قراءة في ظاهرة الإلحاد ودوافعها
الشّيخ سمير خير الدّين(*)
(*) -أستاذ في الحوزة العلميّة، باحث في معهد المعارف الحكميّة، مدير الثقافة والتربية الدينيّة في المؤسسة الإسلاميّة للتّربيّة والتّعليم.
ربّما يصحّ الدّخول إلى مسألة الإلحاد من باب كونها ظاهرة، لها تاريخها لدى بعض الأفراد، وقد أُطلقت كلمة “الدّهريّين” على منكري الله تعالى، والتّسمية بلحاظ ورودها في الآية الكريمة: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ([1])﴾. فطوال التّاريخ الإسلاميّ، تواجد أفراد دهريّون، ولا سيّما في العصر العبّاسيّ، وكان كتاب “توحيد المفضل” نتاج مواجهات عقائديّة آنذاك.
في هذه الإطلالة، سيتمّ التّركيز على نقطة محوريّة؛ وهي أنّ صورة الإله الّتي تمّ إنكارها لدى الملحدين هي صورة الإله الّتي تمّ تخيّلها أو توهّمها في مخيّلة الملحدين، وبالتّالي فإنّ جوهر الإلحاد هو رفض للمتخيَّل وللمتوهّم، أي للصّورة الّتي تكوّنت، فهو “حالة رفضيّة” لتلك الصّورة، وليس نقضًا وإبطالًا للواقع والوجود، فالوجود متحقّق بذاته، شاء من أنكر ذلك أو لم يشأ.
وعليه، فإنّ رفض الحقيقة والواقع لن يغيّر من الحقيقة والواقع شيئًا، وسيبقى الرّفضُ حالة نفسيّة اعتراضيّة، لا تتجاوز حدود الذّهن، أو الحسّ، أو الخيال، أو الوهم؛ فالصّورة قد تعكس واقعًا حقيقيًّا عندما تطابق الواقع، غير أنّها لا تصنعه إلّا في عالم الاعتبارات. من هنا، يبدو أكثر أنّ الشبهة لدى الملحدين تتمحور حول الصّورة الّتي تمّ بناؤها وتشكيلها عن الله تعالى؛ وهذا يعني أنّ بناء الصّورة قد سبق إنكارها.
ومحلّ الاشتباه هو في مواجهة التّساؤلات التّالية: كيف تمّ بناء التّصوّرات عن الله تعالى؟ ومَن هو الله تعالى في ذهن الملحد وتصوّراته؟ وما هي صفاته وأفعاله؟ وكيف تكون علاقته بالعالم؟ وما هو السّبب الذي دعاه لرفض تلك التصوّرات؟
بناءً على ذلك، يمكن أن تتشكّل عشرات الصّور عن الله تعالى، والأسباب كثيرة؛ فقد تكون نتاج الوهم، أو التقاط شبهة، أو بيئة موبوءة روحيًّا، أو تصوّرات فلسفيّة منحرفة، أو تأثّرًا بموروثات ساذجة، أو انفعالًا نفسيًّا مَرَضيًّا، أو قصورًا في بعض المفاهيم الأيديولوجيّة أو الدينيّة لدى بعض الأديان في الشرق أو الغرب…
أوّلًا: التّغاير بين العمر البيولوجيّ والعمر العقائديّ
من الأمور الملفتة، أنّ شخصًا ما يعيش عمرًا مديدًا يمكن أن يحمل صورة عن الله في ذهنه يجلّ الله تعالى عن الاتّصاف بها؛ وهذا قد يحصل حتّى لدى المعتقدين بالله تعالى، حيث يلتحق بدرس دينيّ ما في بداية شبابه أو يقرأ كتابًا ما، أو يستمع إلى فكرة عقائدية هنا، أو يلتقط فكرة هناك، ثمّ يقتصر على ذلك المقدار، فيصير بعمر الخمسين مثلًا من ناحية جسديّة، ولكنّ عمره العقائديّ لا يتجاوز الأشهر، فهو يتنامى جسديًّا، ولا يتعزّز عقائديًّا وروحيًّا، فيعيش طيلة العمر بكلّ تحوّلاته ومحطّاته وآلامه ولذّاته، وهو مستقرّ على الصّورة الّتي انطبعت في ذهنه عن الله أيام الصّبا، وقد يحمل مفهومًا ناقصًا أو مغلوطًا عن الله تعالى، وربّما يموت على ذلك.
وعليه، يكون التّوحيد عنده مجموعة من المصطلحات والأفكار الصّعبة الّتي لا تقدّم ولا تغيّر في مجرى الحياة وسننها وأحداثها، فيعيش عالم الشّهادة مفكّكًا عن عالم الغيب، حارمًا نفسه من الإحاطة، والمدد، واللّطف الإلهيّ في كلّ صغيرة وكبيرة.
ولولا ارتكاز التّوحيد الفطريّ في قلبه لما عاش التديّن في حياته العمليّة أصلًا. وبتعبير آخر، هو يعيش العقائد في فطريّتها أكثر من عيشها في مفاهيمها ومدلولاتها، هذا عند بعض المعتقدين باللّه تعالى! فكيف بمَن يُنكرون الله تعالى؟! وأيّ حجاب قد وضعوه على بصائرهم؟!
ثانيًا: جوهريّة الإيمان بالله وعرَضيّة الإلحاد
إذا انطلقنا من ثابتة دينيّة وتاريخيّة ووجدانيّة ترى بأنّ الدّين أمر “فطريّ”؛ ومعنى أنّه فطريّ أنّه متحقّق بالخِلقة، فهو أمر ذاتيّ، جبليّ، أصيل في الطّبيعة، لا يتمّ بالاكتساب، ولا يُنزع من الذّات، ولا ينتفي إلّا إذا انتفت الذّات، ولا يتغيّر أو يتبدّل مهما تبدّلت الظروف.
بناء لذلك تترتّب الأمور التّالية:
1- بما أنّ الإيمان فطريّ، فإنّ فطريّته تستلزم كونَ التديّن والميل نحو الله تعالى وفقَ الطّبيعة البشريّة، وبما أنّ الطبيعة البشريّة صادقة على الإنسان الماضي والإنسان الآتي، فهذا يكشف عن أنّ النّوع الإنسانيّ مفطور على الميل إلى الله، بغضّ النظر عن الزّمان، والمكان، والظّروف الأخرى.
2- نتيجة لذلك، يكون الإيمان باللّه تعالى معبّرًا عن “صحّة الإنسان، بينما يمثّل الاتّجاه الماديّ الحالةَ المَرَضيّة؛ لأنّه مخالف للسّير الطّبيعيّ لنظام الخِلقة؛ وبالتّالي يجب البحث عن سرّ الاتّجاه اللّادينيّ، بخلاف الأمر الفطريّ”([2]) الّذي يكون وفق الميل الذاتيّ للطّبيعة.
3- ما يكون ذاتيًّا لا تّطلب علّته، فالذّاتيّ لا يُعلّل، بخلاف العَرَضيّ الّذي لا بدّ له من علّة، فكلّ عرضيّ معلّل؛ وما يُسأل عن سببه في هذه الحالة هو الانحراف، لا الإيمان؛ ولذا جاء التّوصيف القرآنيّ بـ”الضّلال” لمَن يكون في حالة الضّياع، والحيرة، والشّكّ؛ حيث قالت الآية: ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾([3]). وعلّق العلّامة الطباطبائيّ بأنّه “عرّف الضّلال عن سواء السّبيل بالشّرك لمكان قوله: “فَقَدْ ضَلَّ”([4]). والحاصل، أنّ الإنسان بما هو إنسان بهذه الخِلقة مفطورٌ على السّبيل السّويّ، وعندما يحيد عنه إلى الكفر فقد خرج عن فطرته وأصله.
