شذوذ أم مثليّة؟
د. أحمد الشّامي[1]
إنّ تطويع الطّبيعة ليس كالخروج من قوانينها؛ ففي الأولى استجابة لمطلب وجوديّ يحقّقه العقل، بوصفه المعطى الأهمّ في الحياة، حين ينطلق باحثًا عمّا يعين الإنسان كي يحفظ الجنس البشريّ، ويشبع ميوله ورغباته المتصاعدة. كما يحقّق له التّمايز عن سائر الكائنات الحيّة؛ حيث إنّ التّطلّع إلى ارتقاء وبلوغ مصافّ الكمال، يؤمّن له تأكيد جدارته بمكانة السّيادة على الأرض وما تذخره من غنًى هائل في الموارد التي لا يمكن تسخيرها إلّا بعقل يعي فنّ التّعامل مع التّحدّيات.
أمّا الخروج عن قوانين الطّبيعة، ففيه انحراف في وعي الإنسان عن الحركة الكونيّة التي يستحيل انتظامها من دون حاكميّة قوانينها؛ حيث إنّ الإخلال بما يتّصل بأحد أهم عناصرها- الحياة البشريّة- يأخذها نحو العبثيّة، وحتميّة هبوط مسارها إلى ما دون مستوى الحيوان من حيث النّوع والدّور. فمنذ بداية وجودنا على هذا الكوكب، إناثًا وذكورًا، كنّا– وما نزال- نتكامل بأدوار لم نكتبها، أو نقرأها من قبل؛ لأنّها مجرّد استجابة غير إراديّة لطبيعتنا الأولى التي استطعنا بفضل عنصر تمايزنا؛ أي عقلنا، أن نضيّق مساحات الجهل بقوانينها، لنتمكّن من توسيع دائرة التّمايز بيننا، كوننا جنسين، ما أدّى إلى منح معنى لوجود كلّ منّا، وقيمة عليا لهذه الثّنائيّة التي من الممكن، غدًا، أن تكون مهدّدة بسبب اقترابنا الشّديد إلى حدّ الالتصاق، أو ابتعادنا، إلى حدّ الغربة والفراق؛ حيث أدركنا، ونحن نسبح بتناغم في فلك بعضنا البعض، أنّنا الثّنائيّ الأهمّ والأجمل في الحياة.
لقد كنّا دائمًا- البشريّة بشكل عامّ- على اختلاف ثقافاتنا، نشيح بنظرنا، وأفئدتنا عن الذي يشذّ عن هذه العلاقة الثّنائيّة- الذّكر والأنثى- فتُضاف صفة الشّاذّ والمنحرف إلى سجلّ هويتّه، وهذا ما يُدخله في دائرة الحجر المجتمعيّ، بوصفه مظهر فساد يستوجب التّيقّظ لحجم مخاطره. وليس هناك ما هو أكثر بلاغة من اتّفاق الدّيانات السّماويّة على تجريم هذا الفعل؛ حتّى إنّ العلوم العصريّة– علم النّفس منها- رأت في البداية، أنّ الذي يمارس نشاطًا جنسيًّا، لا يتّفق مع الثّقافة والأعراف العامّة للمجتمع، هو شاذّ ومنحرف.
من هنا، تفرض الموضوعيّة الإقرار بأنّ هذا الموقف الجمعيّ ما يزال مصرًّا، بأغلبيّته السّاحقة، على عدّ هذا الميل الجنسيّ، شذوذًا، ومخالفةً للطّبيعة البشريّة، كما تفرض القول: إنّ ذلك قد أسهم حتّى الآن، بشكل لا لبس فيه، في محاصرة هذه الظّاهرة والحؤول دون تفشّيها، وإن لم يقض عليها؛ حيث ما من عاقل يدّعي بأنّ أيّ موقف رفضيّ مهما بلغت مستوياته، يستطيع أن يلغي ظاهرة انحرافيّة ما، في المجتمع. لكنّ التّهاون في هذه المسألة خطير، لا سيّما، وسط ما نشهده من اهتمام لافت ومتنامٍ بظاهرة الميل الجنسيّ الشّاذّ، والانحرافيّ. وهذا ما يطرح علامة استفهام كبرى، وتحديدًا، حول المسوّغات المنطقيّة لجعل هذا الميل طبيعيّ(مثليّة).
