‫الرئيسية‬ فكر كلامي معاصر الإلحاد الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
الإلحاد - مقالات - 05/27/2024

الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة

 (ريتشارد دوكينز نموذجًا)

حسين إبراهيم شمس الدّين(*)

القسم الثّاني: المعالجة النقديّة للأسس الإبستمولوجيّة للإلحاد الجديد


(*) – ماجستير في الأنتروبولجيا – الجامعة اللبنانيّة.

   – إجازة في العلوم الإسلاميّة – جامعة المصطفى.

   – إجازة في علم الاجتماع – الجامعة اللبنانيّة.

المبدأ الأوّل: الإلحاد والمذهب الاسمانيّ

وجود الكليّات أو عدمه هو النّقاش الأساس الدّائر بين المذهب الواقعيّ –بنسختَيه الأفلاطونيّة والأرسطيّة- من جهة، والمذهب الاسمانيّ من جهة أخرى. وقد اختلف القائلون بالكلّيّات على قولين أساسيّين؛ الأوّل هو القول بأنّ الكلّيّات موجودة بوجود منحاز عن الذّهن والعالم الطّبيعيّ، ولها عالمها الخاصّ الثّالث، وهو القول المنسوب إلى أفلاطون والمسمّى بالقول بالمثل الأفلاطونيّة.

والثّاني هو المذهب الأرسطيّ الّذي ذهب إلى أنّ الكلّيّات متحقّقة في الذّهن، ولكنّها حاكية عن حقائق خارجيّة متحقّقة ضمن الأفراد الطبيعيّين؛ فالإنسان الكلّيّ وفق المذهب الأفلاطونيّ هو مثاله المجرّد والمتمحّض في الإنسانيّة دون أيّ زوائد مادّيّة، أو عوارض مشخّصة فرديّة، وهو المتحقّق في عالم خاصّ فوق عالم الطّبيعة. أمّا وفق المذهب الأرسطيّ، فالإنسان موجود في زيد، وبكر، وسائر الأفراد، وهو أمر مختلف عن الخصائص الشّخصيّة للأفراد. وقد حظي هذا البحث بنقاشات عديدة، وكان معركة للآراء حتّى لدى الفلاسفة المتأخّرين، ولسنا الآن بصدد تحقيق ما هو حقّ أو باطل في المسألة.

وما يهمّنا هو القول النّافي لواقعيّة الكلّيّات، والّذي يعتبر أنّ وجودها الذّهنيّ هو محض وجود أسماء وألفاظ لا تحكي عن واقعيّات خارجيّة –بغضّ النّظر عن تفسيرنا لهذه الواقعيّات-، فلا جامع حقيقيّ وخارج الذّهن لما هو كلّيّ. هذا هو المذهب الاسمانيّ، وقد تقدّم تعريفه في ما سبق.

بناءً على ما تقدّم، إنّ القول بانحصار الواقعيّة في عالم المادّة، بما في ذلك المعرفة، يجعل “الكلّيّات” خارجة عن معناها بالكلّيّة؛ لأنّ طبيعة الكلّيّ، وهو الأمر العامّ، الّذي لا يكون مشروطًا بالخصائص المعيّنة، لا يمكن أن تكون مادّيّة؛ لأنّ المادّيّ لا يتحقّق دون تشخّص لخصائص معيّنة مادّيّة. فمثلًا، لو أخذنا مفهوم “المثلّث”؛ هو مفهوم عامّ يدلّ على شكل له ثلاثة أضلاع تتقاطع في ثلاث نقاط مشكلّة ثلاث زوايا داخليّة، هذا هو المثلّث فقط لا غير.