4- ولأنّ الأصالة للميل الفطريّ الّذي يمثّل صحّة الإنسانيّة، كان أصل الإِلحاد؛ يعني لغة “المَيْلُ والعُدول عن الشّيء”([5])، ولا يتحقّق العدول إلّا إذا كان مسبوقًا بحالة سابقة وإلّا لم يكن عدولًا. وبالتّالي، فالإلحاد عدول عن الحالة الأصليّة للإنسان، وهي الميل الفطريّ لله تعالى؛ وبتعبير آخر فإنّ جوهر الإلحاد يعني العدول والانحراف عن الطّبيعة الأصليّة التي طُبع عليها البشر؛ لذا كان حالة عَرَضيّة رفضيّة يتم بحث أسبابها؛ لأنها عرَضيّة.
ومن هنا، كان الإلحاد ظاهرة تتبدّى لدى أفراد في التاريخ، كحالة شاذّة، ولم يكن منهجًا مترابطًا. ويُلفت الشّيخ مطهّري إلى أنّ الثّابت تاريخيًّا هو أنّه “لا يوجد مذهب ماديّ محدّد ينكر ما وراء الطّبيعة بشكل تامّ، ويرى الوجود معادلًا للمادّة…” معتبرًا أنّه “لا يمكن أن نعثر على مذهب فلسفيّ محدّد له أتباعه أنكر ما وراء الطّبيعة بشكل تامّ. أمّا الأشخاص المادّيّون والدّهريّون، الّذين كانوا في أغلب الأزمنة، فهم على الأغلب أفراد متردّدون، شاكّون، يدّعون أنّ أدلّة الإلهيّين أدلّة غير مقنعة”([6]).
5- استنادًا إلى ما مرّ، تظهر مجموعة من الملامح لدى غالب الملحدين تشير إلى تلك الطّبيعة الجديدة من قبيل: فرحهم بإشاعة الإلحاد، والحِدّة في الطّرح، والموقف المُسبَق من عالم الدّين قبل الخوض في أيّ نقاش معه، واتّهامه بالأدلجة حتى صارت موضة لدى بعضهم، وردّة الفعل العنيفة في النّقاش، والاستهزاء بكلّ ما هو دينيّ، وطلبهم احترام وجهة نظرهم في الوقت الّذي لا يحترمون فيه نظر الغالب من القافلة البشريّة، وانهماكهم في الفسوق والهوى، ممّا يدل على أن وراء الإلحاد طوفانًا من الهوى الجارف.
وبالتالي، يتبيّن أنّ الإلحاد ليس سوى واجهة وقناع لاتّباع الشّهوات وإطلاقها، وأنّ مبالغتهم وإلحاحهم في الدّعوة إلى حريّة الرأي والتّعبير تبريرٌ لإطلاق العنان واللّسان، والفهم السّطحيّ السّاذج لجوهر الدّين وغايته وتصوّراته وتصديقاته، والفهم الملتوي للآيات القرآنية بما يتناسب مع وجهة الإلحاد؛ ممّا يدلّ على اعوجاج السّليقة، وحضورهم لدى بعضهم، وانعزالهم وخروجهم من نسيج المؤمنين ولو كانوا من ذوي الأرحام.. أضف إلى أنّ بعضهم لا تُجدي معه الحوارات، ولا تقديم الأدلّة والحُجج والبراهين؛ لأنّ الأصل في المشكلة لديه لم يعد دينيًّا أو عقليًّا؛ وهو ما يجعل الملحد يكثر من الجدال؛ “لأنه يبحث عن تحقيق انتصار على الرّموز الدّينيّة الّتي يكرهها، وعلى المجتمع الّذي يرفضه، وعلى السّلطة الّتي يتمرّد عليها، وقد يرفض أيّ أدلّة على الألوهيّة؛ لأنّ إلحاده يحقّق له ذيوع الصّيت بين أقرانه”([7]).
ثالثًا: بناء التصوّرات حول الله تعالى وتقديمها
يمكن الحديث هنا عن مسألتين في هذا المجال: الأولى تتمحور حول كيفيّة بناء تصوّراتي وتصديقاتي عن الله تعالى، والثّانية تدور حول كيفيّة تقديم التّصوّرات والتّصديقات عن الله تعالى.
المسألة الأولى: بناء العقيدة بالبرهان
1- فرق بين الأمرين؛ فعند الحديث عن كيفيّة بناء العقيدة لا بدّ من الاستناد إلى الأدلّة والبراهين الموصِلة إلى اليقين والحقيقة؛ وعدّة الوصول إلى اليقين والحقيقة يجب تحليلها ودراستها جيّدًا؛ والسّبب في ذلك هو أنّ سؤال العقيدة متعلّق بالمصير؛ أي مصير “الأنا”، وليس مصيرًا للآخرين المعاصرين أو لأناس في التّاريخ. وبالتّالي، فالمصير ليس مجرّد بحث ثقافيّ معرفيّ، فسؤال المصير سؤال ينطلق من الذّات، وهذا يعني أنّه من الباطن وليس من الخارج، وهو ينطلق في لحظة سيرورة الذّات من حال إلى حال، ولا ينطلق من لحظة سكون؛ ممّا يدلّ على أنّ الباطن لا ينفكّ عن نداء المصير ولا يهدأ.
وسؤال المصير سؤال مؤلِم ومُقلِق، وما لم تتحقّق الإجابة عليه من الذّات ستبقى الذّات في حالة من الوحشة والعذاب لشدّة ضجيج الصّدر وكثافة الطّلب، وهو كذلك حتى ولو كانت كلّ أضواء الدّنيا متوهّجة، فماذا ينفع نور من الخارج مع غشيان القلب، وظلمة الحيرة، والوحشة، والقلق من الداخل؟!
2- لماذا هذا الألم؟ يمكن القول أنّ الحياة في الدّنيا الّتي تعيشها “الذّات” في هذا العالم هي حياة واحدة، لا تتعدّد، وعليه فلكلّ فرد حياته، وعمره الخاصّ الذي يشكّل مقدار حياته، ولا يعيش المرء مرّتين في دنياه. نعم، يمكن أن نجد حياة أرقى من حياة في الدّنيا، فالحياة الطيّبة فيها أرقى من الحياة الحيوانيّة؛ قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾([8]).
من هنا، يُفهم شدّة الحرص على الحياة الدّنيا عند أهل المادّة، الّذين يرون هذه الحياة حياة نهائيّة. ومن جهة أخرى، فإنّ الحقيقة واحدة لوحدة الواقع، لاستحالة تقابل الواقع مع ذاته؛ لذا يستحيل واقعًا صدق الحقّ الباطل معًا، أو كون الغيب حقيقة وجوديّة وعدم كونه كذلك، أو وجود الآخرة وعدم وجودها… كلّ هذا لاستحالة تحقّق الشّيء مع عدمه، منطقيًّا.
ويترتّب على ذلك وحدة المصير للذّات، فلا يتعدّد، فليس للشّخص مصيران؛ بمعنى أنه لا يمكن أن يكون مآل الشّخص إلى الجنّة والنار معًا، أو في العقاب والثّواب معًا. نعم، قد يُعاقب على شيء، ويُثاب على شيء آخر، لكن لا يُتصوّر كونُه من أهل النّجاة في الوقت الّذي لا يكون فيه من أهل النّجاة في وقت واحد.
يتحصّل ممّا سبق وجود وحدة واقع وحقيقة، ووحدة حياة في عالم الدّنيا، ووحدة مصير؛ وهذا يُنتِج أنّه ما لم يحلّ سؤال المصير، من خلال التّدقيق في الوسائل المولّدة للمعرفة على مستوى تحليل التّصوّرات واكتساب التّصديقات اليقينيّة، سيعلو صراخ الشكّ في النّفوس، وستبقى في حالة عذاب يتلوه عذاب، وهذا ما لا يبرّده كلّ زينة الدّنيا؛ فلا يهدأ القلب ببريق الدّنيا. والمصير من شؤون الآخرة، وجواب الآخرة، يجب تعلّقهما بالآخرة، ولا تكون الدّنيا جوابًا للآخرة؛ لتغاير النّشأتين تغايرًا ماهويًّا.
