرق بينهما، الحوار المتمدن، عدد 6354، 2019.
[3] – أنظر محمد عابد الجابري، الدّين والدّولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004. بلغ الخلاف حول مصطلح العلمانيّة بين المفكرين العرب (المؤيد والرافض) حدّه الى درجة جعلت البعض يدعو إلى حذف المصطلح من القاموس العربي كونه إشكاليّة غير مفيدة، فعندما روّج الغرب لمصطلح العلمانيّة كان يهدف إلى فصل الدّولة عن الكنيسة أو بالأحرى عزل الكنيسة عن العمل السّياسي. في المقابل؛ ليس هناك كنيسة في الإسلام لكي نفصل الدّين عن الدّولة. لذلك استعيض عن العلمانيّة بمصطلحي الديمقراطيّة والعقلانيّة.
[4] إن ارتبطت العلمنة بالمجتمع، وتمثّلت في حركة تطوريّة تلقائيّة تتجاوز حدود الثقافات، فإنّ اللائكية حال فرنسيّة بامتياز وارتبطت بمؤسسة الدّولة وتحييدها القانوني عن تأثير المؤسسة الدّينية. فاللائكية تعني الفصل القانوني بين المؤسسة الدّينيّة والدّولة كما أقرّه قانون سنة 1905. لكن هذا الفصل لا يعني إلغاء الدّين بل عدم تدخل الدّولة في المجال الدّيني. المهمّ أنّ مختلف هذه المعطيات جعلت الحسم الواضح مسألة حتميّة، وهو ما تجلّى في الثورة الفرنسيّة التي فتحت الصّراع على مصراعيه بين الجمهوريّة والكنيسة. هذه الأخيرة لم تعترف بها إلّا مع نهاية القرن الّتاسع عشر. صراع بدأ بقانون وفاقي أمضاه نابليون بونابارت سنة 1802، وانتهى بقانون الفصل سنة 1905. أمّا في التقليد الأنجلوساكسوني، وعلى عكس المسار الفرنسي، نجد كلمة علمنة (secularisation) وكلمة تعلمن (secularism) وكذلك كلمة عَلماني (secularist)؛ لأنّ المسار التاريخي الإنجليزي لم يكن مسارًا صداميًا يفرض القطع الجذري كما كان الحال في فرنسا. انظر: علي ظاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار السافي، بيروت، 1993،ص40-43.
[5] – تونس هي الدّولة العربيّة الوحيدة التي تعترف بالزواج المدني، وأولى الدّول العربيّة التي خطت على خطى أوروبا في الزواج، مثلها مثل تركيا وغيرها من الدّول الأوروبيّة التي فصلت الدّين عن القانون والأحوال الشّخصيّة لدى المواطنين.
[6] – على معطي، مساوئ قوانين الزواج المدني، حزيران/ يوليو، 2022.
[7] – المصدر نفسه، ص2.
[8] Edward R. Cachay, MD, MAS, University of California, San Diego School of Medicine.
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ تناول مسألة الرّؤى المناهضة للدّين بنسخته الكاملة، الشّاملة للمعتقدات والقيم والتّشريع…