ولكنّ هذا التّعريف لا ينظر إلى لون المثلّث، أو كونه متساوي الأضلاع، أو غير متساويها، فهو ينطبق على المثلّث المتساوي الأضلاع، وعلى المثلّث غير المتساوي الأضلاع. وأمّا في الواقع الخارجيّ، فلا يمكن أن يتحقّق مثلّث متمحّض بالمثلّثية الكليّة. من هنا، ذهب القائلون بانحصار الواقعيّة بالمادّة إلى أنّ المثلّث الكلّيّ غير متحقّق أبدًا؛ بل هو مجرّد لفظ واسم، بخلاف المذهب الأرسطيّ الّذي ذهب إلى ما يسمّى الكلّيّ الطّبيعيّ، والمذهب الأفلاطونيّ القائل بالمثل. ولذا، نجد أنّ ارتباط المذهب الاسميّ بالقول بانحصار الواقع بعالم المادّة هو ارتباط وثيق، بحيث نجد أنّ أئمة المذهب الحسّيّ يرون “أنّ كلّ ما يحصل [من معرفة] إنّما يحصل من خلال الحواسّ، وما يصطلح عليه بالكلّيّة لا يعدو كونه أسماء فقط (أسماء اصطلح عليها)”([1]).

ومن الأمور الّتي لا بدّ من التنبّه لها، أنّ الفلاسفة الإلهيّين كانوا ملتفتين بدرجة واضحة جدًّا إلى قضيّة ارتباط القول بالكلّي بالقول بعدم انحصار الواقعيّة بما هو محسوس ومادّيّ. والشّيخ الرّئيس ابن سينا، في أوّل فصل من فصول الإلهيّات العامّة من كتاب الإشارات والتّنبيهات، يتعجّب كيف يقول قائل بانحصار الواقعيّة بالمحسوسات مع القول بوجود الكلّيّات. وبالتّالي، يكون القول بالانحصار قولًا بالاسمانيّة؛ حيث يقول ما لفظه:

“وأنت يتأتّى لك أن تتأمّل نفس المحسوس، فتعلم منه بطلان قول هؤلاء، لأنّك، ومن يستحقّ أن يخاطب، تعلمان أنّ هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد لا على سبيل الاشتراك الصّرف؛ بل بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان، فإنّكما لا تشكّان في أنّ وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود. فذلك المعنى الموجود لا يخلو إمّا أن يكون بحيث يناله الحسّ، أو لا يكون. فإن كان بعيدًا من أن يناله الحسّ، فقد أخرج التّفتيش من المحسوسات ما ليس بمحسوس، وبهذا أعجب. وإن كان محسوسًا، فله لا محالة وضعٌ وأينٌ ومقدارٌ معيّن، وكيف معيّن، لا يتأتّى أن يحسّ؛ بل ولا أن يتخيّل إلّا كذلك. فإنّ كلّ محسوس، وكلّ متخيّل، فإنّه يتخصّص لا محالة بشي‏ء من هذه الأحوال. وإذا كان كذلك، لم يكن ملائمًا لما ليس بتلك الحال، فلم يكن مقولًا على كثيرين مختلفين في تلك الحال. فإذن، الإنسان من حيث هو واحد الحقيقة؛ بل من حيث حقيقته الأصليّة الّتي لا تختلف فيها الكثرة غير محسوس؛ بل معقول صرف. وكذلك الحال في كلّ كلّيّ”([2]).

هذا النّصّ كما هو واضح، لا يقيم الدّليل على نقض الاسمانيّة بقدر ما هو تصريح بلزوم انحصار الواقعيّة بما هو محسوس للقول بالاسمانيّة.