المسألة الثّانية: تقديم العقيدة بأدلّتها أو بقيمتها أو بكليهما
1- قد تُقدّم العقيدة كما تُبنى، وهي تُبنى بالبراهين فتقدّم بالبراهين، غير أنّها ليست قاعدة مطّردة؛ لأنّ بناء العقيدة متعلّق بذات الشّخص، ومصيره، وخلاصه، ويقينه، وسكونه، ولذّته، وألمه. فهو معنيّ بذاته قبل أيّ شيء، لكنّ تقديم العقيدة تابع لطبيعة المُخاطَب بالعقيدة؛ فقد يكون فتى صغيرًا لم تتفتّح لديه مَلَكات البرهنة والاستدلال، فلا يصحّ عندها أن يُخاطَب بالعقيدة من خلال براهينها؛ لأنّه لن يعيَها، ولا تصحّ مخاطبته بما لا يدركه، فهذا خلاف الحكمة، وخلاف البلاغة الّتي يكون فيها البلاغ هو المركز في نظم الخطاب. لذا، لا بدّ من مراعاة مقتضى الحال، ومن أشهر تعاريف البلاغة أنّها “مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته”.
2- ويقتضي أحيانًا تقديم العقيدة بقيمتها وآثارها لا ببراهينها؛ أي بثمارها، وإصلاحها، وتغييرها، وطهرها، ونتائجها، وفعاليّتها في النّفوس على المستوى الفرديّ وعلى المستوى الاجتماعيّ. فكثير من النّاس ينجذبون إلى التّوحيد؛ لأنّ التّوحيد محقّق للكمال، والأنس، والأمان، والسّرور النّفسيّ، ومحقّق للوحدة الاجتماعيّة، والأمان الخارجيّ. وليس سبب انجذابهم إليه هو كثرة البراهين العقليّة والفلسفيّة؛ فلا يكون الهاجس لديهم إثباتيًّا؛ بل يكون الهاجس قيميًّا، فيأخذون بالشّيء لقيمته، لا لمجرّد أدلّته.
3- وقد يكون المُخاطَب شخصًا يريد بناء عقيدته؛ فهنا يمكن أن تُطرح العقيدة كما تُبنى؛ أي تقدّم بأدلّتها، ويمكن تقديمها بقيمتها، كما ويمكن الجمع بين الأمرين. وأحيانًا، تنتشر العقيدة بلسان العوامّ، وعندها –غالبًا- ما ستبتلى بالكثير من التّبسيط والتّشويه. وقد يتمّ طرحها بلسان مَن فهِمَها فهمًا سطحيًّا، معتقدًا أنّه قد التقط حقائقها، أو بلسان من استحكمَت وتمكّنت من نفسه الشّبهات، فيأتي ليسأل الإسلام أسئلة من خارج الإسلام، في الوقت الذي يكون فهمُه للإسلام فهمًا التقاطيًّا مبعثرًا مشوّشًا؛ بل كثيرًا ما يكون قد فهمه من خلال أعداء الإسلام، أو خصومه، أو السّطحيّين، أو المنخدعين ببعض الأسماء الاستشراقيّة الماديّة البرّاقة الّتي قرأت الإسلام من خارجه، وأرادت أن تُفهِمه المسلمين. والخلاصة، أنّه بناءً على طريقة عرض العقيدة وبنائها، يمكن أن تنشأ التّصوّرات المشوّهة عن الدّين، وهذه تستلزم رفض الدّين. وكذا، فإنّ الطّرح اللّامنطقيّ عن الله تعالى سيؤدّي إلى رفض الإيمان بالله تعالى.
4- من جهة أخرى، بما أنّ إثبات الإيمان خصوصيّة إنسانيّة، وهو مسألة مرتبطة بمنهج إنتاج المعرفة، حيث يتوسّل المثبِت طرائق تفكير العقل أحيانًا، وميلَ الفطرة، ومناهجَ الفهم البشريّ العقلائيّ للنّصوص أحيانًا أخرى كوسائل إثبات وكشف للحقائق والمعارف الإلهيّة؛ وبالتّالي، فإنّ الإله الّذي يُثبِته البرهانُ العقليّ وفق مبدأ العليّة هو عينه الّذي تميل إليه الفطرة بالخِلقة، فالانجذاب الفطريّ يتّجه نحو ذلك اليقين المنطقيّ، وكذلك فإنّ القلب يطمئنّ إلى عين ذلك الإله؛ وهو عينه الّذي نؤمن به وبأسمائه الواردة في النّصّ القرآنيّ الّذي يشكّل البعد المقدّس في شخصيّة المؤمِن. بناء على ذلك، يتحقّق الانسجام النّفسيّ في استقرار الإيمان في الإنسان؛ نظرًا للانسجام بين مدارك المعرفة الإيمانيّة.
5- ومن ناحية أخرى، العقل والفطرة إنسانيّان؛ إذ إنّ القوة العاقلة قوّة أو رتبة مقوِّمة للحقيقة الإنسانيّة، والفطرة هي الخِلقة الّتي خُلق عليها الإنسان؛ وعليه فلا تحقّق للإنسانيّة من غير النّفس النّاطقة ولا الفطرة؛ ويترتّب على ذلك أنّنا نثبِت الأمرَ الإلهيّ بالأمر الإنسانيّ، فيكون نفسُ التّركيب الطّبيعيّ الإنسانيّ أحدَ الطّرق الموصلة إلى المعرفة اليقينيّة بالله تعالى. وبتعبير آخر، يتحوّل الإنسانُ- بلحاظ ذاته وقواها وميولها- إلى دالّ، ويستحيل انفكاك الدّالّ عن مدلوله وفقًا لقانون التّلازم بين العلّة ومعلولها؛ وإذا صار الإنسان دالًّا على الله تعالى انطبق عليه مفهوم “الآية”، والآية هي العلامة([9])، ولا تنفكّ العلامة عن معلومها. وقد طرح المنطق القرآنيّ ذلك بقوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([10]).
من هنا، كان ما في الآفاق، وما في الأنفس آية إذا كان علامة، عندها يقال “الآيات الأنفسيّة” و”الآيات الآفاقيّة”، ولن يكون علامة إن لم يكن دالًّا. لذا، فالحيوان يحسّ بالعالم، لكنّه لا يشكّل نظرة كليّة عنه، فهو يحسّ به، لكنه لا يفسّره تفسيرًا رؤيويًّا، بينما الإنسان يستطيع الارتقاء بالمعرفة من الرّتبة الحسّيّة الدّنيا إلى الرّتبة الكليّة العليا عندما يُعمل القوّةَ العاقلة، ويمكن أن يهبط أو يبقى في الرّتبة الحسّيّة، فلا يرتقي إلى مراتب الكمال والسّير إلى الله تعالى. من هنا، كانت “المعرفة من مختصّات الإنسان، و(الإحساس) ليس كذلك؛ لأنّه من المشتركات بين الإنسان وسائر الحيوان. ولهذا، كانت (معرفة الكون) من مختصّات الإنسان، ومن المواضيع الّتي تتعلّق بقوّة العقل والتّفكير”([11]).
6- يُستخلَص، ممّا سبق، أنّه يمكن أن يعيش الإنسان في الدّنيا حياة بهيميّة ويموت كذلك، ولكن بالإيمان والأدب الإلهيّ يخرج من حدّ البهيمية إلى حدّ الإنسانيّة. وقد سمّى القرآن الكريم الغافلين بقوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾([12]).
وجاء في بعض الأدعية عن الإمام زين العابدين عليه السّلام: “وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدهِ عَلَى مَا أَبْلاَهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ لَتَصرَّفُوا فِيمِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كَانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدُودِ الانْسَانِيَّةِ إلَى حَدِّ الْبَهِيمِيَّةِ، فَكَـانُوا كَمَا وَصَفَ فِي مُحْكَم كِتَابِهِ: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾([13])“([14]).
رابعًا: تداخل أسباب الإلحاد وتنوّع مظاهره
يمكن الجزم بأنّ ظاهرة الإلحاد هي من الظّواهر الّتي تتداخل فيها العوامل الفكريّة والنّفسيّة والاجتماعيّة والبيئيّة، فهي ظاهرة كثيرًا ما تتركّب دوافعها، وقد تكون ذات بُعد واحد، خصوصًا في الجانب النّفسيّ؛ كما في حالة الملحد عند إثبات قدرته على الانتصار على محدّثه وإفحامه.