إنّ أولى دوافع هذا الموقف الاستفهاميّ تأتي من فرض التفسير الحصريّ لنشوء هذا الميل من خلل جينيّ تكوينيّ؛ لذلك يصبح من الظّلم معاقبة هذا الإنسان على أمر ليس من اختياره، وتاليًا، كيف يعاقب على تجاوبه مع أمر قد غرس فيه؟!!!.
يمكننا الجزم كلّيًّا، أنّ العلم لا يعترف بهذا التّفسير للميل الجنسيّ الشّاذّ؛ إنّما يقرّ بوجود تفسيرات أكثر. فالدّراسات العلميّة تشير إلى أنّ جانبًا من حالات الانحراف الجنسيّ هي ميل اختياريّ إراديّ، وبعضها نتاج اعتداء جنسيّ سابق؛ حتّى الحالات التي توصف بأنّها ميول جنسيّة غير إراديّة- ذات الصّلة بالجانب التّكوينيّ والوراثيّ- ما تزال تصنَّف على أنّها: حالات مرضيّة تستوجب العلاج، شأنها شأن العديد من الميول الانحرافيّة لدى الإنسان، والتي يجهد العلم لإيجاد سبل معالجتها، أو الحدّ من تداعياتها[1].
من الثابت أيضًا، بروز تفسير يشير بوضوح إلى أنّ هذا الميل هو في بعض جوانبه، انعكاس لهوس جنسيّ، بمعنى الرّغبة في تجرّبة أشكال العلاقات الجنسيّة كلّها. لا سيّما، في ظلّ التّرويج النّشط لهذا الميل، وفي ما يشبه إلى حدٍّ بعيد، ما تستحدثه الميديا من ميول ورغبات عند الإنسان، حيث تجعلها أحد مظاهر الحداثة. فمن اللّافت هنا بوضوح، حجم التّرويج الممنهج لتضخيم هذه الظّاهرة؛ حيث لا يوجد، حتّى هذه اللّحظة، أيّ إعلان صريح عن عدد من لديهم هذا الميل في العلاقة الجنسيّة، وتحديدًا، في الدّول التي تتساهل قانونيًّا في التّعامل معها؛ حتّى لا يقال: إنّ السّبب الأساس لعدم توافر الإحصائيّات، هو الخوف من العقاب. كما أنّ الاهتمام الكبير الذي تعتمده المنظّمات الدّوليّة في ضغطها على المجتمعات، الحكومات، ووسائل الإعلام من أجل تحويل ظاهرة هذا الميل الجنسيّ إلى قضيّة إنسانيّة عالميّة، لافت جدًّا. وبدلًا من تركيز الجهود لتجزءة هذه الظّاهرة وإيجاد العلاج لها واحتواء روافدها، تسخّر القوانين والنّفوذ الأمميّ والموارد لجعلها أمرًا طبيعيًّا، وشكلاً من أشكال الانتظام الاجتماعيّ الحديث، ووسم أيّ موقف رفضيّ لها بأنّه خروج عن الإنسانيّة.
وفي ما يزداد نشاط الدّاعمين والمتعاطفين مع هذا الميل الانحرافيّ في العلاقات الجنسيّة، يجدر بالمتحسّسين خطورته، عدم التّهاون. وذلك من خلال المقترحات الآتية:
أوّلًا: دعوة المتخصّصين في علم النّفس والعلاج النّفسيّ والأمراض الوراثيّة، لتقديم إسهاماتهم البحثيّة من أجل تضييق مساحة الغموض في مقاربة ظاهرة الانحرافات الجنسيّة، والسّعي الجديّ لرسم الخطّ البيانيّ بين ما هو غير إراديّ قهريّ وإراديّ اختياريّ.
ثانيًا: في ظلّ تعدّد التّفسيرات لهذه الظّاهرة، يصبح وصفها بالمثليّة وليس الشّذوذ فعلًا تضليليًّا، لا يقارب الحقيقة والموضوعيّة. وتعدّ أيّ وسيلة تسويقيّة لهذا الوصف شراكة في التّعمية على الحقيقة وتضليل الرّأي العامّ؛ ما يستدعي أن يتحرّك صنّاع الرّأي لتقديم المقاربة الموضوعيّة المطلوبة، وكيفيّة التّعامل معها.