وقد أقيمت أدلّة كثيرة لدفع القول بالاسمانيّة، والّتي يستتبعها دفع القول بانحصار الواقعيّة بالمادّة، بعض هذه الأدلّة جدليّة؛ حيث تذكر أنّ القول ببطلان الكلّيّات وعدم وجودها سيؤدّي إلى بطلان نتائج كلّ العلوم، وبالتّالي عدم صلاحيّة شيء منها للمعرفة. فالطّبّ مثلًا، يعطي نتائج عامّة للجسم البشريّ، ويصمّم الكيميائيّ أدوية للأمراض المختلفة بشكل كلّيّ، وهكذا بقيّة العلوم. والقول بأنّ الكلّيّات أمور اسمّية لا واقعيّة، لها سارية في الأفراد الخارجيّين، يعني بشكل صريح “إنّ القوانين والتّصنيفات العلمّية، نظرًا إلى كونها عامّةً وكلّيّةً في تطبيقها، تشير بالضّرورة إلى الكلّيّات، ووظيفة العلوم الطبيعيّة هي اكتشاف الحقائق الموضوعيّة المستقلّة عن الذّهن. وهذا يعني أنّ قبول نتائج العلوم الطبيعيّة، يتضمّن القبول بوجود كليّات مستقلّة عن الذّهن. […] فإنّ قبول نتائج هذه العلوم يحتّم على المرء القبول بوجود مثل هذه الأشياء المجرّدة”([3]).

بل إنّ أيّ معرفة صحيحة تعني، في افتراض أنّها صحيحة، أن تكون مطابقة لما هو خارج الذّهن. فالقضيّة أمر ذهنيّ يحكي عن أمر خارجيّ، إن طابقته كانت القضيّة صحيحة، وإن لم تطابقه كانت خاطئة؛ كقولنا “اللّون الأبيض يوسّع حدقة العين عند التحّديق به”، هنا نحكم على اللّون الأبيض عمومًا، سواء أكان بياض العاج أم بياض الثّلج أو غير ذلك؛ بل أعمّ من أن يكون بياض هذا الثّلج أو ذاك، وهكذا. وبالتّالي، إنّ صحّة القضيّة تستبطن مطابقتها لموضوع خارجيّ هو البياض الكلّيّ، الّذي يكون متحرّرًا من كونه ثلجيًّا أو عاجيًّا، وهكذا. وإلّا، لو لم تتحقّق المطابقة، لما أمكن الحكم بصدق في أيّ قضيّة، سوى القضيّة الشّخصيّة الّتي تنطبق على فرد شخصيّ، في إطار زمنيّ ومكانيّ محدّد.

ومن هنا، فإنّ القول بنفي الكلّيّات هو قولٌ بتعطيل المعرفة على أقلّ تقدير، حتّى إنّ نفي الكلّيّات من حيث كونه معتقدًا للاسمانيّين يكذّب نفسه؛ إذ نفس مفهوم “الكلّيّ” كلّيٌّ في نفسه، فلن يكون حاكيًا عن شيء في نفس الأمر والواقع، بناء على مذهبهم، حتّى يكون محلًّا للنّقض على ما ذهبوا إليه.

وعليه، تقع قضيّة إلى جانب القول بالاسمانيّة، وهي أنّ كون الواقعيّة فقط مادّيّة، يجعل من الذّهن والمعرفة أمورًا عصبيّة ودماغيّة محضة، وهذا يؤدّي بنا إلى عين المحذور السّابق من إبطال أيّ معنى للفكر والمعرفة والتّواصل، وذلك لأنّه عندئذ ستكون “خلاصة التّبرير المادّيّ للإدراك على أساس الرّؤية المادّيّة الرّسمية هي أن نعتبر الإدراك خصوصيّة دماغيّة، والدّماغ تركيبًا ماديًّا دقيقًا لا نظير له، فنعطي من خلال ذلك للإدراك صفة مادّيّة صرفة. ولا بدّ في مثل هذه الحال أن نعتبر الإدراك ردّة فعل فيزيوكيماويّة يبديها جهاز الإنسان العصبيّ تُجاه عوامل المحيط والبيئة الفيزيوكيماويّة […] على أساس ما تمّ ذكره في مضمار أصالة المادّة، فالطّريق الوحيد الّذي يبقى أمام المادّيّين هو الاعتراف بنسبيّة الحقائق، أي الاعتراف بأنّ حواس الكائنات الحيّة تخلق صورًا متباينة على أساس نوعها، وتركيبة خلقتها، مع الاعتراف أيضًا بواقعيّة جميع هذه الصور”([4]).