1- ساعد على انتشار الإلحاد البيئةُ الموبوءة بالإلحاد، فهي أرض خصبة للميل والنّشوء عليه. لذلك، غالبًا ما تكون البيوت الخالية من البصيرة وروح الهداية بيوتًا للحيرة والضّلال. ولشدّ ما تؤثّر أنفاس البيئة الملحِدة في نفوس الصّغار الّذين يحملون ما حمل آباؤهم، وبيئة النّبي نوح عليه السّلام شاهد على ذلك قرآنيًّا: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾([15]). وعلّق الشّيخ مغنيّة بقوله: “يدلّ هذا على أنّ الكفر والفجور قد طغيا على مجتمع قوم نوح، بحيث لا ينشأ فيه إلّا الكافر الفاجر. ومعلومٌ أنّ نفس الطّفل كالمرآة؛ ينعكس عليها كلّ ما يحيط بها.. حتّى الكبير يختلف سلوكه بين مجتمع وبين آخر، فكيف الصّغار!”([16]).
وكثيرًا ما يكون الإلحاد حاضرًا لدى ضعيفي النّفوس تأثّرًا بملحدين شديدي الحضور، ولا سيّما إذا كانوا من الأصدقاء أو المعلّمين الملحدين ذوي السّطوة، فيسري الإلحاد سريانًا انفعاليًّا، ويكون الإلحاد عندها مرضًا مُعديًا، حاله حال الأمراض المُعدية وقد قيل:
عاشِر أخا الدِّين كي تحظَى بصُحبَتهِ | فالطّبعُ مُكتسَبٌ من كلّ مصحوبِ | |
كالرِّيح آخِذةٌ ما تمرُّ به | نتنًا من النَّتنِ أو طيبًا من الطِّيبِ | |
ا تجلِس إلى أهل الدّنايا | فإنّ خلائِقَ السُّفهاء تُعدِي |
2- وقد ساهم في تقوية الإلحاد وانتشاره الخلفيّة الضّعيفة عند بعض المؤمنين؛ بحيث يكونون سريعي التّأثّر بأيّ فكرة غربية لأنّها غربية، وكذلك سطوة العلمانيّة الملحِدة والمحايدة عالميًّا على المناهج التّربوية والقوانين الاجتماعيّة والسّياسيّة، وتوفير الإعلام المساعد على تفعيل الغريزة والشّهوة بدون ضوابط ولا حساب، ووجود خلل لدى الكثير من المتديّنين وتحميل الدّين تبعات الخلل؛ كالظّلم والجهل والكسل، وتطبيق الدّين بفهم منحرف، والضّعف الفكريّ في ردّ الشّبهات، والدّخول في نقاشات غير متكافئة مع الملحِدين، والقصور في نظام الوعظ والدّعوة، والمتابعة الدّينيّة والرّوحيّة والفكريّة لدى الشّباب، والاكتفاء أحيانًا بطروحات جافّة أو مواعظ ينقصها التّجديد والإبداع، وجمود الدّرس العقائديّ، وطرحه الموضوعات التّقليديّة المتكرّرة دون قدرة على تجديد نفسه ليواكب المستجدّات الإشكاليّة المتسارعة.
خامسًا: مناشئ لَبُوس الإلحاد ومظاهره
الأوّل: اختلاق عوامل نفسيّة للإيمان من قبيل الخوف والجهل والغرور
أ- جاء في قصّة الحضارة: “… الخوف -كما قال لوكريشس- أوّل أمّهات الآلهة وخصوصًا الخوف من الموت… وتعاونت عوامل عدّة على خلق العقيدة الدّينيّة؛ منها الخوف من الموت، وكذلك الدّهشة لما يسبّب الحوادث الّتي تأتي مصادفة، أو الأحداث الّتي ليس في مقدور الإنسان فهمها …”([17]).
ب- يقوم المنطق الإيمانيّ على التعلّق بالله من خلال الفطرة والعقل عبر قانون العلّيّة، وقانون العلّيّة هو علم، فيحصل التّلازم بين العلم بالسّببيّة والعلم بالله تعالى. ومن هنا، يتمّ الجزم بأنّ الإيمان يدور مع العلم حيثما دار، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾([18])، وقوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾([19]). لذا، فالمؤمن لا يثبت وجود الله تعالى عند عدم العلم بعلل الحوادث؛ بل يسير من العلم بالمعلول إلى العلم بعلّته.
وبناءً على ثابتة أنّ التّديّن فطريّ، فإنّ ذلك يستلزم بطلان العوامل الأخرى العرَضيّة المتنافية مع أصالة الفطرة من قبيل “نظريّة الخوف من الحوادث” و”نظريّة الجهل بالعلل”؛ وذلك لاستحالة صدق المتقابلين معًا في وقت واحد من جهة واحدة. وعلى أساس نظريّة الخوف يكون الإلحاد صديق الخوف والجهل، وهذا يعني أنّ الإلحاد يدور مدارهما.
وقد أكّد القرآن الكريم التّلازم بين الإيمان والاطمئنان، حيث قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ﴾([20])، وقال: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾([21]).
ويوجد خلط بين المنبّه والمنشأ؛ فالخوف يمكن أن يكون منبّهًا للإيمان ومحفّزًا للفطرة، فعندما تحجب الذّنوب نور الفطرة ويغفل القلب عن الله تعالى، تأتي لحظة الخوف لتزيح كلّ ما هو دنيا على القلب فيعود نور الفطرة ليشعّ من جديد. قال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾([22])؛ فالخوف كان محرّكًا.
من جهة أخرى، بناءً على كون الخوف منشئًا للإيمان، يلزم كون الأكثر خوفًا ورعبًا هو الأكثر إيمانًا؛ وهذا مخالف للواقع والتّاريخ، فالواقع والتّاريخ يقولان: إنّ الأكثر إيمانًا هو الأكثر علمًا، كما أنّ الأكثر إيمانًا هو الأكثر شجاعة. ومن باب المثال، فأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وبإجماع أمّة الإسلام، كان الأكثر إيمانًا وعلمًا وشجاعة، وهذا يجري مع أتباعه وعشّاقه.
الثاني: تقديم الشكّ بلسان الإلحاد
أ- النّقطة المقابلة للإلحاد بمعنى “نفي الإيمان” هي الإيمان بالله تعالى، وهو أمر وجوديّ. وقد يكون الإلحاد بمعنى “عدم الإيمان”، لا نفي الإيمان، وهذا مرجعه في جوهره إلى الشّكّ، والشّكّ يمكن تقديمه بلبوس العلم، غير أنّ مرجع الشّكّ إلى الجهل؛ لأنّ الشّكّ حالة من التّردّد الّتي لا تستقرّ على قرار، وقد جعل علماء المنطق الشّكّ مندرجًا تحت الجهل.
ب- ليست المشكلة في وجود الشّكّ كحالة تردّدية طريقيّة، فهي حالة إنسانيّة تحصل عندما يكون المرء في طور البحث؛ بل ومن خلال الشّكّ تتولّد الأسئلة الّتي تُصدِّع الموضوعات والمسائل، وتفتح آفاقًا واسعة للبحث فيها، فالشّكوك العلميّة تلعب دور تكثير الاحتمالات وتوسيع مديات المسائل. وعليه، فالشّكوك الدّافعة إلى التّحقيق والدّقّة هي شكوك قيّمة، وبنّاءة، لأنّها مقدّمة لليقين.
غير أنّ المشكلة تكمن فيما لو بقي الشّاكّ عند شكّه، بحيث صار الشّكّ نقطة البداية ونقطة النهاية، فأعود إلى حيث بدأت، عندها سيتحوّل من حالة طريقيّة إلى حالة موضوعيّة، فيكون الشّكّ من أجل الشّكّ؛ عندها سيجلب الشّكُّ الشّكَّ، فيتكثّر الجهلُ بالجهل، وهذه حالة مَرَضيّة مذمومة. لذا، اعتبر الشّيخ مطهّري أنّ “الشّكّ منعطف ومَعبَر رائع، لكنّه منزل ومقام سيّئ”([23]).