ثالثًا: أيًّا تكن دوافع هذا الميل، فمن الواجب، العمل على التقرّب من ممارسيه، وتحديدًا من علماء الدّين[2]، للتعرّف أكثر إلى دوافعهم، ومدّ يد المساعدة لإخراجهم من هذه الحال، بدلًا من المسارعة لرسم حائط مرتفع في وجههم ما قد يسهم فعليًّا في دفعهم نحو المزيد من التّمسك بميولهم.
رابعًا: تكثيف حال اليقظة والجهود لدى البرلمانيّين للحدّ من هذه الموجة المتسارعة، لفرض تعديلات قانونيّة وتشريعيّة، تجعل هذا الميل الجنسيّ الانحرافيّ ميلًا طبيعيًّا، بكلّ ما يستتبع ذلك من حقوق وواجبات ومندرجات، لا سيما تلك المتعلّقة باستحداث شكل جديد للزّواج والأسرة، خارج العلاقة الطّبيعيّة بين الذّكر والأنثى.
خامسًا: التنبّه الشّديد لما يجري من تسلّل لهذا الميل الجنسيّ بمفاهيمه ومصطلحاته وسلوكيّاته ضمن المناهج التّعليميّة، لا سيما الخاصّة بالأطفال.
تلك هي قصّة الصّراع الأزليّ بين الخير والشّرّ. وحين يتقاعس أهل الخير عن واجبهم، يستوهم أهل الشّرّ أنّهم على صواب، وعندها، ليس مستغربًا أن يصير الشّذوذ والانحراف فعلًا طبيعيًّا يستوجب التّأييد والحماية والثّناء.
[1]– كشفت دراسة علميّة أعدّها” روبرت سبيتزر” البروفيسور المتخصّص في الطّب النّفسيّ في جامعة “كولومبيا” في نيويورك تحت عنوان: “أدلة على فعاليّة إعادة توجيه العلاج للمثليين الجنسيين” أنّ الشّذوذ الجنسيّ يُعدّ مرضًا نفسيًا، وذلك في دراسة أنجزها في الموضوع سنة2001 وعرضها في المؤتمر السّنويّ للجمعية الأمريكيّة للطبّ النفسيّ، ونُشرت بعد سنتين في أرشيف السّلوك الجنسيّ في شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل سنة 2003 في الجزء 32 رقم 5 في 14 صفحة ما بين 403-417 بعدما رفضت الجمعية الأمريكيّة نشرها واعتماد نتائجها، وأثبت في هذه الدّراسة أنّ المثليين الجنسيّين يستطيعون بفضل العلاج تغيير ميولاتهم الجنسيّة المثليّة إلى ميولات جنسيّة غيريّة، وكشفت نتائج هذه الدّراسة أنّ نحو 200 فردًا من العيّنة التي أجرى عليها” روبرت” البحث من كلا الجنسين (147 من الذكور و57 من الإناث) إمكان تحويل الميول الجنسيّة من المثليّة إلى الميولات الجنسيّة الغيريّة نتيجة لخضوعهم علاج خمس سنوات أو أكثر.
[2]– كذلك أثبتت دراسة البروفيسور روبرت سبيتزر” أنّ غالبيّة الذين تغيّرت ميولهم الجنسيّة أكّدوا على دور الدّين في ذلك، 97% من خلفيّة مسيحيّة، و3% من اليهود، وأغلبيّة ساحقة 93% من جميع المشاركين أكدوا أنّ الدّين مهمّ للغاية أو مهمّ في تغيير سلوكهم الجنسيّ المثليّ. وخلصت دراسة” روبرت”، من خلال البيانات التي جُمعت بعد العلاج، إلى أنّ العديد من المشاركين شهدوا زيادة ملحوظة في وتيرة الارتياح العاطفيّ والجنسيّ بعد تحوّل ميولهم عن المثليّة إلى الغيريّة، في حين لاحظت الدّراسة –في حال المتزوجين- أنّ العلاقات الزوجيّة والعاطفيّة صارت أكثر وفاء.
[1] – أستاذ حوزوي وجامعي.
تمرير الشّذوذ الجنسيَّ في الأنمي والمانجا والألعاب الإلكترونيّة
مجتمعاتنا العربيّة، على مرّ التّاريخ عانت ما عانته من حروبٍ وتحدّيات عقيمة، ولكن ما نتعرّض…