المبدأ الثّاني: إنكار إمكانيّة التّفكير المجرّد عن القضايا والمقدّمات الحسّيّة

هذا المبدأ يقع في طول المبدأ السّابق، وحاصله –كما صرّح دوكينز- أنّ التّفكير الّذي لا يكون منطلقًا من المقدّمات الحسّيّة والتّجريبيّة هو تفكير لا يمكن الاعتماد عليه. وهذا، بوجه من الوجوه، حصر لمنهج المعرفة بالمنهج الحسّيّ التّجريبيّ كما هو واضح. ولكن، ما سنتناوله هو عبارة عن نقدٍ معرفيّ لهذه القضيّة، من خلال بيان أنّ هذا الكلام في جوهره إنكار للبديهيّات العقليّة، والّتي يؤدّي إنكارها، بالضّرورة، إلى تعطيل أيّ معرفة ممكنة، وبالتّالي الخروج عن أيّ نسق معرفيّ فلسفيّ كان، أو تجريبيّ، أو غير ذلك.

أمّا بيان كون القول بانحصار التّفكير بما كان مأخوذًا مباشرة من الحسّ والملاحظة المباشرة يلزم منه إنكار البديهيّات والأوّليّات العقليّة؛ فلوضوح أنّ الأوّليات العقليّة هي قضايا تسبق أيّ معرفة نظريّة، وهي أمر لا يؤخذ فيه كونه حسّيًّا من حيث متعلّقه الخارجيّ، فاستحالة اجتماع النّقيضين، مثلًا، أو قضيّة أنّ الجزء لا يكون أكبر من الكلّ، هي –مضافًا إلى كونها قضايا كلّيّة لا تنسجم مع المذهب الاسمانيّ- تسبق المعرفة بها التّجربةُ والملاحظةُ الحسّيّة أصلًا.

وبالتّالي، قبل أن نشاهد أو نلاحظ لنأخذ من الواقع الخارجيّ أيّ “قطعة”، كما يعبّر دوكينز، نكون مصدّقين -وفق الجهاز الإدراكيّ الواقعيّ- بهذه القضايا، وتصديقنا بها ليس محض ألفاظ أو تشكيلات لقوالب ذهنيّة محضة؛ بل تصديق له منشأ واقعيّ ومطابق للواقع.

ولا نقصد بهذا –وهذه نقطة مهمّة- أنّ القضايا البديهيّة الّتي تسبق أيّ معرفة حسّيّة إنّما تسبقها زمانًا، حتّى يأتي السّؤال عن كون المعارف البديهيّة تولد مع الإنسان أو يولد صفحة بيضاء خالٍ منها؛ بل كلامنا عن السّبق الرّتبيّ، بحيث إنّ أيّ إدراك -ولو حسيّ أو بمحض الملاحظة الحسّيّة- لا بدّ أن يكون مسبوقًا، أو مقترنًا زمانًا، بالحكم الأوّليّ البديهيّ بأنّ النّقيضين لا يجتمعان، مثلًا. وبالتّالي، لا يمكن القبول بالمبدأ الإبستمولوجيّ الّذي ذكره دوكينز –وغيره بطبيعة الحال–، بأنّ كلّ معرفة هي حسّيّة، أو تتضمّن ملاحظة حسّيّة في مرتبة سابقة.

وتفصيل ذلك، أنّ مبدأ استحالة اجتماع النّقيضين، والّذي يعتبر أوّل الأوائل وأبده البديهيّات، لو لم يسلّم قبل الملاحظة الحسّيّة للزم من ذلك إمكان أن يجتمع الشّيء وعدمه، وبذلك لن يحكم الذّهن بأنّ ما يشاهده حسّيًا هو عين ما يشاهده؛ بل لا يمكنه أن يحكم بأنّ ما يشاهده موجودٌ ومتحقّقٌ، ولا أن يحكم أنّه غير موجود ومعدوم.