وقد خيضت معركة “نظريّة المعرفة” في مواجهة التّشكيك الّذي بُنيت عليه فلسفات، “وتوسّع بعض كتّاب الفلسفة فيه حتّى اعتبروا المثاليّة وصفًا لكلّ فلسفة ترتكز على الشّكّ، أو تنطوي على محاولة لإبعاد جانب من الأشياء الموضوعيّة عن نطاق المعرفة الإنسانيّة، أو تؤمن بمبدأ غيبيّ للعالم. فالرّوحانية، واللّاأدريّة، والتّجريبيّة، والعقلانيّة، والنّقديّة، والظّاهراتيّة الوجوديّة، كلّها فلسفات مثاليّة في زعمهم”([24]).
ج- من جهة أخرى، فإنّ ما عزّز حالة الشّكّ في النّفوس، وجعلها تتّخذ موقفًا من الدّين، وتجنح نحو رفضه، هو الطّفرة العلميّة والتّقنيّة. وذلك أنّه إذا تبنّى الجانب الدّينيّ العلمَ فسوف ينصبغ بصبغته، ولمّا كان الدّين مقدّسًا، فإنّ ما يتبنّاه سيصير مقدّسًا بالتّبع. وبالتّالي، فإنّ الرادّ على العلميّ حينئذٍ يكون رادًّا على الدّين.
وتاريخيًّا، كانت الكنيسة قد تبنّت بعض النّظريّات العلميّة الّتي طرحها العلم آنذاك، غير أنّ العلم الّذي أثبت نظريّة ذات يوم عاد نفسُه ونقضها فيما بعد، ومن تلك النظريّات الّتي عاشت قرونًا مديدة النّظريّة الفلكيّة لبطليموس. ولمّا كانت تلك النظريّة ثابتة في أذهان حامليها ثبوتًا تقديسيًّا ودائميًّا لانصباغها بالدّين، قام العلم، وبلحظة واحدة، بنسفها نسفًا، وهذا الأمر أحدث ردّة فعل تشكيكيّة مزلزلة بكلّ ما هو دينيّ.
وبالتّالي، أخذت موجة من الرّفض لكلّ ما هو دينيّ تنتشر؛ يقول الشّيخ مصباح اليزديّ: “منذ القرن الرّابع عشر الميلاديّ، بدأ عصر آخر في أوروبا، رافقه تحوّل ثقافيّ وتغيّر أساسيّ في القناعات والقيم”. و”كما أشرنا من قبل، فقد أبدت الكنيسة مقاومة تتّسم بالتّعصّب، وسلك أرباب الكنيسة مع العلماء سلوكًا يتّصف بالخشونة، وقد أدّى هذا كلّه إلى ظهور آثار معكوسة… وقد بلغ الشّكّ في أنفس العلماء ذروته، إلى الحدّ الّذي أنكر فيه عالم كبير مثل )مونتن( قيمة العلم والمعرفة… وبهذا بدأت مرحلة أخرى من مراحل اتّجاه الشّكّ”([25]).
الثالث: تصوير “أنّ الله تعالى جزء من أجزاء العالم”
أ- هنا تكمن مشكلة كبيرة، فمنذ البداية، إذا كنتُ أرى الله كشيء من الأشياء فلن أصل إلى الله تعالى، فإنّ أشياء العالم الماديّ أشياء محدودة بحدود المادّة، والأمور المحسوسة مقيّدة بقيود الحسّ، ولا يمكن قراءة النّظام الوجوديّ بقيود عالم الحسّ؛ فالأضعف وجودًا لا يمكن أن يحيط بالأقوى والأشدّ وجودًا. وبالتّالي، من غير الممكن أن يحيط عالمُ الشّهادة بعالم الغيب؛ بلحاظ أنّ عالم الشّهادة معلول لعالم الغيب، ويستحيل أن يكون المعلول أشدَّ من علّته.
ب- بناء على ذلك، لا يمكن البحث عن الله تعالى بين أجزاء العالم؛ لأنّه تعالى ليس جزءًا منها، والبداية الخاطئة لن توصل إلى نتيجة صحيحة؛ فإذا كانت البداية خاطئة فالنّتيجة ستكون خاطئة، لتبعيّة النتيجة لمقدّماتها. وعلى ذلك، فإن قصدنا البحث عن الله تعالى في صفحتيّ الزّمان والمكان فلن نجد الله تعالى؛ لأنّه ليس موجودًا زمانيًّا ومكانيًّا؛ بل هو خالق الزّمان والمكان. فإن كان الذّهن مُشبعًا بالزّمان فلن يصل إلى الله؛ لأنّ الزّمان هو وليد حركة المادّة، فحيث تتواجد مادّة يتواجد زمان، وحيث لا مادّة فلا زمان.
وعليه، يكون الزّمان مقدار الحركة، وظرفيّة الزّمان للأشياء ليست كظرفيّة وعاء الماء للماء؛ فهو ليس كسائر الأشياء، ولا يمكن إثبات الزّمان كما تثبت العناصر في الطّبيعة، كما لا يكتشف الزّمان من خلال الملاحظة والتّجربة؛ فالزّمان ليس جزءًا مرئيًّا من أجزاء العالم.
سأل رجل أمير المؤمنين عليه السّلام: أين المعبود؟ فأجاب عليه السّلام: لا يُقال له أين؛ لأنّه أيّن الأينيّة، ولا يُقال له كيف؛ لأنّه كيّف الكيفيّة، ولا يُقال له ما هو؛ لأنه خلق الماهيّة. سبحانه من عظيم تاهت الفطن في تيّار أمواج عظمته، وحصرت الألباب عن ذكر أزليّته، وتحيّرت العقول في أفلاك ملكوته”([26]).
ج- نعم، يمكن البحث عن الزّمان كامتداد للأشياء لا كمنعزلٍ عنها، فالزّمان ليس بعض الوجود إلى جنب الأشياء؛ بل هو امتدادٌ وبعدٌ كالأبعاد الثّلاثة، ولا تنفصل الأبعاد عن بعضها. وعليه، فلن يوجد الزّمان في عرض الظّواهر الأخرى، مع أنّ للزّمان حدًّا والله تعالى ليس له حدّ، فوجوده تعالى غير محدود وليس في عرض الموجودات الأخرى، فهو أوّل الموجودات جميعًا وآخرها جميعًا، وصدرت منه تعالى وإليه تعود. إنّ البحث عن الله بحث عن “الحقيقة الكاملة واللّامحدودة، لا بحث عن شيء بين سائر الأشياء في العالم… لأنّ لله تعالى وجود سعي كلّيّ محيط بكلّ شيء… فلا يصحّ إدخال الزّمان والمكان في مسألة التّوحيد”([27]).
وربّما يتوهّم متوهّم أنّ الله في طرف من أطراف العالم، أو في الفضاء مثلًا، لكنّها حتمًا بداية خاطئة؛ “فمهما سرنا نحو الفضاء” سوف يكون محلّنا من الله هو محلّنا من النّقطة الّتي انطلقنا منها([28]).
الرابع: التّفكيك بين العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة
عند تتبّع كلمات الملحدين تجد سطحيّة في فهم النّظام العلّيّ السّائد في العالم، وفق قوانين العلّيّة لدى الحكماء. ويُرجع بعضهم أصل العالم إلى المادّة، بناء على الاعتراف بالعلّة الفاعليّة دون العلّة الغائيّة؛ فهو لا ينكر مبدأ النّظام، لكنّه يردّ النّظام إلى المادّة؛ فالاختلاف بين الماديّ والإلهيّ لا يرتبط بإنكار الماديّ للعلّة الفاعليّة، غير أنّ الاختلاف يعود إلى العلّة الغائيّة؛ فالماديّ ينكر العلّة الغائيّة من الأساس، أمّا الإلهيّ فيعتقد أنّ نَظْم العالم لا يمكن توجيهه إلّا بالقول بالعلّة الغائيّة. وهنا يوجد ثلاثة أمور:
أ- المادّة موجود ميتافيزيقيّ، فالمادّة ليست شيئًا محسوسًا؛ وبالتّالي لا يمكن الجمع بين أن أكون ماديًّا وفق المذهب التجريبيّ وبين القول بوجود المادّة؛ وهذا ما أشار إليه الشّهيد الصّدر في “فلسفتنا” عندما تحدّث عن عجز المذهب التجريبيّ عن إثبات المادّة بالتّجربة الخالصة، معتبرًا أنّ “كلّ ما يبدو للحسّ في المجالات التجّريبيّة إنّما هو ظواهر المادّة وأعراضها، وأمّا نفس المادّة بالذّات -الجوهر الماديّ الّذي تعرضه تلك الظّواهر والصّفات- فهي لا تدرك بالحسّ، فالوردة الّتي نراها على الشّجرة أونلمسها بيدنا إنّما نحسّ برائحتها ولونها ونعومتها… ولا نحسّ في جميع تلك الأحوال بالجوهر الّذي تلتقي جميع هذه الظّواهر عنده، وإنّما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقليّ يرتكز على المعارف العقليّة الأوليّة… ولأجل ذلك أنكر عدّة من الفلسفة الحسّيّين التّجريبيّين وجود المادّة”([29]).