وبالتّالي، إنّ المشاهدة الحسّيّة تفقد القيمة المعرفيّة في نفسها، دون أخذ المبدأ القائل بأنّ الإيجاب والسّلب لا يجتمعان معًا من جهة وحيثيّة واحدة. فلو قلنا لدوكينز إنّ اعتمادك على المعرفة الحسّية فقط، والّتي تقول أنّ ما يكون غير حسّيّ لا قيمة له، يستند إلى إقرار بمعرفة غير حسّيّة بالنّحو المطلق، أعني قضيّة استحالة اجتماع النّقيضين. فالقول بأنّ كلّ معرفة هي حسّيّة، بالضّرورة، قضيّة تكذب نفسها بالضّرورة. ومن هنا، ذكر الفلاسفة الإلهيّون كثيرًا من النّقائض على هذا المبدأ، وهي نقائض تنبيهيّة لوضوح المسألة لدى العقل.

ومن التّنبيهات الّتي يذكرها بعض الحكماء والفلاسفة الإلهيّين، حول قضيّة استحالة اجتماع النّقيضين، أنّ إنكارها أو حتىّ التّشكيك فيها يخرج الشّخص عن أيّ نسق معرفيّ؛ بل حتّى أيّ نسق لغويّ. وحاصله، أن يقال أنّ أيّ شخص لو تكلّم بأيّ كلام، فما يستعمله من الألفاظ إمّا أن يقصد به معنى معيّنًا أو أن لا يفعل، فإن لم يقصد معنى معيّنًا يخرج عن أدب الحوار والمناظرة والمعرفة، إذ محلّ الكلام أنّ مُنكرَ المعرفة غير الحسّيّة منكرٌ للقضيّة البديهيّة الّتي تسبق حتّى المشاهدة الحسّيّة. وهذا ادّعاء يفهمه قائله.

وأمّا لو قصد معنى معيّنًا، كما لو قال لفظ (الحائط) وأراد به الدّلالة على معنًى معيّن، فلا يكون عندئذ دالًّا على (اللّاحائط)، ويتمّ المطلوب من أنّ النّقيضين لا يجتمعان، وأنّ لفظًا واحدًا لا يجتمع فيه معنيان متناقضان، ولا يدلّ على الشّيء ونقيضه.

وأمّا لو قال أنّ معنى (اللّاحائط) يُفهَم كما يُفهم معنى الحائط من لفظ (الحائط)، فهذا يلزمه إمكان أن يدلّ على معنى كلّ شيء غير الحائط؛ من الحجر والشّجر إلى غير ذلك من الأمور الّتي تندرج تحت (اللّاحائط)، وهو خلاف الفرض من أنّ لفظ الحائط يدلّ على معيّنٍ معيّنٍ يقصده. هذا مضافًا إلى أنّه لو دلّ على أشياء كثيرة فلا يستقيم الفهم من اللّفظ شيئًا، فلن يُفهم عندئذ من لفظ (الحائط) شيئًا.

وهذا التّنبيه يؤدّي إلى أنّ إنكار المعرفة البديهيّة القبليّة يعطّل حتّى النّطق بالكلام والتّفاهم بالألفاظ، وهو كلام متين ذكره ابن سينا في الشّفاء، حيث قال: “إنّك إذا تكلّمت فلا يخلو إمّا أن تقصد بلفظك نحو شيء من الأشياء بعينه، أو لا تقصد. فإن قال إذا تكلّمت لم‏ أفهم شيئًا، فقد خرج هذا من جملة المسترشدين المتحيرين، وناقض الحال في نفسه، وليس الكلام معه هذا الضّرب من الكلام. […] فإن‏ قال: إذا تكلّمت فهمت به شيئًا بعينه، أو أشياء كثيرة محدودة.