ب- ليس كلّ من ردّ نشأة العالَم إلى المادّة كان ماديًّا، وهذا ما لفت إليه الشّيخ مطهّري مقدّمته على كتاب “أصول الفلسفة والمنهج الواقعي” معتبرًا أنّ “المنكرين كانوا على الأغلب أفرادًا مشكّكين. نعم، برز اتّجاه ماديّ على صور المذهب الفلسفيّ في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر في أوروبا، لكنّه “لم يطل كثيرًا، فقد واجه في القرن العشرين اندحارًا مريعًا”([30]).
وقد أكّد الشّيخ مطهريّ على بيان الخطأ الّذي وقع فيه المادّيّون من عدّ فلاسفة اليونان مادّيّين، والشّبهة تكمن في اعتبار الفلاسفة الطّبيعيّين مادّيّين، من قبيل أنّ الفيثاغورسيّين اتّخذوا من العدد أساسًا للعالم، أو أنّ الماء مادّة الموادّ كما ذهب طاليس، أو النّار كما لدى هرقليطس، أو أنّها الهيولى المبهمة كما قال أنكسمندروس… معتبرًا أنّ كلّ هؤلاء الحكماء قد فسّروا حوادث الطّبيعة بالعلل الطّبيعية، غير أنّ هذا شيء وإنكار عالم ما وراء الطّبيعة شيء آخر؛ بل لا يوجد دليل على إنكارهم، قاطعًا بأنّه ليس كلّ من ذهب إلى المادّة الأولى ماديًّا، وإلّا يلزم من ذلك “أن نعدّ كلّ الفلاسفة الإلهيّين كسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والفارابيّ، وابن سينا، وصدر المتألّهين، وديكارت مادّيّين؛ بل أن نعدّ كلّ الأنبياء وأئمّة الدّين مادّيّين”.
ثمّ يخلص إلى أنّ الوجه في اشتباه المادّيّين هو عدم استيعابهم قضايا الإلهيّات، مع إشارته إلى أنّ كلمات هؤلاء الحكماء لا تخلو من الرّمزيّة، ولا يمكن حملها على دلالتها الظّاهريّة، ذاكرًا كلامًا للملّا صدرا، يعتبر فيه أنّ كلمات السّلف ونصوصهم تتضمّن رموزًا وأسرارًا لم يُدركها رواة هذه النّصوص”([31]).
ج- يوجد تلازم بين العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة، وبناءً على ذلك لا اتّفاق في الوجود. وهذا ما تناوله العلّامة الطّباطبائيّ؛ فلكلّ فاعل غاية بحسبه، فإذا كان من الفواعل الطّبيعيّة تكون غايته هو ما تنتهي إليه الحركة، وإن كان الفاعل فاعلًا إراديًّا فإن كان المبدأ البعيد فكريًّا، فغايته عقلائيّة، وإذا لم يكن فكريًّا فلا يجب أن تكون له غاية عقلائيّة.
قال العلّامة الطّباطبائيّ في تعريف العلّة الغائيّة: “هي الكمال الأخير الّذي يتوجّه إليه الفاعل في فعله”، فهي مترتّبة على الفاعل، ثمّ يقول: “فإن كان لعلم الفاعل دخل في فاعليّته كانت الغاية مُرادة للفاعل في فعله… وإن لم يكن للعلم دخل في فاعليّة الفاعل كانت الغاية ما ينتهي إليه الفعل، وذلك: أنّ لكمال الشّيء نسبة ثابتة إليه”([32]).
الخامس: تصوير الله تعالى بصور البشر
يقول الشّيخ مطهّري: “والحقّ أنّ قراءة دراسات المادّيّين توضح بجلاء أنّ هؤلاء لا يملكون تصوّرًا سليمًا عن وجهات نظر الفلاسفة الإلهيّين والرّوحيّين، وعن تصوّراتهم بشأن الله والرّوح وسائر المواضيع، ولا تتعدّى معلوماتهم السّواد العامّ بشأن الرّوح والجنّ والعنقاء وغيرها”([33]).
ربّما يكون من الأخطاء الكبيرة عند تشكيل المفاهيم عن الله تعالى قياس الخالق على المخلوق، أو طرح المجرّد على صورة المحسوس، وكثيرًا ما ينعكس هذا سلبًا في البناء الدّينيّ للهُويّة الدّينيّة لدى الأطفال.
أ- إنّ تعليم الأطفال الصّغار وتقريبهم لله يتمّ من خلال ما يجدونه في نفوسهم من صور حسّيّة، فإن لم تتنامَ المعرفة العقائديّة وَفق تنامي المُدركات لدى الإنسان، فإنّه، ومع مرور الزمان، قد تترسّخ الصّورة الّتي تمّ طرحها عن الله أيّام الطّفولة؛ تترسّخ كمعبّر عن الله. فبينما كان التّشبيه يلعب دورًا تقريبيًّا للمشبّه من خلال المشبّه به؛ أي بتشبيه الله تعالى بالمحسوس، ينقلب الدّور ليصير المحسوس هو التّعبير عن الإله، ويصير المشبّه به عين المشبّه. وهذا يستلزم تشكيل مفاهيم عن الله تعالى لا تليق بالله، ولا تصحّ نسبتها إليه.
ب- سوف تشتدّ الإشكاليّة أكثر عند تحقّق النّضوج الذّهنيّ والعلميّ لدى الصغار، ويبرز الميزان المنطقيّ الفطريّ والعقليّ لديهم، عندها سيكتشفون أنّ صورة ذلك الإله ليست متناسبة مع الموازين المنطقيّة. فمن ناحية إنّ ما حملوه يأخذ صبغة مقدّسة؛ لأنّ محوره الله تعالى، ومن ناحية أخرى فإنّ هذا المقدّس الذهنيّ يجزم العقل باستحالته، وهذه إحدى الصور الّتي تتبدّى عندما يكون العمر العقائديّ صبيانيًّا ساذجًا، والعمر البيولوجيّ ناضجًا، عندها سيرفض تلك الصّورة، فإن لم يكن محصّنًا بالنّظرة الصّحيحة إلى الله تعالى فلا شكّ عندها في أنّ الأمر سيؤول إلى الرّفض والإلحاد.
السادس: تقديم الدّين بصورة وحشيّة
أ- إنّ تقديم الدّين بصورة الشدّة والعنف والقتل يهدف إلى تنفير النّاس من الدّين؛ فبينما كان “السّلام” اسمًا من أسماء الله تعالى، وكانت الأصالة للرّحمة “يا من سبقت رحمته غضبه”، وكانت القاعدة في العلاقة مع الآخر هي الحوار والجدال بالّتي هي أحسن ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([34]).
أضف إلى ذلك، أنّ كلّ السور القرآنيّة، باستثناء واحدة، بدأت بالرّحمة الرّحمانيّة والرّحيميّة؛ فالرّحمن الرّحيم هما “من الرّحمة ومن مشتقّاتها، ورحمته عزّ وجلّ أعمّ صفاته، وأوسعها، شملت جميع ما سواه؛ قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾([35]). فكلّ ما يطلق عليه شيء في عوالم الإمكان يكون من رحمته تعالى”([36]).
ب- وبالتّالي، يقتضي الإنصاف عرض الدّين بوجهه الجميل الآخذ بيد الإنسانيّة إلى كمالاتها، والمُخرِج لها من الظّلمات إلى النّور؛ بأن يُعرض الدّين من داخله لا من خلال ما يُراد توظيفه. لكن لمّا كان الهدف تشويه الدّين باسم الدّين، وعرض مفاهيمه مع كلّ تلك الوحشيّة القاتمة -كما تعمّدت فعله الجماعات الإرهابيّة التّكفيريّة-، فإنّ ذلك كلّه سيؤول حتمًا إلى رفض الدّين والجنوح نحو الإلحاد.
إنّ الدّين الّذي كان ينبغي أن يكون هاديًا ومبشّرًا بالمحبّة قد أصبح على هذه الحالة الآنفة، فكان تصوّر كلّ إنسان عن الدّين والله يعني العنف والضّغط والاستبداد. وواضح أنّ ردود الفعل لدى النّاس في قبال مثل هذه الأساليب لا يمكن أن تكون سوى رفض الدّين من أساسه، ورفض ما يشكّل حجر الأساس فيه؛ وهو الاعتقاد باللّه.
السابع: التّصوير السّطحيّ للدّين واستسهال الرّأي عند غير أهل الرّأي
أ- ربّما تتركّز مشكلة الفهم العامّي للدّين في أنّها سريعة الانتشار والذّيوع؛ وذلك لسهولة تلقّيها وتناولها وإبداء الرّأي فيها، فبينما يستغرق المجتهد أو المفسّر أو الحكيم أو المتكلّم عمرًا مديدًا حتّى يصل إلى مرحلة يستطيع فيها إنتاج معرفة دينيّة في مجال محدّد أو في موضوع واحد، يطيب لبعض السّذّج أن يبدوا رأيهم في عشرات المواضيع، بلا قراءات أو استدلالات.
ومن جهة أخرى، تكون المعرفة الّتي ينتجها العالم في أعلى مراتبها ممثّلة لوجهة نظره، من غير أن يدّعي أنّها الدّين المنزل؛ فهو يستعرض اجتهاده ووجهة نظره ورأيه في فهم الدّين، مع الالتفات إلى حدّه جيّدًا؛ فالنّصّ شيء والاجتهاد في فهم نصّ المعصوم شيء آخر.
ولمّا يطرح رأيه يطرحه بحسب ما توفّر لديه من أدلة، وبالتّالي تكون قوّة المعرفة المستنبطة تابعة لقوّة دليلها؛ فمرة يقينيّة وأخرى اطمئنانيّة، وثالثة ظنّيّة. وينعكس ذلك في التّعبير عن النّتيجة، فتارة يتمّ التّعبير عنها بالظّاهر، وأخرى بالأظهر، وثالثة بالقويّ، ورابعة بالأقوى، وخامسة بعدم البُعد، وهكذا…
والملفت، أنّ كثيرًا من العوامّ يُبدُون رأيهم في كلّ شيء، وبعضهم قد يكون مختصًّا بشيء ما، لكنّه بمجرّد أن يقرأ بعض التّفاسير والاستدلالات يسوِّغ لنفسه إطلاق وجهات النّظر والتّصوّرات بناء لما علق في ذهنه من المسائل الّتي حارت فيها أنظار العلماء، فيقتحم حيث توقفوا، ويتكلّم حيث سكتوا، وبتعبير الشّيخ مطهّري: “… فكلٌّ يمنح لنفسه الحقّ في إبداء نظره فيها، في حين أنّها -وبالخصوص المسائل الإلهيّة والتّوحيد- تعتبر من أعقد المسائل العلميّة الّتي لا يملك كلّ أحد حقّ إبداء النّظر فيها”، ثمّ يقول: “نعم، المعرفة العامّة والإجماليّة لله تعالى أمر فطريّ سهل… أمّا معرفة صفات الذّات الإلهيّة والتّحقيق فيها فليس أمرًا يمكن لكلّ أحد القيام به، والحال أنّنا نرى أنّ الكلّ يعتبرون أنفسهم من أهل النّظر في مثل هذه الأمور…”([37]).
ب- وبالتّالي، فإنّ ضعف الحجج الّتي يسوّقها الجاهلون غالبًا في ما يرتبط بالحكمة الإلهيّة، والعدل الإلهيّ، والقضاء والقدر الإلهيّين، والإرادة والمشيئة الإلهيّتين، والقدرة الكاملة، والجبر، والاختيار، وحدوث العالم وقدمه، والقبر، والبرزخ، والمعاد، والجنّة، والنّار، والصّراط، والميزان، وغير ذلك، “ضعف هذه الحجج، وظنّ المستمعون أنّ هذه الحجج هي تعاليم دينيّة أصيلة، وأنّ هؤلاء قد بلغوا أعماق تلك التّعاليم. ذلك كلّه يعتبر من الموجبات الكبرى للّجوء نحو المادّيّة”.
ويرتقي بعضهم ليكون مصداقًا لكلام أمير المؤمنين عليه السّلام: “إِنْ نَزَلَتْ بِه إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ الْمُعْضِلَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْوًا مِنْ رَأْيِه ثُمَّ قَطَعَ بِه فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ غَزْلِ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ… رَكَّابُ شُبُهَاتٍ خَبَّاطُ جَهَالاتٍ، لَا يَعْتَذِرُ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَسْلَمَ، ولَا يَعَضُّ فِي الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ فَيَغْنَمَ، يَذْرِي الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ…”([38]).
الثامن: نسبة الظلم إلى الله تعالى
أ- من وجوه الجهل والجنوح نحو الإلحاد نسبةُ الظّلم إلى الله تعالى. وهذا الشّقّ يمكن أن تتعدّد صوره، ومن تلك الصّور أنّنا عندما نرى الشّرور والمجازر الّتي يرتكبها البشر في الدّنيا تأخذنا إلى السّؤال عن العدل الإلهيّ، ولمّا يتمّ العجز عن وضع إجابة عن سؤال العدالة يسري الشكّ بالعدل الإلهيّ إلى الشّكّ بالله تعالى. وهذا ما دعا بعض الملحدين الجدد، وهو ستنجر، ليسمّيه بـ”معضلة الشّرّ”، فيقول:
- “إن كان الله موجودًا فصفات الله تتوافق مع وجود الشّرّ.
- صفات الله لا تتوافق مع صفات الشّرّ.
- لهذا فاللّه ليس موجودًا، ووجوده غير ممكن”.
القضيّة المتوهّمة هنا هي القضيّة الأولى، يعني كيف ربط ستينجر بين وجود الله تعالى وتوافق صفاته مع وجود الشّرّ؟! معتبرًا أنّ وجوده تعالى يقتضي وجود الشّرّ؛ وحتّى يتخلّص ستينجر من نسبة الشّرّ إلى الله تعالى قام بإنكار الله كليًّا! وذلك كمن أراد أن يكحل العين ففقأها؛ بل قلعها!
ب- هذا الشّكل من الحِجاج يُظهر مستوى السّطحيّة في تشكيل الحالة الإلحاديّة لدى هؤلاء.
ومن جهة أخرى، ما معنى مفهوم الشّرّ؟ هل هو أمر وجوديّ أو أمر عدميّ؟ وهنا يبدو بشكل واضح مستوى الضّعف في تحليل هذه المفاهيم، كما ويتّضح جليًّا مستوى الجهل بالرّؤية الفلسفيّة الإسلاميّة حول الله والعالم، وتفسير ظواهر العالم، وكيفيّة علاجها هذه الإشكاليّات. فمثلًا، من لم يفهم نظام الابتلاء بالمنطق القرآنيّ في عالم الدّنيا سيبدو له الابتلاء شرًّا كيفما نظر، وسيرى أنّ كلّ ما يحقّق الألم مجلبة للشرّ. ولكي يفهم موضوع الابتلاء أكثر، عليه أن يفهم علاقة العالم بالله تعالى وعلاقة الله تعالى به أكثر، وعليه أن يفهم أكثر علاقة الله بالإنسان من بين المخلوقات…
ولن يفهم علاقة الله تعالى بالعوالم إلّا من خلال الله، ولن يفهمها من خلال الله تعالى إلّا مع التّعرّف على الله تعالى، وصفاته، وأفعاله.