فعلى كلّ حال، فقد جعل للّفظ دلالة على أشياء بأعينها لا يدخل في تلك الدّلالة غيرها. […] وإذا كان الاسم دليلًا على شي‏ء واحد، كالإنسان‏ مثلًا، فاللّاإنسان‏ -أعني ما هو مباين للإنسان-‏ لا يدلّ عليه ذلك الاسم بوجه من الوجوه. فالّذي‏ يدلّ عليه اسم الإنسان لا يكون الّذي يدلّ عليه اسم اللّاإنسان‏، فإن كان الإنسان يدلّ على اللّاإنسان، فيكون لا محالة الإنسان، والحجر، والزّورق، والفيل شيئا واحدًا؛ بل يدلّ على الأبيض، والأسود، والثّقيل، والخفيف، وجميع ما هو خارج ممّا دلّ عليه اسم الإنسان. وكذلك حال المفهوم من الألفاظ هذه، فيلزم من هذا أن يكون كلّ شيء، وأن يكون ولا شيء من الأشياء نفسه، وأن لا يكون للكلام مفهوم”([5]).

وبهذا، يتبيّن أنّ قول الملحد الجديد دوكينز أنّ “شعوري أنا، على العكس، سيكون بشكل تلقائيّ عبارة عن شكّ عميق في أيّ طريقة تفكير تصل إلى نتيجة عظيمة الأهميّة كتلك، بدون وجود أيّ معلومة من العالم الحقيقيّ [أي الحسّيّ]”([6])، ينفي أصل المحاولة للنّقد، والتّواصل، والطّرح المعرفيّ؛ إذ إنّ أصل انطلاقة الفكر إنّما يكون غير حسّيّ. وبالتّالي، فتركيب القضايا الصّادقة غير الحسّيّة لإنتاج قضايا صادقة لا يخرج عن كونه برهانيًا صادقًا.

المبدأ الثّالث: إنكار عدم صلاحيّة العلوم الطّبيعيّة للبتّ في قضيّة وجود الإله

ما يذكره دوكينز من استهزاء، بالقول بأنّ قضية الإله ليست من القضايا الطّبيعيّة الّتي يمكن للعلوم الطّبيعيّة البتّ فيها، يكشف عن أحد أمرَين؛ الأوّل فلسفيّ والثّاني إبستمولوجيّ، وقد يكشف عنهما معًا في البنية الفكريّة لديه. الأمر الأوّل هو أنّه يرى الإله شيئًا مادّيًّا على فرض وجوده.

وبالتّالي، يمكن للعلوم الطبيعيّة أن تناله من حيث الإثبات والنّفي. وهذا الأمر يتناسب مع ما يذكره من انحصار الواقع بالمادّة، إذ هو قد حسم بشكل قبليٍّ أنّ كلّ ما يكون موجودًا هو مادّيّ، ومنه الإله. والأمر الإبستمولوجيّ يتعلّق بقضيّة المنهج في العلوم، وطبيعة التّفاوت والاختلاف بينها، فلا بدّ من تمييز أيّ مسألة تندرج تحت أيّ علم وفق ما تقتضيه نفس المسألة.

وإذا أردنا أن نشبّه الأمر بمثالٍ حسّيّ، فلا يمكن لما يوزن به ثقل الأجسام أن يوزن به حرارة الأجسام. فلو قلنا إنّ الطّبيعيّات، وعلوم البيولوجيا، والكيمياء، أمور تكشف عن واقعيّات محدّدة حول بعض الموجودات بآليّات تجريبيّة حسّيّة، فلا يمكن لقضية -هي أصلًا خارجة عن هذا الإطار الحسير- أن تقع ضمن مسائل هذا العلم، ولو جاز لأيّ علم دراسة أيّ قضية من أيّ جهة كانت، لما تحقّق معنى لتعدّد العلوم، والاختصاصات، والمناهج.

لذا، يذكر في المحافل العلميّة أنّ “العلم هو وسيلة لمعرفة العالم الطّبيعيّ، حيث يقتصر على شرح العالم الطّبيعيّ من خلال الأسباب الطّبيعيّة. لا يمكن للعلم أن يقول شيئًا عن ما هو خارق للطّبيعة، ما إذا كان الله موجودًا أم لا هو سؤال حول أيّ علم محايد “([7]).