وبهذا، يتبيّن أنّ فهم المشهد هو فهم مترابط، فهو كالصّورة الّتي تتطلّب نظرة كلّيّة إليها كي تبدو كلّ معانيها. وعندما أجهل الله تعالى، سأجهل الصّورة بأجمعها، وسأغدو متخبّطًا في الشّكوك، وما لم ألتقط طرف الخيط سأبقى في التّيه.
وعندها لن أرى إلّا طرف أنفي؛ وذاك كالصّاعد إلى قمّة الجبل، عندما واجهته صخرة عظيمة ولم يحرّك عقله يمينًا ويسارًا سيقنع نفسه بأنّه وصل إلى قمّة الجبل.
التاسع: موت الأخلاق والهبوط الرّوحيّ
أ- يوجد نوع من الإلحاد يمكن أن يصدق عليه تعبير “الإلحاد العمليّ”، بحيث لو سألت هذا الشّخص عن وجود الله تعالى لأقرّ مباشرة، لكن في مسلكه يتعامل وكأنّه لا يوجد إله. وبتعبير آخر، يكون الإله بالنّسبة إليه مفهومًا ثقافيًّا معرفيًّا لا يتعدّى وجوده وجودَ الذّهن، وليس له أيّ فاعليّة أو تأثير في حياة أمثال هؤلاء؛ فهو يعتقد بوجود إله، لكنّه يسير في الحياة حيث تسير به الشّهوات.
فبينما يرى منطق الإيمان أنّه كلّما تمكّن الإيمان، وتعمّق في النّفس، كلّما استقام الإنسان في الحياة. ويوجد أكثر من خمسين آية كلّما ذكرت آمنوا قرنتها بعملوا الصّالحات؛ ممّا يدل على التّلازم بين الإيمان والعمل الصّالح. وهذا ما نراه في سورة العصر، وعشرات الآيات الأخرى ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
ب- ويمكن أن يُقرأ من هذا التّلازم المعادلة التالية: “أؤمن لأعمل الصّالحات، وأعمل الّصالحات لأؤمن”؛ وهذا ليس ضربًا من ضروب الدّور المستحيل؛ فإنّ الإيمان يستدعي العمل، كما أنّ العمل الصالح يعمّق الإيمان. وعليه، فكلّما ازداد الإيمان كثُر العمل، وكلّما ازداد العمل تعمّق الإيمان.
وكلّ رتبة إيمان تتحقّق بنوعيّة عمل معيّن؛ باعتبار أنّ الإيمان نوع من الوجود المشكّك الّذي تتفاوت فيه المراتب شدّة وضعفًا وقربًا وبعدًا. ولمّا كان كذلك، فإنّ الإيمان المتحقّق أوّلًا بالاطمئنان هو رتبة من مراتب الإيمان، لكنّها تطوي فيها إمكانيّة الرّتبة الأعلى.
وعندما يقترن الإيمان الأوّل بالعمل الصّالح، فيكون العمل الصّالح شرطًا وجوديًّا لفعليّة رتبة إيمان أعلى، تتحقّق الرّتبة الأعلى من السّابقة؛ وهي مرتبة أخرى من مراتب الوجود الإيمانيّ، وفعليّة هذه الرّتبة تطوي فيها قوّة الرّتبة الأعلى، وهكذا…
وكلّ رتبة إيمان بالقوّة يشترط في فعليّتها نوعية من العمل الصالح في خطّ المسير إلى الله تعالى. وبالتّالي، فليس في الأمر دور باطل، كما أنّه ليس من التّسلسل المحال.
ج- ونخلص إلى نتيجة ترى أنّ المنطق القرآنيّ يرى التّلازم بين الإيمان والعمل؛ وعندما يتحقّق ذلك التّلازم ستترتّب الآثار التّطهّريّة في الدّنيا على المستوى النفسيّ الدّاخليّ، وعلى المستوى الاجتماعيّ الخارجيّ؛ فتتشكّل السّجايا النّبيلة، والمَلَكات الفاضلة، وكذلك الآثار الأخرويّة على مستوى الفلاح والنّجاة.
بينما يفكّك منطق الإلحاد بين المعرفة للّه والعمل له، وهنا تقع المشكلة؛ لأنّ المعرفة الإلهيّة تحتاج إلى الجوّ الرّوحيّ والعمليّ المساعد، ولو لم يوجد مثل هذا الجوّ فإنّ نفس الجذور الأصيلة يصيبها الجفاف والفناء، تمامًا كالبذرة الّتي توضع في رحم الأرض؛ فهي تنمو وتترعرع إن صادفت الجوّ المساعد، وإلّا فإمّا أن تيبس أو أن تؤثّر في محيطها غير الملائم. من هنا، يرى الشّيخ مطهّري أنّ “التّوحيد يقتضي أرضيّة مساعدة للتّعالي ليعمل هو على ترجيح كفّة الرّوح ليجعلها منسجمة مع الأهداف الحياتيّة الكبرى… ومن هنا، نجد أنّ المجتمع المائل نحو الشّهوات تموت فيه السّجايا الإنسانيّة، ويعود الإنسان فيه غارقًا في خضمّ الأخلاق السّيّئة. وهذا هو السّبب الأصيل –في الواقع- لانهيار المجتمعات والحضارات..”([39]).
([2]) مرتضى مطهّري، الدّوافع نحو الماديّة، ص 20.
([4]) محمّد حسين الطّباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 31.
([5]) محمّد بن جلال ابن منظور، لسان العرب، ج 3، ص 389.
([6]) محمّد حسين الطّباطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ج 1، ص 49.
([7]) عمر شريف، الإلحاد مشكلة نفسيّة، ص 12.
([9]) محمّد بن الحسن الطّوسيّ، التّبيان في تفسير القرآن، ج 2، ص 407.
([11]) مرتضى مطهّري، الرّؤية الكونيّة التّوحيديّة، ص 9.
([12]) سورة الأعراف، الآية 179.
([13]) سورة الفرقان، الآية 44.
([14]) الصّحيفة السّجاديّة، دعاؤه في التّحميد لله والثناء عليه.
([16]) محمّد جواد مغنيّة، التّفسير الكاشف، ج 7، ص 432.
([17]) ويل ديورانت، قصّة الحضارة، المجلّد الأوّل، ص 99.
([19]) سورة المجادلة، الآية 11.
([20]) سورة الأنعام، الآية 82.
([23]) مرتضى مطهّري، الدّوافع نحو المادّيّة، ص 20.
([24]) محمّد باقر الصّدر، فلسفتنا، ص 162.
([25]) محمّد تقي مصباح اليزديّ، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ج 1، ص 30.
([26]) الفتّال النّيسابوري، روضة الواعظين، ص 37.
([27]) مرتضى مطهّري، التّوحيد، ص 27.
([29]) محمّد باقر الصّدر، فلسفتنا، ص 118.
([30]) محمّد حسين الطّباطبائيّ، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ج 1، ص 49.
([31]) محمّد حسين الطّباطبائيّ، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ج 1، ص 52.
([32]) محمّد حسين الطّباطبائيّ، بداية الحكمة، ص 119.
([33]) محمّد حسين الطّباطبائيّ، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ص 150.
([34]) سورة العنكبوت، الآية 46.
([35]) سورة الأعراف، الآية 156.
([36]) عبد الأعلى السّبزواري، مواهب الرّحمن في تفسير القرآن، ج1، ص 17.
([37]) مرتضى مطهّري، الدّوافع نحو المادّيّة، ص 93.
([38]) محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي في الأصول والفروع، ج 1، ص 55.
الإلحاد الجديد: قراءة نقديّة في البنى الإبستمولوجيّة
إنّ القول بانحصار الواقعيّة في عالم المادّة، بما في ذلك المعرفة، يجعل "الكلّيّات" خارجة عن…