وتفصيل هذا الأمر، أنّ العلوم تنقسم وفق أحد التّقسيمات إلى علوم حقيقيّة، وعلوم اعتباريّة. والاعتباريّة هي العلوم الّتي تبحث عن موضوعات لا تعيُّنَ ولا وجودَ لها في الخارج –أي خارج إطار الاعتبار البشريّ-، كالعلوم القانونيّة، وعلوم اللّغة الّتي تبحث عن أحكام.

وأمّا العلوم الحقيقيّة، فهي العلوم الّتي تبحث عن أحكام موجودات واقعيّة ليست باعتبار المعتبر، كالطّبّ الّذي يبحث عن أحكام الجسم من حيث الصّحة والمرض، وكالفيزياء الّتي تبحث عن أحكام الجسم من حيث الحركة والسّكون، وكالفلسفة الّتي تبحث عن أحكام الموجود من حيث هو موجود. وكلّ علم حقيقيّ يتحدّد منهجه البحثيّ وفق موضوعه الخاصّ. فالبحث، مثلًا، عن أحكام الجسم يقتضي منهجًا متناسبًا مع الجسم؛ بحيث يستبطن المنهج المشاهدات الحسّيّة، والتّجربة، وغير ذلك.

وأمّا لو كان العلم يبحث عمّا هو غير مادّيّ، أو غير جسمانيّ، أو حتّى يبحث عن الأمور الجسمانيّة لكن لا من حيثيّة كونها أجسامًا؛ بل من حيثيّة كونها موجودة، مثلًا، فعندئذ لا ينتهج العلم الباحث عنها من هذه الحيثيّة منهجًا تجريبيًا حسّيًا. إذا تبيّن ذلك، يتّضح أنّ كيفيّة البحث عن أيّ قضيّة إنما يتحدّد من خلال البتّ، أوّلًا، إلى أيّ العلوم تنتمي. فإن كانت المسألة فلسفيّة تجريديّة، فلا يمكن أن تبحث وفق آليّات تجريبيّة، وبعبارة أخرى:

“نعتقد أنّ اختصاص كلّ علم ببعض الأصول، واتّباعه منهجًا خاصًا، ينشأ وينبع من موضوع ذلك العلم، لأنّ الأصول المتعارفة والموضوعة لكلّ علم عبارة عن مجموعة أحكام قطعيّة، أو وضعيّة، يتوفّر عليها العقل في موضوع ذلك العلم […]. أمّا الأسلوب والمنهج في كلّ علم فهو عبارة عن لون من الارتباط الفكريّ الخاصّ، الّذي ينبغي أن يتمّ بين الإنسان وموضوع ذلك العلم. وبديهيّ أنّ لون الارتباط الفكريّ بين الإنسان وأيّ شيء من الأشياء يرتهن بطراز وجود وواقعيّة ذلك الشّيء”([8]).

ويمكن إرجاع هذا الإشكال المنهجيّ الإبستمولوجيّ، الّذي وقع فيه دوكينز، إلى المبدأ السّابق؛ وهو كون عدم إيمانه بالتّفكير التّجريديّ، الّذي قد نسمّيه القياس البرهانيّ مقابل الاستقراء والتّجربة، يعود إلى عدم إيمانه أصلًا بواقعيّة مطلق تفكير غير حسّيّ تجريبيّ.

في الختام

يظهر من مجمل ما تقدّم، أنّنا لو غضضنا النّظر عن مناقشات الملحدين الجدد، وخصوصًا مناقشات دوكينز للحجج الّتي نقلها حول إثبات وجود الإله، والّتي لو خضنا في نقاشها لتبيّن معنا، أوّلًا، عدم استقامة فهمه للحجج على المستوى التّصوّريّ والتّصديقيّ -كما أشرنا سابقًا-، ولو وتوجّهنا إلى الأسس المعرفيّة والإبستمولوجيّة الّتي يبني عليها نسقه الفكريّ والمعرفيّ، لتبيّن معنا أنّه يعتمد على أصول ومبادئ تنقض نفسها ويلزم القول بها بطلانها –كما تبيّن في المبدأ الثاني-، أو هي مبادئ تلزمه ببطلان أيّ معرفة؛ حتّى المعرفة الّتي يدّعيها في مجال معرفة الواقع المادّيّ والطّبيعيّ –كما تبيّن في المبدأ الأول-، أو هي مبادئ لا تفرّق بين مبادئ العلوم ومناهجها –كما تبيّن في المبدأ الثّالث-.

بناءً على ما سبق، إنّ الإلحاد الجديد هو ختم على أصل المعرفة والمحاورة العلميّة، وهو أمر يهدم أصل البناء الّذي ابتني عليه، قبل الخوض في الحجج والمناقشات. ويتبيّن أن إخراجهم الاعتقاد بالإله جاء بعد تضييقهم لمعنى المعرفة؛ ليكون خاصًّا بالمعرفة الحسّيّة، والّتي هي بدورها أصلًا لا تتمّ بدون ما هو غير حسّيّ كما تبيّن.

ومن التّوصيات التي يذكرها بعض الباحثين، والّتي تؤكّد على ما توصّلنا إليه، قوله: “أعتقد أنّ الملحدين بحاجة إلى إعادة النّظر بجّدية في كيفيّة تفكيرهم في المعرفة البشريّة بشكل عامّ، وربما يرجعون إلى المفهوم الكلاسيكيّ لـ (sceintia)، وهي الكلمة اللّاتينية الّتي اشتقّ منها )العلم( (science). ولكنّ هذا له دلالة أوسع على مطلق المعرفة (تمّ التوصّل إليها بعقلانيّة)، يضمّ مفهوم (sceintia) العلوم بالمعنى الدقيق للكلمة والفلسفة والرّياضيات والمنطق”([9]).


([1]) محمّد عبد المهدي سلمان الحلو، الاسميّة في التّراث الغربيّ والنّقد الواقعيّ الإسلاميّ، ص 41.

([2]) ابن سينا، الإشارات والتّنبيهات، ص 95.

([3])         Edward Feser, The Last Superstition, p69.

“Scientific laws and classifications, being general or universal in their application, necessarily make reference to universals; and science is in the business of discovering objective, mind-independent facts… to accept the results of science thus commits one to accept that there are such abstract objects”.

([4]) غلام حسين الإبراهيمي الدّيناني، القواعد الفلسفيّة العامّة في الفلسفة الإسلاميّة، ص 10 و14.

([5]) ابن سينا ، إلهيّات الشفاء، ص 51- 52.

([6]) Richard Dawkins, The God Delusion, p. 82.

“My own feeling, to the contrary, would have been an automatic, deep suspicion of any line of reasoning that reached such a significant conclusion without feeding in a single piece of data from the real world”.

([7])         National Academy of Sciences, Teaching about Evolution and the Nature of Science, p.58.

  “Science is a way of knowing about the natural world. It is limited to explaining the natural world through natural causes. Science can say nothing about the supernatural. Whether God exists or not is a question about which science is neutral”.

([8]) مرتضى مطهّري، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، مجلد2، ص 23.

([9]) Massimo Pilglucci, New atheism and Sceintism, p. 153.

I think that atheists need to seriously reconsider how they think of human knowledge in general, perhaps arching back to the classic concept of “scientia,” the Latin word from which “science” derives, but that has a broader connotation of (rationally arrived at) knowledge. Scientia includes science sensu stricto, philosophy, mathematics, and logic.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

قراءة في ظاهرة الإلحاد ودوافعها

في هذه الإطلالة، سيتمّ التّركيز على نقطة محوريّة؛ وهي أنّ صورة الإله الّتي تمّ إنكارها لدى…